كما يليق بيومٍ ساخن ..مصطفى عوض أديب مصري مقيم بتونس

شارك مع أصدقائك

Loading

كما يليق بيومٍ ساخن

مصطفى عوض

أديب مصري مقيم بتونس

 

حتى السجائر مغشوشة!

أرمي العقب بكل ما أملك من قوةٍ وأدعسه بغل.

مؤخراً صرت أستهلك ضعف حصتي المعتادة من الدخان، بمجرد أن أشعل لفافة التبغ لا أجدها، تذوب كقطعة مثلجاتٍ تحت أشعة شمسٍ لاهبة

-تباً للسجائر، ومن اخترعها، ومن ابتلانا بها

يضحك صاحبي وهو يراني أشعل لفافةً أخرى

-قلت لك، الشيشة لا يعلى عليها

يخرج سحابة دخانٍ من أنفه وفمه

-الشيشة مزاج، كيف المعلمين

أشيح بيدي، وأسحب نفساً عميقاً، يحرق صدري فأسعل حتى تدمع عيناي، يقهقه، ويمد لي كأس ماءٍ بارد

-أنت تلتهمها! بالراحة يا عم صحتك

أرتشف جرعتين وأقوم

-حاسب على المشروبات

-ابق قليلاً

-لا أستطيع..تأخرت

ألوح مودعاً وأنا أحث الخطى نحو محطة الحافلات القريبة.

منذ غيرت الصنف وأنا أشعر بدقٍ عنيفٍ في قلبي، وألمٍ يجتاح مساحة صدري بلا توقف، نوبات السعال المستمر تمزق حلقي، ومع هذا لا أستطيع التوقف عن التدخين، النوع الجديد أرخص، هو أقل جودةٍ لا محالة، لكنه أخف وطأةً على جيبي، ومنذ أصبحت مدخناً شرهاً، لم يعد باستطاعتي تدبير ثمن النوع الجيد

-المحطة يا أستاذ

-ها

أنتبه على صوت محصل التذاكر العجوز، ويده تربت على كتفي برفق

-آخر الخط

أستجدي نفساً عميقاً لا أجده بينما أغادر الحافلة، سالكاً هذا الطريق الترابي الممتلئ بالحفر.. الطقس ساخنٌ جداً، ونفسي ضائعٌ كالمعتاد، كنت ألهث، و حذائي يثير عاصفةً من غبارٍ رطبٍ تتسلل بخبثٍ إلى أنفي وفمي

-اللعنة

أصيح ملقياً سيجارتي التي لم تصل بعد إلى منتصفها، وهذا الكلب الأجرب القميئ ينبح خلفي كالمجنون، رأسي تغلي من أشعة الشمس المنصبة عليها كالحمم، أحاول أن أسرع الخطى، يزيد لهاثي وأنا أطرق حاراتٍ تلتف حول نفسها كثعبان، أتوقف قليلاً لألتقط أنفاسي، يزداد وجع صدري؛ فأنثني قليلاً، يزحف الألم من أعلى الكتف اليمنى، هابطاً إلى المرفق

-عليك أن تتوقف فوراً عن التدخين

هذا الطبيب أحمقٌ بلا شك

-ضغط دمك مرتفع، ابتعد عن المأكولات المالحة، والضغط العصبي، وأكرر… التدخين ثم التدخين

رأيت علبة سجائرك يا سيدي بارزةً من جيب سترتك المعلقة على المشجب، قرأت علامتها التجارية، هي من النوع الفاخر، لا تترك أثراً في حلقك وصدرك، ولا تسبب النهجان، من حقك إذن أن تنصحني بالتوقف عن تدخين سجائري الرخيصة!

أنتبه إلى أنني أحدث نفسي بصوتٍ مرتفع، وأنني أيضاً وصلت! أدفع الباب وأصعد درجات السلم بصعوبة، أدق باب الشقة في الطابق الثاني

-من؟

يأتيني الصوت من الداخل مرتعشاً عجوزاً

-أنا

دقيقةٌ واحدةٌ ويفتح الباب

-هناء موجودة؟

كنت أعلم أنها هنا، وأنها في انتظاري

-تفضل يا ابني

اتجه إلى غرفة الجلوس التي أحفظ مكانها جيداً دون أن تقودني، أرتمي منهكاً على الأريكة المواجهة للباب، قبل أن أشعل سيجارتي تدخل هناء، شعرها مشدودٌ إلى بعضه، و ايشارب أحمر يمسكه من المنتصف، اقتربت بصينيةٍ عليها كأس ليمونٍ بارد، مالت لتضعها أمامي ففاحت رائحة صابونٍ معطر، ورائحةٌ أخرى ميزتها؛ فابتسمت لذكرى ليالٍ ساخنةٍ مترعةٍ بالشبق

-في موعدك

قالت، وهي تجلس على المقعد المقابل لي

-دائماً في الموعد

أجبت وأنا أضع يدي في جيب سروالي مخرجاً مظروفاً مغلقاً

-النفقة

وضعته على الطاولة، ورفعت كأس الليمون إلى فمي، أنعشتني برودته وطعمه الحامض المشبع بالسكر، تمنيت لو أسكبه جرعةً واحدةً في حلقي الجاف

-هبة

-مالها

أرجعت الكأس، وأشعلت سيجارة

-ليست هنا

-….

-ذهبت مع خالتها إلى الإسكندرية، صممت أن تأخذها معها ليومين أو ثلاثة

تنهدت، فصفنت قليلاً ثم استطردت:

-هاتفتك عدة مراتٍ ولم تجب

-هاتفي معطل

تشاغلتْ بالنظر إلى كأس الليمون ثم رفعته مرةً أخرى.. أفرغته دفعةً واحدة في جوفي، وتركت الكأس البارد بين كفي

-لابأس

قلت

-المهم هي بخير

كان ثوبها قد انحسر الى ما فوق ركبتيها،  فرأيت ساقيها مجلوتين مصقولتين كسطح مرآةٍ أملس

قمت، فانتفضت واقفةً كمن كان ينتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر

-بدري

سعلت مرتين.. حاولت اصطياد بسمةٍ مصطنعةٍ كتلك التي انطبعت على وجهها

-ستفوتني الحافلة

-اسمع

تركت مقبض الباب ودرت

-ثمة أمرٌ ما أريد أن أخبرك به

لمست هذا منذ لحظة دخولي، وانتظرت تلك اللحظة ..رمقتها بنظرةٍ محايدةٍ ولم أتكلم

-احم…مممم..جائني عريس

وكأني لم أسمع شيئاً، انتظرت أن أعلق، لكنني ظللت صامتاً كحجر

-تدري، المصروف كبير، النفقة لاتكفي، و…

و….

أدرك جيداً ما تقصدين

-والمرأة لا تستغني عن الرجل..احم..تعلم طبعاً أن..أن…

-و هبة؟

سألتها

-هو يعمل بالخليج، في السعودية

-هبة

بحدةٍ أعدت السؤال

-تعرف، مدرستها هنا، لن أستطيع أن اصطحبها معي، سأبقيها هنا مع أمي، أو..

كنت قد فتحت الباب مستعداً للخروج، فقالت بسرعة:

-أو تبقيها معك

تجمدت في مكاني بينما تسألني

-هل وجدت سكناً مناسباً؟

اومأت برأسي علامة اللاشئ..خرجت مغلقاً الباب ورائي.. قطعت درجات السلم جرياً، في الشارع صدمني وهجٌ حار، أخرجت علبة سجائري، وجدتها قد فرغت تماماً

“اللعنة على السجائر، مغشوشة…كل شئٍ مغشوش”

رميتها أرضاً، بحذائي الذي اهترأ نعله، ورحت أدعسها، وأسعل..أسعل حد البكاء.

 

شارك مع أصدقائك