نوبل الادب : أين ذهبت رصانة الامس ؟ لطفية الدليمي

شارك مع أصدقائك

Loading

نوبل الادب : أين ذهبت رصانة الامس ؟

لطفية الدليمي
لم تعُدْ نوبل الأدب التي عرفناها من قبلُ كما كانت . صارت نوبل أخرى هجينة وغريبة على ذائقتنا الأدبية وهواجسنا الفلسفية ومثاباتنا الفكرية العالية . الدنيا صارت غير الدنيا التي نعرف : هذا صحيح بالطبع وهو أحد طبائع التطوّر البشري ؛ لكن ليس كلّ تغيّر ارتقاءً نحو الاعالي المتقدمة نوعياً عمّا سبقها . ذهب جيلُ المعلّمين الكبار الذين تشرّفتْ نوبل بأن حفرت أسماءهم على لوائحها ، كانوا أساطين أدب على شاكلة هرمان هسّة وغابرييل غارسيا ماركيز ودوريس ليسنغ وساراماغو ؟،،، ، إنقلبت الرصانة الأدبية ملاعبة خفيفة للأفكار من بعيد تحت قناع أدب مابعد الحداثة ، واستحالت الدسامة الفلسفية حفراً في تراكمات السيرة الشخصية التي قد لاتعدو أكثر من حفنة وقائع عادية يمكنُ أن تحصل لكثيرين منّا . أليس هذا توصيفاً دقيقاً لأعمال آني إرنو المتوّجة على عرش نوبل الأدبية لعام ( 2022 ) ؟ أنا أحسبه كذلك .
دعونا ننطلق في رحلة فكرية متخيلة . هل كان يمكن لآني إرنو أن تقطف جائزة نوبل الأدبية قبل خمسين أو أربعين أو حتى عشرين عاماً ؟ هل تكفي شجاعتها وجرأتها في الكشف عن مناطق شديدة الغور من حياتها الشخصية لأن تحوز نوبل الادب ؟ متغيراتٌ كثيرة لحقت بنوبل وجعلتنا نفقدُ حماستنا السابقة في التطلّع إلى من سيفوز بها كلّ سنة كما كنا نفعلُ في سنوات سابقات . صار أمرُ الجائزة والفائز بها يمرُّ بنا وكأنه إعلان يومي عابر من الإعلانات التسويقية التي صارت تنهمرُ علينا مثل شلال لايتوقف .
ربما الخصيصة الوحيدة التي لاتكاد نوبل الأدبية تفارقها هي دورانها في مدارات الثقافة الغربية . قلتُ : الثقافة الغربية ولم أقل الأدب الغربي ؛ لأنّ أباطرة نوبل شاؤوا توسيع تخوم مملكة الادب فضمّوا لها أقاليم من ألوان ثقافية شتى كانت كتابة أغاني البوب واحدة منها . إنه بعضُ سمات التجديد الذي أرادته نوبل الأدب .
نوبل الأدبية ونوبل غير الأدبية : الاشكالية التأسيسية
نوبل غير الأدبية هي جوائز نوبل الممنوحة في حقول الطب والفيزياء والكيمياء والاقتصاد والسلام . هذه ( النوابل ) غير الأدبية تختلف نوعياً عن نوبل الادبية ، ويمكن توضيح طبيعة هذا الاختلاف بحكاية صغيرة .
حصل قبل بضع سنوات ، وبالتحديد عام 2016 ، أن أنجِزَتْ انعطافةٌ علمية ممّا يوصفُ في العادة بأنه إنعطافة كبرى Breakthrough ، وأعني به إكتشاف الموجات الثقالية Gravitational Waves ، وهو إكتشاف ذو طبيعة ثورية لارتباطه الجوهري بمفاهيمنا الحاضرة عن نظرية النسبية العامة ، وبعدما أعلِنت جوائز نوبل للفيزياء ذلك العام لم ترد أسماء الفيزيائيين مكتشفي تلك الموجات في أسماء الفائزين ؛ فساد الوجوم واللغط بين الناس العارفين بشأن الفيزياء وخفاياها ، وعندما سئل المسؤولون عن جائزة نوبل في الفيزياء عن السبب قالوا أنّ الاكتشاف جاء قريباً من موعد إعلان الجائزة ولم يتسنّ لهم مراجعته والتدقيق في كلّ تفاصيله . بعد عام واحد فحسب ، أي عام 2017 ، تقاسم الفيزيائيون الثلاثة مكتشفو الموجات الثقالية جائزة نوبل . هذا دليل واحد فحسب على المديات العالية لنزاهة نوبل في غير ميدان الأدب .
إنّ أصل إشكالية نوبل الأدب ليس ذا علاقة بطبيعة التأسيس المفاهيمي لكلّ من العلم والأدب – ذلك التأسيس الذي يوضع في إطار عبارة إختزالية مفادُها ( موضوعية العلم وذاتية الأدب ) ؛ بل يعود أصلُ الاشكالية إلى نمطية مختلّة في نزاهة شبكة العلاقات التي تشكّل البنية البيروقراطية لكلّ من المؤسسة العلمية والأدبية ؛ إذ لو أعملنا ذاكرتنا في إحدى جوائز نوبل غير الأدبية عبر السنوات السابقة لرأينا غياب المراهنات و مزادات التصويت للأسماء المرشّحة ؛ بل على العكس هناك شبه إجماع على الأسماء الجديرة بالفوز في حقول الطبّ والفيزياء والكيمياء والاقتصاد – باستثناء جائزة السلام التي ستظلّ مثلبة ووصمة معيبة في تاريخ نوبل – . واضحٌ أنّ وراء تسخين مزادات الخيول الأدبية شبكةً من دور النشر والعلاقات التجارية المعنية باعتبارات التوزيع وتحقيق أقصى الأرباح المأمولة .
تذهبُ معظم جوائز نوبل غير الأدبية إلى غربيين ( مع استثناءات محسوبة في حقلي الاقتصاد والسلام ) ، وهو أمرٌ يمكن تفهّمه وبالتالي تسويغه . صار العلمُ والتقنية مناشط تتطلبُ تخصيصات مالية متضخمة لاتقدرُ على تحمّل أعبائها سوى الدول الغنية ، وهي في معظمها دولٌ تنتمي إلى الغرب ؛ لذا لم ترتفع أصواتٌ ترى في جوائز نوبل غير الأدبية إنحيازاً للغرب . ذلك واقعُ حال نشهده على الارض ومامِن سبيل لنقضه أو تكذيبه أو الالتفاف عليه .
نوبل الأدب التي ترى مالانرى
يؤكّد أباطرة نوبل الأدبية أنّ المعيار الأساسي في الجائزة هو الجدارة الأدبية Literary Merit . لن أقتنع يوماً – وأحسبُ كثيرين يشاركونني قناعتي هذه – أنّ آني إرنو أعلى قيمة أدبية من مارغريت آتوود أو ميلان كونديرا . المقارنة غير واردة بأي مقياس من المقاييس . ربما سيقول هؤلاء الأباطرة أنهم يرون غير مانرى ، ولو فعلوا فأحسبهم سيتّكئون على قاعدة الذائقة الذاتية للأدب ، وتلك مخاتلة بيّنة لأنّ الميزة الذاتية لاتنفي التميّز الحِرَفي والصنعة المجوّدة في الكتابة . من جانبي أرى – لو أنّ المعايير النوبلية حقيقية – فربما سيكون الروائي والكاتب البنغالي ( ضياء حيدر رحمن ) الذي كتب روايته المبهرة ( في ضوء مانعرفه In the Light of What We Know ) مستحقاً لنوبل الأدب لو كانت معايير الجدارة الأدبية هي الفاصلة .
ماذا يعني أن تكون كاتباً عالمياً ؟
تعني جائزة نوبل في الأدب أنّ حائزها يفي بشروط العالمية ؛ أي صار يقاربُ موضوعات ذات اهتمامات عالمية بدلاً من الانزواء في قعر المحلية الضيقة . هذا أمرٌ له تبعاته الخطيرة ، وقد أفضتُ في كتابي المترجم ( الرواية العالمية : التناول الروائي للعالم في القرن الحادي والعشرين ) في الكشف عن تبعات ومفاعيل هذه الظاهرة .
تتمظهر السطوة الغربية على الادب العالمي في سطوة الموضوعات المحببة للمؤسسة الادبية الغربية ؛ إذ منذ اللحظة الأولى التي يدركُ فيها الكاتب أنه يخطط لكي يخاطب جمهوراً عالمياً بدل الجمهور المحلي الذي إعتاده فإنّ طبيعة كتابته ستكون عرضة لتغيير جوهري ، ويلحظ المرء بخاصة ميلاً طاغياً للكتّاب لإزاحة كلّ العوائق المحلية المفترضة التي تقف عائقاً أمام الفهم العالمي ، ولطالما تردّدت هذه التهمة الأدبية غالباً وأشهِرت بوجه أعمال الكاتب هاروكي موراكامي الذي صار يعتمد لغة تبسيطية موغلة في الإستسهال الأدبي على حدّ زعم مجايليه من الكتّاب اليابانيين الآخرين .
إنّ أيّ منتج أدبي ينال حظوة وإحتفاءً من جانب النظام الرأسمالي العالمي لابدّ أن يتمّ تحييده ومن ثمّ تدجينه من جانب النسق النيوليبرالي المتغول الحاكم في العالم ؛ إذ في التحليل الأخير سنعرف أنّ كلّ ناشري الكتب هم في الغالب أذرع صغيرة للتجمعات الرأسمالية العملاقة ، وأنّ الإحتفاليات الأدبية التي تحتفي بالأدب العالمي إنما تحصل بفعل التمويل السخي لكبريات الشركات الرأسمالية في العالم . كيف يمكننا أن نتوقع في حالة مثل هذه الحالة أن يحظى عمل ذو رؤية أصيلة أو مخالفة للسائد أو خارجة عن السياق العام بمباركة وتعضيد مثل هذه القوى المالية المتغولة ؟
بهذا الفهم ، وطبقاً لهذه الرؤية ، يمكنُ اختصار الامر بالمعادلة الشرطية التالية : إذا سعيتَ لجائزة نوبل الأدبية يجبُ عليك أن تتناول موضوعات تبدو عالمية الطابع لكنها تدور في الفضاء الغربي ( على شاكلة : الاقليات ، التجارب الجنسية الذاتية ، التحولات الجندرية ، إشكاليات الهوية الذاتية والمجتمعية ،،، إلخ ) ، وأن تحظى هذه الكتابات بمباركة وتسويق مؤسسات النشر العملاقة . أما إذا فكّرت خارج هذا الصندوق فانسَ أمر نوبل . لاأحد سيهتمّ لأمرك .
نعرفُ العبارة التي تترددُ في أدبيات التنمية المستدامة : تصرّف محلياً ، فكّرْ عالمياًAct Locally , Think Globally . يمكن للمخيال الادبي البشري توظيف هذه العبارة في تناول معضلات قد تبدو غارقة في محليتها لكنها قد توفرُ حلولاً ناجعة لمعضلات ينوء بها الغرب . المؤسسة الأدبية الغربية لاتقبلُ هذا الأمر . قانونها الحاكم هو : تصرّفْ محلياً كما تشاء أنت ؛ فكّرْ عالمياً كما نشاء نحنُ !!
هذه هي الجدارة الأدبية التي يريدون .
نوبل الأدب : اشتباك السياسة ورأس المال والثقافة
تعدّت نوبل الأدب – بالتحديد – كونها امتيازاً فردياً لتصبح إكسسواراً لازماً تسعى له الدول لاستكمال مستلزمات هيبتها الجيوبوليتيكية . صارت بعضُ الدول ، وبخاصة ذات الاقتصادات الصاعدة ، ترى في نوبل الأدب موازياً للقنبلة الذرية !! باعتبار أنّ القنبلة الذرية إشارة إلى القدرة العلمية الضاربة ، ونوبل الأدب إشارة إلى التسامي الروحي في نطاق الرأسمال الرمزي ؛ ولأجل نيل الامتياز الروحي النوبلي توظفُ الدول كلّ قدرة متاحة لها للحصول على نوبل الأدب ، وثمة حكايات مخزية في هذا الشأن تطعن نزاهة نوبل الأدب يمكن للقارئ أن يعرف بعضاً منها لو شاء . تحفلُ كواليس نوبل للأدب بأفاعيل مشينة : رشاوى ، وضغوط ، وتآمر ، وصفقات . الأمر ليس بجديد ؛ بل حتى أن تشرشل يمكن أن يكون له يدٌ في هذا الشأن . كيف ؟ سأتركُ الأمر للقارئ لكي يتابع هذه التفاصيل بجهوده الشخصية ، وسيكون في مستطاعه – لو إعتمد الجدية والمثابرة – قراءة حيثيات مدعومة بشهادات من أفراد ينتمون للإمبراطورية النوبلية .
هل تتصورون – مثلاً – أنّ دولة أرسلت في إحدى السنوات ، وبواسطة أحد دبلوماسييها ، عشرة صناديق من الفستق الذي تشتهرُ بزراعته إلى كلّ عضو من أعضاء اللجنة النوبلية ؟ إذا كان الأمر هكذا ؛ فكم تستطيعُ الدول ذات الاقتصادات المتغولة أن تفعل من أفاعيل في لجنة يقبلُ أعضاؤها بضعة صناديق فستق من دولة عالم- ثالثية ؟
كيف يكون الفساد والانحياز إذا لم يكن هذا فساداً وانحيازاً بأجلى صوره الممكنة ؟
نوبل الأدب : مقترحٌ لحلّ إشكالية الانحياز الغربي
غالت نوبل الأدبية كثيراً في الانحياز لفضاء الأدب الغربي والدوران في أفلاكه . قد تكون بعضُ مسوّغات هذا الانحياز مفهومة – مثلما أوضحتُ في فقرات سابقة – ؛ لكنها تظلُّ غير مقبولة وتشكّلُ ثُلْمة في نزاهة الضمير النوبلي . هل من مخرجٍ لهذه الاشكالية ؟ ربما يجدي هذا المقترح أن تعتمد نوبل الأدب ستراتيجية المحاصصة النوبلية الثلاثية إيفاءً بمتطلبات العدالة الجندرية والجغرافية ؛ بمعنى أن تتوزّع الجائزة كلّ سنة على ثلاثة أسماء أدبية ، واحدة لكاتب ، وثانية لكاتبة ، وثالثة لكاتب أو كاتبة من الجغرافية الموصوفة بغير الانتماء لعالم الغرب ممثلاً في حواضره الكوسموبوليتانية ، ويمكنُ حصرُ هذه الجغرافية في ( آسيا وأفريقيا والبحر الكاريبي وأمريكا الجنوبية ) حصرياً . التسويغ لهذا المقترح واضحٌ : لماذا ينفرد اسمٌ واحد كل سنة بهذه الجائزة بدلاً من إسمين أو ثلاثة مثلما يحصل مع نوبل الأدب أو الفيزياء أو الكيمياء أو حتى ( أحياناً ) السلام والإقتصاد ؟
الصور : من بين ابرز الأدباء المرشحين الدائمين لجائزة نوبل
شارك مع أصدقائك