الشاعر اللبناني وديع سعادة
ماذا يهم الشاعر الغريق
إذا كان هناك من يتأمل غرقه؟
بيروت – الفرسان
الشاعر وديع سعادة صوت متفرد في حركة الشعر اللبناني الجديد. صوت لا يشبه إلا نفسه، يحمل الكثير من أصداء الشعر العربي والعالمي. مغامرته الشعرية تبدأ من تمرده على الأساليب الشعرية المتوارثة وعلى اللغات التي باتت مستنفدة. مناخه الشعري رحب العناصر والصور، عبثي على شيء من الإحساس المأسوي بالعالم، فالشاعر “كافكاوي” النزعة ماجن ومجنون، وحيد وأعزل وسط عالم فقد إمكان الرجاء والأمل. واقعي وديع سعادة، لكن واقعيته بلا حدود. فشعره سليل الحياة في معناها العميق، يستوحي الزمن الوجودي ولا يلبث أن يتمرد عليه. في أسلوبه الكثير من السخرية السوداء على طريقة السورياليين الذين أعلنوا ثورة الحلم. في لغته الشعرية ثنايا داخلية وفسحات من الضوء والحنين والغضب الخبيء.
منذ مجموعته الأولى “ليس للمساء إخوة” بدا وديع سعادة صاحب صوت متميز وفريد. وهو منذ ذلك الحين يحاول تطوير هذا الصوت وجعله أكثر حدة وأكثر شفافية. وها هو كتابه الجديد لا يخلو عنوانه من طرافة شعرية: “مقعد راكب غادر الباص” وهو الخامس بعد “ليس للمساء إخوة”، “المياه المياه”، “قبض ريح” و”رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات”.
شاعر طريف وديع سعادة، شاعر أليف ومتوحش في آن، شاعر الرؤيا والتفاصيل والأشياء، شاعر الحياة في ما تحمل الحياة من تناقضات وأحلام وأوجاع. وهنا لقاء معه:
* من كتابك الأول “ليس للمساء إخوة” حتى كتابك الأخير “مقعد راكب غادر الباص” تمتد تجربة شعرية وزمن خاص هو زمنك الوجداني: كيف تستعيد هذه التجربة الآن وهذا الزمن؟ كيف بدأت وأين انتهيت؟
– أيام “ليس للمساء إخوة” كنت أعيش أقصى بوهيميتي، مسافراً، متشرداً، غير ثابت في مكان، ولامبالياً في شيء حتى في الشعر نفسه. “ليس للمساء إخوة” بضع قصائد قصيرة لا تتعدى الخمسين، وهي كل نتاج فترة زمنية تتجاوز 12 سنة. لم أكن أبالي. كانت الكتابة شيئاً لا أخضع لإلحاحه إلا حين يتعدى حد الاحتمال. وكنت أسكب الحالة الشعرية الملحاحة في أقل كلام ممكن، فتبلغ نهايتها في أقصى سرعة على الورق لكي تستمر معي في الحياة وقتاً طويلاً.
هكذا كانت تجربتي الشعرية بنت الحياة ولا تزال. فأنا منذ البدء لا أستطيع أن أفصل شعري عن حياتي. إنهما متلاصقان حتى كأنهما واحد. وبعض الأساطير التي استخدمتها في كتابي الثاني نشيد “المياه المياه” ليست لها أية علاقة بالأساطير في الواقع، بل هي حالات أو أساطير خاصة بي، صدف أن أخذت من الأساطير التاريخية استعارتها وأسماءها. كذلك الاستشهادات من بعض الكتّاب في النشيد نفسه تتبدل مفاهيمها معي لتحمل مضامين أخرى، خاصة، غير التي كانت في الأصل.
منذ مجموعتي الثالثة “رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات” بدأت التفاصيل الصغيرة للحياة نفسها تأخذ حيزاً أكبر. على كل حال ليس للقضايا الكبرى مكان مباشر في كل شعري، فأنا لا أرى هذه القضايا سوى مجموعة تفاصيل صغيرة. وأظنك توافقني على أن الإنسان نفسه ليس أكثر من تفاصيل صغيرة، أو مجرد تفصيل صغير إذا شئت. المهم، لا أرى قضيتي غير هذه التفاصيل. وهي عالمي الشعري منذ “ليس للمساء إخوة” إلى “مقعد راكب غادر الباص” لأنها عالمي الحياتي أيضاُ. هل يمكن اختصار تجربتي الشعرية بهذا المفهوم؟ ربما، لم لا؟ إذا كان لا بد من ذلك.
* يتميز شعرك بنمط خاص، غير منغلق، بل مشرع على الحنين وعلى الحميمية، وعلى المواقف الشعرية المرهفة. وكما تقول على الأمور والتفاصيل الطريفة. كيف تفهم الشعر وفق رؤيتك الخاصة؟
– الحقيقة لم أسأل نفسي من قبل كيف أفهم القصيدة والشعر، حتى أني لم أسأل نفسي كيف أكتب هذه القصيدة. سأحاول الآن، ولا أعدك بأن الإجابة ستكون دقيقة.
أول ما يعبر في رؤيتي عن القصيدة هو مقدار ما تحمله من الحياة. إنها تتكون وتنمو وتكبر وتستمر بقدر مشحونها الحياتي وعلى قامة الإنسان فيها. طبعاً القامة الداخلية. قد يكون مفهومي بهذا المعنى مفهوماً إنسانياً، أي أني أنظر إلى القصيدة من منظار إنساني. التعبير ليس دقيقاً لكني أفضّل أن أقوله هكذا. وتجذبني في القصيدة غرائبيتها، أي ذروة صدقها في تصوير الواقع. لأن المألوف ينتج عن رؤية الواقع بالعين المجردة أما الغرائبية فهي في رؤيته بالمجهر. القصيدة مجهر. مجهر صادق. مجهر حياة صادق. أو شيء من هذا النوع.
* في قصيدة أخيرة لك، هي التي تحمل عنوان المجموعة “مقعد راكب غادر الباص”، يمتزج الشعر بالذكرى بالحلم عبر نوع من التراكم الجميل، وكأنك تسترجع سيرتك لتعيد كتابتها من جديد وبلغة جديدة: ماذا عن الراكب الذي غادر الباص وماذا عن المقعد الذي ما زال شاغراً؟
– بعد صدور “مقعد راكب غادر الباص” تنبهت إلى الصلة الوثيقة بين عنوانه وعنوان مجموعتي السابقة “رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات”. فالرجل الذي كان قاعداً في المجموعة السابقة غادر المقعد في المجموعة الأخيرة، وهو الرجل نفسه بالطبع. وهذا ما يشير إلى الترابط بين المجموعتين، والذي هو نتيجة حتمية لامتزاج الشعري بالحياتي لديّ “إلى حد مخيف” كما قال أحد النقاد.
نعم، القصيدة الأخيرة في المجموعة سيرة ذاتية. وأنا أعتبر أن كل شعري نوع من سيرة ذاتية في معنى ما. وإذا رغبت أن تعرف اسم الذي غادر الباص، فهو أنا. ولذلك كتبت بعدها مجموعة قصائد بضمير الغائب ولو اني أدرجتها حسب الترتيب سابقة لقصيدة “مقعد راكب غادر الباص”.
هذا قد يجيب عن الشق الثاني من سؤالك. فالمقعد الذي ما زال شاغراً أصبح في ضمير الغائب.
الناحية العبثية
* في شعرك ثمة إحساس مأساوي بالعالم وملامحه وعناصره، بل أكثر هناك إحساس شبه عبثي بالوجود وضرورته. هل هذا الإحساس شعري أم واقعي، خصوصاً أن شعرك لا يهمل الواقع أبداً بل ينطلق منه نحو فضائه؟ وما علاقة الشعري بالواقعي لديك؟
– الشعري والواقعي لديّ لا ينفصلان. أنا شاعر قضاياي وواقعي بصدق مخيف أحياناً، وكل ما كتبته حتى الآن لا يحمل عكس هذا الكلام. ما كنت أرى لزوماً للكتابة لو كنت سأقصم ظهر حياتي إلى نقيضين: واحد للشعر وواحد للواقع. أنا لست على خشبة مسرح. إنني في صميم الحياة.
* نشعر في الآونة الأخيرة أن الشعر بدأ يضيق وأن قراءه أيضاً باتوا من القلة القليلة. هل فكرت يوماً في هذا الأمر؟
– كل الشعراء اليوم يعرفون هذا، مع ذلك لم يتوقف أحد منهم عن الكتابة لأن قراءه باتوا من القلة، والذين توقفوا فليس لهذا السبب بالتأكيد. لا أظن أن القراء شرط للشعر أو سبب للاستمرار في الكتابة. حياة الشاعر الخاصة التي جعلته يكتب أول قصيدة هي نفسها التي تضع نقطة نهاية أو تجعله يستمر. ماذا يهم الشاعر الغريق إذا كان هناك ناس يتأملون غرقه من بعيد أو لا يلتفتون؟ قد ينجو وقد يغرق، لكنه سيستمر في التخبط لأن حياته نفسها مرهونة بهذا الفعل. لكن، أؤكد لك أنه سيغرق في النهاية.
تغيير الواقع
* لماذا يكتب الشاعر اليوم برأيك؟ وهل ما زال قادراً على تغيير الحياة كما قال رامبو؟
– أعتقد أن رامبو نفسه أجاب على هذا السؤال: كانت حياته هي الجواب. أما لماذا يكتب الشاعر اليوم، فعلى الأرجح كي يكرر أمل رامبو، وفشله.
* ألم تحس يوماً بلا جدوى الكتابة في هذا الزمن القاسي، زمن الغربة والعزلة واليأس؟ ومع ذلك تكتب، بل يكتب الشعراء؟
– ربما لهذا السبب أكتب ويكتب الشعراء. ولا أدعي أن الكتابة تكسر الغربة والعزلة، فثقتي قليلة بالكتابة في هذا الأمر. يبدو أن كل القصة تكمن في وهم حميم. واسمح لي بهذا التشبيه الاعتباطي: نحن كمن يغرم بشعاع ولا يستطيع إلا أن يتبعه عارفاً أنه سيودي به إلى فضاء فارغ. ولا نحب أن نصدق أن هناك شيئاً أجمل من هذا الفراغ الذي سنملأه بأنفسنا. ألا ترى معي أن العالم اكتمل بل طفح ولا مجال لأن تضيف إليه شيئاً؟ فقط تبقى هذه الهوة الصغيرة الخاصة، الشعر، التي ستتمتع وحدك في سكناها.
* ثمة لغة شعرية فرضت نفسها الآن وقد تجاوزت مفاهيم الحداثة التي أرساها الشعراء العرب الرواد. فلغة الشعراء الشباب واصلت لغة التقدم والتطور نحو أفق آخر. كيف تفهم الحداثة انطلاقاُ من هنا، وما ملامح التطوير والتحديث في رأيك؟
– الشعر ليس مباراة سباق، ولا أظن أن هذا الموضوع مطروح إلا عربياً، ما يعني أن الحداثة عندنا لا تزال موضع تساؤل.
لا يمكن أن يكون هناك شعر حديث دون أنسان حديث. هل الإنسان العربي حديث فعلاُ؟ أشك في ذلك. ولنحصر السؤال أكثر: هل الشاعر العربي يختلف عن الإنسان العربي؟ هل تجاوزت مفاهيمه الحياتية مفاهيم الآخرين؟ أشك، سوى قلة من الشعراء هم اليوم على هامش الحياة العربية، بسبب اختلاف مفاهيمهم عن مفاهيم الآخرين.
*-مجلة “الفرسان” في 13/7/1987