هارولد بنتر ممثلا وبَكت مخرجا

شارك مع أصدقائك

Loading

أبو سدير
عطفا على البوست السابق، ما دمنا في مزاج صمويل بَكت (بيكيت)، استمتعت أمس بإعادة مشاهدة مسرحية “شريط كراب الأخير” التي اخترتها من مكتبتي ضمن مجموعة مسرحيات بَكت التي كتبها وأخرجها بنفسه، وقارنت نسخة إخراج بَكت بثلاث نسخ أخرى تلفزيونية وسينمائية مع أداء ممثليها (بعضها تجدونه متوفرا على يوتيوب)، فهذه المسرحية قد تنافس في تقديمها عدد كبير من الممثلين المسرحيين والسينمائيين الكبار، فهي تعتمد كليا على أداء الممثل وتنويعات إلقائه الصوتي. وتمثل تحديا أدائيا برع بعضهم في اثبات قدراته الأدائية فيه.
وهي مونودراما من فصل واحد عن رجل في يوم عيد ميلاده التاسع والستين يراجع حياته فيستمع إلى شريط تسجيل سجله في عيد ميلاده التاسع والثلاثين ثم يحاول تسجيل شريط جديد معلقا على السنة الأخيرة في حياته.
والعمل نموذج لنزعة بَكت الاختزالية في الفن “المينمالزم” فكل مفرداتها ممثل وجهاز تسجيل وأشرطة والضوء والظلام. حتى أن الشاعر والناقد الأيرلندي أنتوني كرونن خلص إلى أن بَكت تأثر في بناء حبكة هذه المسرحية بالمانوية (الديانة البابلية القديمة نسبة لماني، التي تنسب خطأ إلى فارس) في اعتمادها على ثنائية الضوء والظلام والخير والشر.
وقد أخرج بكت المسرحية بهذه النزعة الاختزالية؛ فنجد تضادا حادا بين بقعة الضوء التي تحيط بممثله (والظلام الذي يخيم على معظم مساحة المسرح. وقد اختار الممثل ريك كلاتشي لدور كراب، وهو نفس الممثل الذي قدمها في برلين من إخراج بَكت نفسه عام ١٩٧٧، ونقلها للتلفزيون المخرج والتر دي أسموس عام ١٩٨٨). وعلى الرغم من اختيار بكت لهذا الممثل، إلا أنني ملت أكثر لأداء الممثل الأيرلندي الشمالي باتريك مَغّي، الذي أدى الشخصية في أول تقديم لها على المسرح بإخراج دونالد مكويني عام ١٩٥٨ (وأعادت بي بي سي تسجيلها تلفزيونيا في عام ١٩٧٢).وكان بَكت قد كتب المسرحية لهذا الممثل خصيصا بعد سماع صوته في الإذاعة ووصفه بأن له صوت أجش وصارم له قليل من السحر الظاهري، لكنه في الوقت نفسه يمتلك تأثير المنوم المغناطيسي على المستمع”. وقد برع مَغّي في تقديم شخصية كراب في أداء طبع الكثير ممن قدموا الشخصية بعده أو شكل تحديا لهم حاولوا تجاوزه.
ولم يعجبني الفيلم السينمائي الذي أخرجه المخرج الكندي أتوم إيغويان عن المسرحية نفسها وأشرت إليه أمس على الرغم من الأداء الهادئ للممثل المعروف في السينما جون هارت، والذي اشتهر أيضا بأداء هذه الشخصية في المسرح مع عدد من المخرجين الاخرين في برودواي وواشنطن ودبلن. إذ بدا المكان المحيط بالممثل مكتظا بالتفاصيل بعيدا اختزالية بَكت نفسه عندما قدم المسرحية.
بيد أن ما لفت انتباهي هو الأداء الرائع للكاتب المسرحي والسيناريست والمخرج والممثل هارولد بنتر (المتوج مثل بَكت بجائزة نوبل للأداب) في دور كراب، بإخراج إيان ريكسون عام ٢٠٠٦ ونقلتها بي بي سي ٤ تلفزيونيا.
إذ خاض بنتر، الكاتب الكبير، تحدي أداء هذه هذه الشخصية وأضفى عليها من روحه الكثير بما يجسد رؤية بَكت لها ويعززها إذ قدمها بأقل قدر من الحركة (فهو يقضي معظم زمن المسرحية جالسا منحنيا على جهاز التسجيل) والاعتماد على تعبيرات الوجه في عكس انفعالاته واستجاباته لشريط الصوت وتنويعات الصوت في إلقاء تعليقاته، الذي تعمد فيه أن يستخدم نبرة جافة وحادة ويشدد على مخارج الحروف بقوة. كما حدد أكثر من حركة الشخصية عندما اختار تقديمها على كرسي متحرك، معززا صورة الرتابة في بناء هذه الشخصية التي هي أقرب إلى الآلة لدى بَكت، فبدا حياديا جافا كآلة، متجنبا إلى حد كبير إظهار الانفعالات العاطفية، وحذف مشاهد الموز في بداية المسرحية.
كنت أمام ممثل ساحر، كما هي حاله في الكتابة، ولم أجد أمامي إلا أن استعير تعبير “ممثل خرافي” من مخرجنا القدير يوسف شاهين، الذي وصف يوسف الممثل في باب الحديد بهذا التعبير في مقابلة أجريتها معه منتصف الثمانينيات.
لقد شغل بنتر الحياة الثقافية؛ كاتبا قديرا ومخرجا وناشطا مدافعا عن القضايا الإنسانية (نذكر موقفه ضد الحرب على العراق) وكاتبا لسيناريو عدد من التحف السينمائية الخالدة، وممثلا في المسرح والسينما (ومن بين أدواره العديدة نذكرّ هنا بفيلمي “الخادم” و”حادثة” للمخرج جوزيف لوزي، الذي كتب له سيناريوهات عدد من أفلامه، أو في فيلم “يوميات سلحفاة” مع غليندا جاكسون وبن كنجسلي، أو في “مانسفيلد بارك” “وخياط بنما” وفِي فيلم ديفيد ماميت “كارثة” عن مسرحية بكت (أشرت إليه في البوست السابق) إلى جانب الممثل القدير جون غيلغد في آخر أدواره.
شارك مع أصدقائك