حوارات مع وديع سعادة “1”.. حاوره.. شارل شهوان

شارك مع أصدقائك

Loading

تنويه : طلبت من  صديقي الشاعر المبدع وديع سعادة   الحوارات  التي اُجريت معه حول  تجربته الشعرية العميقة ، فارسل اليّ ما قد جَمعهُ من الحوارات ننشرها وفقا لتسلسلها  الموجود في ملف الحوارات .

شكرا ومحبة لسعادة شاعراً وانسانا ً

وديع سعادة

 *- يجب أن يضحك

و”يقعد ويفكر في الحيوانات

*-في نشيد “المياه المياه” تابعت لعبتي الشعرية خارج خانة التجريب، فأنا لا  أريد إعادة بناء اللغة ولا تغيير العالم

*-. الحروب كلها خاسرة، ولا جندي يخرج من المعركة رابحاً

*- لا أعرف ما الداعي إلى الاستمرار بالكلام حين لايوجد  شيء لنقوله

حاوره.. شارل شهوان

 أن ينعزل شاعر أمر يفترض حالتين متلازمتين ومدمرتين: أن يُقتل في رأسه أو أن يَقتل في رأسه. في هذه الأمكنة المشرفة على طرقات قليلة، حيث لم يبقَ سوى تلك الشرفات المطلة على ما تبقى، يمكنك أن ترى أمثال هذا الرجل. في مقدورك رؤية البعض أمثال الشاعر وديع سعادة، قاعدين وراء الدرابزونات في القطب الأكثر حرارة، في الهواء الموحل بلهاث مدينة قذرة. إنه “رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات” وأيضاً عنوان مجموعة الشاعر وديع سعادة الجديدة حيث تبدو الكتابة في انسيابها وكأنها جسم معروق بارز الشروش، كما لو أن شراسة راقدة تنفث قصائد المجموعة حتى نرى بوضوح التقاطيع القاسية لوجه الكاتب ووعيه في الضلوع.

 

* “رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات” عنوان حين نقرأه نرى رأس رجل قاعد طوال الوقت وكأنه جمجمة جميلة لا تخيف أحداً مذ انتهت ترتيبات عزلتها، أو كأننا نرى ميتاً ينتظر بركاناً يحمل موتاً أكثر حرارة. حتى أصبح القعود نشوة لا تضاهى. هل اقتربت في تأويلي هذا بعض الشيء؟

– أنا رجل قاعد. قلما أتحرك. في بيتي، على الشرفة، وأينما أكون. لا أؤمن بجدوى الحركة. وهكذا “الرجل” في مجموعتي الشعرية (الرجل الذي هو أنا) لا يفعل شيئاً. فقط يرى. ليس بالمعنى المشهدي ككاميرا، بل الرؤية هنا نوع من التصويب الانتحاري إلى الأشياء. عين تحمل موتاً أكثر مما تحمل نظراً، للرائي والمرئي على السواء.

أنا لا أنتظر شيئاً، وأعتبر هذا أعظم انتصاراتي. الأمور كلها متساوية: ما يأتي وما لا يأتي، ما كان وما سيكون، الانتحار والخلق، الله والشيطان…

تتكلم عن البركان. أجل هو جميل. فالزلازل، على الأقل، تحدث تفسخات هائلة، وعلوها الشاهق قد يحطم أخيراً الدماغ. أنا في حاجة ماسة لأن أفقد دماغي. لكنني لست مستعجلاً. يمكنني أن أقعد هنا، في هذا المكان المرتفع من رأسي، وأراقب أولئك المتدافعين تحت الشرفة، ذهاباً وإياباً، أو تلك اللحوم المندفعة بهؤلاء، وجميع الظواهر الخارقة: مثلاً الغبار المنبعث من دواليب سيارة منطلقة، أو براميل القمامة قبالتي على الطريق.

يمكنني أن أبقى هكذا دون أن يرتعش واحد كنته في ما مضى، هنا على هذا الكرسي – الهواء الخشبي المستعمَل – ممسكاً بمقابض المكان، ورائي بوابة، أيضاً امرأة، وعجوز، متخماً ومتهالكاً كحيوان ضخم يفكر في غابة مفقودة، وفي حيواناتها المهتاجة في العراء.

القعود هكذا نشوة. أمامي مدن شاسعة لا أعرف ماذا أفعل بها ولا أين أرسل سكانها. وما دمت أملك أعظم حكمة، القعود والتأمل، لماذا أهدر وقتي وحكمتي ونشوتي بالحركة؟ أنا مسرور هكذا. إني مليء بالموت وبالحياة في مكاني، ولا حاجة بي إلى التحرك قيد أنملة.

* عندما نذكر وديع سعادة تتبادر في ذهن الكثيرين مجموعتك الأولى “ليس للمساء إخوة”. ليس في نيتنا التحدث عن المجموعة، بل نسأل عن تجربتك الشعرية والحياتية في تلك الفترة. كيف كانت حياتك تقترب من الشعر؟

– لم أحاول مرة أن أقرر شيئاً. إني جالس بسكون. دعني هكذا. أمامي أشياء لا تهمني. لا علاقة لي بها ولا علاقة لها بي، تسمى حياتي. فقط أنظر إليها، وأبتسم.

لم أقرر شيئاً. لا أن أصبح شاعراً ولا عاملاً في منجم. الشعر ليس قضيتي، وأحتقر جميع القضايا بلا استثناء، وإذا مرة اهتممت بأمر فإني أنظر إليه وأتعامل معه كخدعة. والخدعة الكبرى هي الحياة الجالسة الآن أمامي، ومسافة لا بأس بها بيننا. لذلك أستعمل صوتي لتنفير المخلوقات المحيطة بي، وأحياناً ليمرّ الوقت بسهولة. أغني له أو أزجره، وهذا لا يعني أني أريد أن أقول شيئاً ضرورياً، فالكلام، أو الكتابة، لعبة لإلهاء الحياة عني أو الالتهاء عن الحياة.

من يحتمل هذا؟ حياة مسنة وبلهاء تطاردك من زقاق إلى زقاق لتلعب معك، كأنكما مجايلان! وهذه الحياة لم تقربني من الشعر بل أبعدتني عنه. ربما لذلك كتبت. وكنت مقلّاً باستمرار لأني عرفت من البداية أن الكتابة ليست أكثر شأناً مني، بل هي أيضاً خدعة لكنها خدعة لطيفة وأستطيع أن أطردها في أي وقت، مثل قطة. الكتابة ليست أمراً مهماً كما يعتقد البعض. ربما عدم الكتابة هو المهم. الاستغناء عن الكتابة، في أسوأ احتمالاته، نوع من الانتصار. وإذا كان انتصار في الكتابة فالانتصار على الكتابة أكبر منه.

أمر ممتع أن تكون في مكان لا تهتم به. أن تكون في الهواء بلامبالاة. لا تخطط لشيء ولا تتذكر شيئاً. تضحك على المضحك والمحزن على السواء. تمشي في جنازة ولا تعرف الميت. تعرف الميت ولا تمشي في الجنازة. لا تسأل ولا تجيب. تقعد على حجر وتدخن سيكارة.

هكذا كنت عندما كتبت “ليس للمساء إخوة”، تلك الفترة التي امتدت أكثر من 12 عاماً لأقل من 50 قصيدة قصيرة. كنت فوضوياً وأكثر جمالاً من ذئب. عاطلاً عن العمل وهائماً في الأمكنة. إذا استوقفني شيء أبتسم له وأمضي. نمت تحت سقوف مواقف الأوتوبيس، ورغيف واحد كان يكفيني ليومين. ومرة في باريس أهديت إلى صاحب مطعم قنينة من العرق الجبلي لقاء وجبة مجانية. وآخر “أوتوستوب” هناك أوصلني إلى الحدود الإسبانية، وقفلت عائداً حين لم أجد في جيبي 20 بيزيتا رسماً للدخول إلى إسبانيا. هكذا كنت حراً وجميلاً، وهكذا كتبت: في آخر مترو بعد منتصف الليل وأنا ذاهب إلى مكان مجهول. وتحت سقوف مفتوحة لباصات انتهى دوامها. وفي مصانع أستراليا وتحت أضواء بلدية باريس وأضواء بلدية بيروت وضباب لندن وقنديل بيتنا في شبطين. ولم أكن أريد شيئاً من كل هذا. اقتنيت عنزة وأكلت حليبها. وكانت الكتابة آخر اهتماماتي. أكتب فقط حين أفقد المقاومة.

* اختلف مسار تجربتك الشعرية بين مجموعاتك الثلاث “ليس للمساء إخوة” و”المياه المياه” وأخيراً “رجل في هواء مستعمل…” كأنك تنتقل في التجارب ولا تنغمس في التجربة الواحدة؟

” ليس للمساء إخوة” كنت فيه وحيداً، محاطاً بمخلوقات وأشياء زائدة عن اللزوم. رأيت العالم يسقط شظايا، ووقفت محتجاً معتقداً أن في إمكاني إعادة تركيبه… وأسأل نفسي الآن، حين أعود إلى تلك المجموعة، هل فعلاً وقفت في ذلك الزمان لأعيد تركيب العالم؟ بالطبع لا. كنت “محايداً” على الأرجح. فقط، رأيت. وتعاملت لغتي الشعرية مع المرئي كما يتعامل مجنون مع الحكماء، أو مثل كفيف فتح عينيه للتو على عالم سخيف.

في نشيد “المياه المياه” تابعت أيضاً لعبتي الشعرية خارج خانة التجريب. فأنا لا أريد إعادة بناء اللغة ولا تغيير العالم. بالعكس، إني أعترف بلا جدوى الحركة، وكل شيء باطل وقبض ريح. وما كتبت نشيد “المياه المياه” إلا لأنفي مقولة التقدم التاريخي. مزجت الحاضر والماضي في زمن واحد هو الزمن الثابت الذي لا يتقدم قيد أنملة. وإني الآن أرى بوضوح أن هولاكو الزمن الماضي هو هولاكو اليوم، مع فارق بسيط: تطور أسلحة الموت والدمار.

كذلك الرجل في الهواء المستعمل هو قاعد. وما يفكر فيه ليس سوى الحيوانات. هل تحمل هذه المجموعة تجربة جديدة؟ ربما نعم، وربما لا. لم أفكر في الأمر. وانتقال الشعر من تجربة إلى تجربة، أو الانغماس في واحدة، لا يهمني. فليفعل الشعر ما يريد، وليذهب إلى حيث يشاء، وحين يتعب فلينم. كل الأشياء الأخرى مقموعة. لماذا لا نوهم أنفسنا ونتصرف على أساس أن الشعر حر التصرف؟

* شعرك ما قبل الحرب، وبالتحديد في مجموعتك الأولى، يمكن وصفه بالكتابة – الاحتجاج أو النيهيلية الهادئة. هذا كان قبل الحرب. الآن نسأل منطقياً وبخفر، في مجموعتك الجديدة هل ابتعدت أكثر؟

ليس ضرورياً الابتعاد إلى أي مكان. الحروب كلها خاسرة. ولا جندي يخرج من المعركة رابحاً. غير أن الجنود لا يرمون السلاح. يطورونه ليكون أشد فتكاً. يغمدونه في قلوب أعدائهم ومع ذلك لا ينتصرون. إذا صرعهم عدوهم تكون معركتهم انتهت، أما إذا أغمدوا سلاحهم في قلوبهم بالذات، فهنا الانتصار. إن النصر ليس سوى اختيار إنهاء الحياة.

مع ذلك لن أنهي حياتي بنفسي لئلا أستحق انتصاراً أعتبره سخيفاً من البداية. سأستمر كما أنا، بنزوات هائلة وفي آن يمكن سحقها بلا أسف، ضاحكاً أو غاضباً، مثرثراً أو صامتاً. ولن يفيدني أن أمشي في تظاهرة احتجاج أو أقف في طابور ينتظر رغيفاً أو يسمع خطاب تحرير.

الاحتجاج لم يعد يستهويني. إني أسخر منه. وحين أحتجّ أسخر من احتجاجي، لأني أفعل ما هو أكبر منه وأكثر خطورة: الصمت، الضحك، النسيان. إذا كان على البشرية أن تناضل من أجل شيء شريف، فيجب أن تناضل من أجل النسيان. وإذا كان عليها أن تعيش حاضراً مرموقاً، فهو حاضر الضحك من كل شيء. أنا لا أرى تقدماً إلا بهذا.

ما أقوله قد يكون نتيجة، ربما، للحرب، هذه التي أنظر إليها بإشفاق، وإلى المتحاربين فيها. لكن السلام أيضاً خدعة حربية. وكلاهما لا يغريانني. الحرب لجديتها، والسلام لعبثيته الكاذبة. فأنا، قبل الحرب وبعدها، أرى الأمر مضحكاً. وأعتقد أن شعري، الآن وفي الماضي، نجح حين عبث وفشل حين أخذ الأمور بجدية.

* بعد نشرك “المياه المياه” و”قبض ريح” في 1983 حتى مجموعتك هذه، لم نقرأ لك سوى كتابات قليلة في الصحف اليومية. أعتقد أن هذا كافٍ كي لا أطرح السؤال؟

– أنا متأسف لأني كتبت “قبض ريح”. فهذه المقالات، التي نشرتها تحت العنوان ذاته في إحدى الصحف الأسبوعية قبل أن أجمعها في كتاب، خلقت لي خصوماً كنت أحسبهم أصدقاء حميمين. ففي هذه المقالات أبديت رأيي في أمور عدة، ظن الأصدقاء أن بعضها ضدهم شخصياً. لكن أحزنني أن هؤلاء الأصدقاء أنفسهم طالما دافعوا عن حرية الرأي. ولا أزال أتساءل هل الحرية مباحة لأناس ومحظورة على آخرين؟ وهكذا، للأسف، اكتشفت الهوة العميقة بين أقوال البعض وأفعالهم.

أما ابتعادي النسبي عن النشر فله أسباب عدة: إني مقلّ أساساً، ولست مهووس نشر، وهاجرت فترة لا بأس بها بين باريس وأثينا، وعاطل عن العمل وغير مستقر، وأستحم يومياً بالقرف اليومي والقتل اليومي والنفاق اليومي.

في المساء يزورني بعض الأصدقاء ونتحدث عن الهجرة. بيتي قرب البحر، نجلس وننظر إلى السفن. نبحث عن وسيلة عيش في مكان آخر. ما عدنا نحتمل البقاء هنا. لو ان الأشياء تنهار ما كنا لنتذمر، لكنها تتراكم في شكل خسيس وعدائي ويجلب الغثيان. إننا اليوم في مزرعة لصوص حقيقية، غير أن حيواناتها قبيحة.

* هل يمكن أن يتوقف وديع سعادة عن الكتابة؟

أعرف الآن أن الكتابة عمل غير ضروري. إنها، كما أشرت سابقاً، مجرد خدعة استعملتها لخداع الحياة. لم أؤمن مرة بأن الكتابة تشفي، بل هي مرض مضاف إلى أمراض أخرى. لكنه مرض جميل، ويمكنني، في الوقت المناسب، أن أشفى منه.

أنا، للمناسبة، مغرم بجميع الكتاب الذين توقفوا عن الكتابة، حين وجدوا أن عليهم التوقف. حين وجدوا أنهم يدورون في مكان واحد ومجدب. الذين توقفوا اختياراً ووضعوا حداً في الوقت المناسب.

إني مغرم بغبريال نفاع. مغرم برامبو. ومغرم أيضاً بالذين وضعوا حداً لحياتهم: بميشيما وماياكوفسكي وسواهما. أحب المنتحرين، سواء كانوا كتاباً أو لا.

لا أعرف ما الداعي إلى الاستمرار بالكلام حين لا شيء لنقوله. ما الداعي إلى الحبو بين مجموعة من الراكضين؟ وأنا، كالناس العاديين، أجد التشدق شيئاً غير محترم.

لذلك سأتوقف يوماً عن الكتابة. ولكن الآن لا تزال لديّ بعض حكايات أقصها على نفسي. حكايات غير ضرورية غير أني أجدها مسلية. وهناك أمور أخرى يجب أن أضحك عليها ثم أنساها.

لذلك، لن أتوقف الآن. لم أصبح سوياً بعد.

صحيفة “النهار” اللبنانية في 29/3/1985

 

 

 

 

شارك مع أصدقائك