شارك مع أصدقائك

Loading

الشاعر والمترجم سهيل نجم

حاوره : إيهاب كريم

 

*-“القيثارة والقربان” أخذ وقتا طويلاً استمريت على العمل فيه لسنوات في تتبع وقراءة وأرشفة الشعرية العراقية

*-رصدت الأنثولوجيا التحول المحوري في الشعر العربي الذي تجلى في قصيدة النثر، الإنجاز الشعري الكبير

*- سان جون بيرس وأدونيس حطما الشعر العربي.

*- المشاكل التي تغص بها حركة الترجمة العربية  عديدة ومعقدة،

 

 

*  ‏إلى أي حد تأثر الشعر بالحرب والموت المجاني ولغة البيانات والشعارات السياسية ،وهل تعتقد أن الأجواء آنذاك هي من دفعت النص الثمانيني نحو الغموض والذاتية والجمل المركبة والمشفرة في بعض التجارب؟

*  من بين الفنون الكتابية كلها الشعر هو الأكثر حساسية والأكثر رهافة فمن الطبيعي تأثره بالحرب بوصفها ظاهرة كارثية يصاب بها المجتمع ويعيشها لحظة بلحظة فما بالك إذا تحتم أن يكون الشاعر داخلاً عنوة في خضم هذه الحرب بعنفوانها المتلاطم ليكون جندياً وبيده سلاح الموت ويوضع في امتحان سمج إما أن تَقتل أو تُقتل. الحالة الطبيعية والإنسانية أن يكون الشاعر خارج الحرب وعنفها لإن الشاعر في عمقه عاشق للحياة والجمال وهو الذي يمنح العالم الصورة المعبرة عن جوهر الكون وتأملاته فيه، ولا أظن أن أحداً في العصر الحديث يستسيغ الشعر الذي يمجد الحرب والتفاخر بها وببطولاتها، ربما كان ذلك الحال في العصور الهمجية التي كان شاعر القبيلة يمجد الغزو والقتل لأعداء قبيلته. وكان شعراء الحربين العالمية الأولى والثانية منهم على سبيل المثال إسحاق روزنبرج وهربرت ريد وروبرت نيكولز وويلفريد أوين الذين نعرفهم قد فضحوا بشعرهم تفاصيل لا ينتبه لها غير الشعراء وأكدوا من خلالها نبذهم للحرب ومآسيها لا العكس.

في الحرب التي عاشتها بلادنا في ظل حكم الطاغية ظهر كائن شعري مشوه سمي بالأدب التعبوي، وهو أبعد ما يكون عن الأدب والشعر وأقرب ما يكون إلى التعبئة السياسية والعسكرية التي تحث على الهمجية والعنف. كان الشاعر الحقيقي محاصراً، إذ أُغلقت دونه منافذ النشر وخصصت أكثرها لذلك المسخ الأدبي، وحتى المساحة الصغيرة التي منحت له عن تبرم ما كان له أن يعبر عن نفسه وتأملاته بحرية، وإن عبر عن استنكاره للحرب عموماً لربما وضع حياته على المحك، فما بالك لو انتقد النظام السياسي وتقديس الدكتاتور وما إلى ذلك؟

من هنا، كما هو معروف، دعت الضرورة الشاعر إلى أن يكتب بأسلوب غامض وملغز ليحافظ على جماليات الشعر وروحه الحية التي قُتلت بالتعبوية والإيديولوجيا الحربية البدائية. على أن هذه الظروف التي ذُكرت ليست هي وحدها التي جعلت القصيدة الثمانينية بهذا الشكل بل ثمة بالأحرى تأثيرات أُخر عالمية مثل التأثر بالشعر الفرنسي، وعربية، كالتأثر بالتجربة الأدونيسية وشعراء مجلة “شعر” اللبنانية.

 

 

  • هل تعتقد أن نصوص تلك الحقبة أخذت حقها ومكانتها من الدراسات النقدية والأكاديمية؟

لابد من القول أن ثمة التفاتات نقدية مهمة درست تلك الحقبة على يد نقاد معروفين مثل الأساتذة حاتم الصكر وفاضل ثامر وياسين النصير وطراد الكبيسي وغيرهم وفي الفترة الأخيرة بعد أن غادرت الصروح الأكاديمية تشبثها بالشعر القديم في دراساتها الأكاديمية، خصوصاً بعد أن تسنم المسؤولية فيها أكاديميون لهم روح الانفتاح على الظواهر الأدبية المعاصرة والشعر الحديث، فانفتحت على أيديهم دراسات أكاديمية اهتمت بدراسة التجارب الشعرية الجديدة العراقية عامة وتجاوزت التركيز حتى على شعر الرواد في الخمسينيات الذي أخذ نصيباً وافراً من تلك الدراسات خصوصاً التجربة السيابية. على قلة هذه الدراسات التجارب الجديدة وشحتها فهي تدعو للتفاؤل. لكن إجمالاً لم تنل التجربة الشعرية العراقية الجديدة، وأقصد تجربة قصيدة النثر، حقها الذي تستحقه فعلاً. وبرأيي المتواضع أن التجربة الثقافية العراقية عامة خلال نصف قرن تقريباً تحتاج إلى الكثير من الدراسات التاريخية والنفسية والسوسيولوجية والأدبية، وفي ضوء النقد الثقافي الشامل لدراسة مفاصلها الحيوية وإنجازاتها وإحباطاتها لكون هذه الحقبة تحمل في طياتها تحولات ثقافية واجتماعية وسياسية محورية في الحياة العراقية. وهذا السياق والنهج في الدراسة لم يحصل حتى الآن إلا أنني متفاءل بالتوجه الذي ذهب إليه الصديق الشاعر والناقد محمد غازي في ما كتبه من دراسات.

 

*  تكاد تكون “القيثارة والقربان” واحدة من أكبر وأوسع وأشمل الأنطولوجيات الشعرية التي جمعت بها ما يقرب من 100 شاعر منذ السبعينيات، باعتقادك هل ساهمت بأرشفة هذه النصوص؟

*  “القيثارة والقربان” أخذ وقتا طويلاً استمريت على العمل فيه لسنوات في تتبع وقراءة وأرشفة الشعرية العراقية، في أنموذج، قصيدة النثر تحديداً، وظهر أول الأمر في أنثولوجيات” صغيرة عملت جهدي في البداية لأن تظهر باللغة الإنكليزية، وظهرت بالفعل أولاً ضمن ملف طويل في مجلة “أتلانتا رفيو” الأميركية، ثم في كتاب منفصل باسم “أزهار اللهب” من ضمن إصدارات جامعة مشيغان، وبعد ذلك في أنثولوجيا أوسع عن دار “بلين فيو” في مدينة أوستن وكذلك طبعة أخرى عن دار المأمون للترجمة والنشر في بغداد، حتى صدرت في نسخة عربية موسعة ونصوص مضافة في “القيثارة والقربان” عن دار “ضفاف” العراقية. ولم يكن هذا الجهد منفرداً لي، بل أسهم فيه أصدقاء كثر، منهم من أسهم في الأرشفة ومنهم من أسهم في الترجمة في النسخ التي صدرت مترجمة.

ولا يمكن القول أن “القيثارة والقربان” قد أحاط بأرشفة قصيدة النثر منذ السبعينيات حتى الآن، فهو له ما له وعليه ما عليه، لكن من المؤكد، في اعتقادي، أنني سعيت إلى أن أكون موضوعياً على قدر الإمكان في اختياري للنصوص، إذ لابد لي من الفحص الفني للنص الشعري ساعياً إلى أن يكون ممثلاً فعلياً لتجربة الشاعر وللتجربة الشعرية العراقية، فبرأيي المتواضع ثمة الكثير من التجارب والنصوص التقليدية والبعيدة عن التمثيل وأنا اعتدت على قراءة النصوص بغض النظر عن أسماء كتابها بناء على فكرة ريتشاردز في قراءة النص الشعري.

 

ما هي التحولات التي رصدتها في هذه الأنطلوجيا سيما أنك تقول في مقدمتها “لقد سجل العراقيون تمرداتهم الشعرية عبر التاريخ وكانوا السباقين إلى الاكتشاف والإبداع في الأشكال الجديدة”؟

 

– رصدت الأنثولوجيا التحول المحوري في الشعر العربي الذي تجلى في قصيدة النثر، الإنجاز الشعري الكبير الذي تلا إنجاز الشعر الحر لدى جيل الخمسينيات وما كرسته منه التجربة الستينية. وبرأيي الشخصي، كما بينت في مقدمتي للأنثولوجيا أن التحول الشعري الجديد (قصيدة النثر) إمتد بوصفه تجربة فنية منذ السعينيات حتى اليوم، أي أنني هنا لا أميل إلى التقسيم العشري وأزعم هذه الفترة التي قد تقارب الأربعة عقود تمثل جيلاً واحداً لشعراء قصيدة النثر لكن لكل شاعر من الشعراء المتميزين تجربته الخاصة في الكتابة، بمعنى آخر أن قصيدة النثر ليست أنموذجاً واحداً أو خيمة واحدة يتفيأ تحت ظلها شعراؤها، وهذا هو ما يميز التجربة الحداثية الشعرية في أنها ذات ميدان واسع للتجريب والتجديد لكن ليس بمعنى العشوائية والمجانية. لأن “ثمة كذلك تساهل وضعف كبيران في نماذج قصيدة النثر المعاصرة. لغة هشة وتمثيلات غنائية أو تراكيب صادمة تلصيقاً وادعاءً، وتقليداً وامتثالاً لما يشبه الموضة” كما رصد ذلك الناقد المتمرس حاتم الصكر. المهم هنا أنني حرصت ما أمكنني على أن تكون النماذج الشعرية في الأنثولوجيا أضافت للشعر العربي عامة رؤى وتجارب إبداعية لم تتوفر عليها النماذج السابقة.

 

-‏من النص الثمانيني ذي البنية المفتوحة وتعدد الأصوات والفقرات في “فض العبارة” إلى القصيدة المكثفة والمشهدية والتي تبدو أقل انفعالاً في “لا جنة خارج النافذة” هل يمكن رصد تجربة سهيل نجم ومتابعة تلك التحولات النصية خصوصا وأن كل مجموعة تحتفظ بخصوصيها وتنزاح بعيدة عن الأخرى؟

 

-على قدر التعامل مع التحولات، لابد من ملاحظة أن سكونية البنية الشعرية تشير إلى موت الإبداع وتوقفه. وعموماً أنا لا يحسن بي الحديث عما إذا كان ثمة تحولات في كتابتي، فتلك مهمة الناقد الذي يرصد إن كان ثمة مثل هذا الشيء من عدمه. لكنني أفترض أنني لكوني أقرأ كل شيء تقريباً ومن مختلف المصادر المتغيرة كل يوم وأراقب ما أمكنني من تحولات على مستوى الواقع الحياتي وما أطلع عليه من تجارب متعددة ومختلفة في الكتابة الشعرية والنثرية، لابد أن ينعكس ذلك على أسلوبي الكتابي. أعني مادامت هناك انشغالات واطلاعات على كل ما يدور من حولي أجدني، ربما حتى بلا وعي مني، أميل إلى الكتابة بأسلوب مغاير يقنع ذائقتي وقناعاتي في الشعر في المرحلة الراهنة.

 

-الاشتغال الثقافي العام يضع الشاعر على حافة الأسئلة الحرجة، وهنا لابد من فتح واحد من الملفات التقليدية، هل تراجع الشعر أمام  الدراسات والسرد، وكيف تنظر لكتابة الشعر في عصر “الميديا” وما هي التأثيرات التي لمحتها بعد اجتياح الصورة أيضاً؟

-لا يمكن للشعر أن يتراجع أمام أي شيء ولا يمكن لأي قوة أن تزيحه، فلا نتخيل الحياة من دون الشعر، مثلما لا نتخيلها من دون القصة كذلك. وأرى أن الميديا أفادت انتشار الشعر، فالديوان في بلادنا، إذا كان تطبع منه ألف نسخة في المتوسط، ولا يقرأه ربما نصف هذا العدد أو أقل ورقياً، تجد له قراء يتجاوزون ذلك بكثير في الميديا، بغض النظر عن مستوى قارئ الكتاب الشعري الورقي، الذي هو في الغالب أكثر عمقاً، بينما يكون قارئ الميديا في الغالب سطحياً أو متعجلاً أكثر لغزارة ما يعرض أمامه من منشورات مختلفة. مع هذه المفارقة ثمة حياة جديدة للشعر على صفحات الميديا تثبت حيويته ووجوده. وكذا الحال مع مقارنة قارئ الشعر بقارئ الدراسات والسرد. ثمة ظلال في داخلية الإنسان لا يغطيها إلا الشعر بكونه المهيمن على هذه الظلال. ثم أن الشعر يزود الإنسان بالطاقة الروحية الخاصة التي لا يمكن لغيره من أنماط الكتابة شحن هذه الطاقة، والتخلي عن هذه الطاقة يجعل الإنسان متصحراً أو في حالة من الصفير الفراغي إذا صح التعبير. فضلاً عن ذلك يعد الشعر المحرك الفعال والأساس للتجديد في اللغة لما يستدعيه العقل الشعري، عبر لا وعيه في حالات كثيرة، وعبر وعيه باللغة واحتكاكها بالخيال الخلاق، من إبداع علاقات جديدة لم تخطر على بال العقل اللغوي الساكن والمعتاد.

 

– هل لترجمة الدراسات الثقافية أثر على التجربة الشعرية، وهل ما يترجم بشكل عام يرفد التجربة بجملة من التصورات الشعرية والمفاهيم التي قد تسهم في إيجاد فضاءات نصية جديدة؟

-الدراسات الثقافية حاجة ماسة وزاد معرفي يثري عقلية المبدع الشعرية ويخصب فكره وتجربته ما يوفر له رحابة ذهنية قادرة على تعمق في التفكير يستند إليه في إيجاد تلك الفضاءات النصية الجديدة التي نوهت إليها في سؤالك. وليس جديداً ارتباط الشعر بالفكر والفلسفة إن لم يكن الشعر هو أبو الفلسفة منذ انطلاقته الأولى، حين خلق الشعر العلم والأسطورة والفلسفة في بودقة واحدة هي القصيدة الأولى.

 

 

-‏بوصفك شاعراً ومترجماً هل تتابع ما يكتب الآن؟ وهل ترى تشكل لملامح شعرية جديدة تتلائم مع الحياة الجديدة؟ وما هي ملامح وخصائص هذه النصوص؟ وهل يمكن اعتبار سهيل نجم من الشعراء المتابعين حتى اللحظة ما يحصل في الوسط الشعري العراقي؟

-نعم ثمة ملامح جديدة أراها بالفعل تتلائم مع حياتنا الراهنة، أقرأ بأمعان ومتعة تجارب كتابية جديدة لدى شعراء لهم باع في الشعر يكتبون بطريقة أكثر كثافة وذات جمالية فيها خرق للسائد عبر لغة تكشف أكثر مما تستر لما هو مخبوء في الظل، لها القدرة على جذب القارئ من دون أن تحمل في طياتها ما يسمى بـ “عار الدهشة”، أي أنها تحمل دلالاتها العميقة والموحية بجمالية لا تستند إلى شكلية متخشبة ومزخرفة مثل تحفة سيراميكية لا حياة فيها. أتابع وحب لتجارب شعرية أراها ساحرة في توظيفها للغة وتشبثها بحيوية لافتة في إيجاد قراءة خاصة للواقع والتاريخ، إنها في الواقع تتمكن من التوفيق بين العالمين الداخلي والخارجي بمخيلة خلاقة، فضلاً عن توفرها على معرفية تبعدها عن السطحية والارتخاء.

 

 

-كثير من الشعراء العراقيين الكبار انشغلوا بالترجمة أمثال سعدي يوسف وسركون بولص وسامي مهدي وعبدالقادر الجنابي وكاظم جهاد والقائمة تطول، هل ترى أن الترجمة أسهمت في التحولات الشعرية العربية والعراقية ؟ وإلى أي حد؟ خصوصاً و أن تأثيرات سان جون بيرس وريلكه ورامبو وبودلير مازالت واضحة على بعض التجارب الشعرية؟

-أتذكر هنا قولاً لأحد أساتذتنا عندما كنت في كلية الآداب، وهو ناقد معروف، مفاده أن سان جون بيرس وأدونيس حطما الشعر العربي. ولا آخذ تصريحه هذا على محمل الجد بالطبع. إلا أن ثمة بالتأكيد منحى في تقليد الآخر قاد إلى سطحية وهامشية شكلية أفرغت الحداثة الشعرية من محتواها الدلالي. لكن أدت الترجمات وتؤدي أبداً وظيفة حساسة ومهمة في التثاقف الحضاري بين الثقافات العالمية. وقد أفضت ترجمات هؤلاء الشعراء وكثيرين غيرهم إلى تأثيرات مهمة على صعيد بناء القصيدة العربية والفكر الذي فيها. وهنالك دراسات كثيرة ركزت على تأثر الرواد كالسياب والبياتي وصلاح عبدالصبور بالشعر الأنكلوسكسوني مثل شعر إليوت وأديث سيتويل وفيما بعد جاء التأثر بالشعر الفرانكفوني مثل شعر رامبو وبودلير وسان جون بيرس ومن بعد هؤلاء ثمة شعراء تأثروا بلوركا وناظم حكمت وشعر ريتسوس وغيرهم. برأيي أن من المفروغ منه أن يكون الشاعر العربي بحاجة كبيرة إلى الاطلاع دوماً على العوالم الشعرية في كل مكان في الأرض خصوصاً تلك العوالم التي تتوفر على حرية في التفكير والتعبير الشعريين، لأننا اليوم في عالم يشكل حاضنة فيها الكثير من المشتركات وفيها توحد في المصائر ولدينا ينابيع مشتركة في الهموم الإنسانية ولا يؤدي الإنغلاق على الذات إلى مشاريع رحبة في الخلق الشعري.

 

-ترجمت لبيري ساندرز عملين “اختفاء الكائن البشري” و”الضحك” والشاعر هو الأكثر حرصاً على لغته يدخل إليها مترجما ما  تحتاجه ويدعم داخلها حركة الفكر والنقد فما هي الميزات التي لفتت انتباهك لتجعلك مهتماً به؟ وكيف نشأت تلك العلاقة بينك مترجما وبين هذه الدراسات الثقافية الجديدة والمعاصرة؟

 

-ما لفت انتباهي في كتب بيري ساندرز هو أولاً منهجه الفكري الحر في النقد الثقافي لا في التنظير بل في تطبيق المنهج على نحو رحب. وبسبب سعة اطلاعاته الفلسفية والفكرية والأدبية تمكن من قراءة التاريخ بعمق وانتبه إلى مفاصل تربط الأدب والحياة والتاريخ على وفق رؤية حرة وغير مؤدلجة إحادية الاتجاه بل رأيته يركز على فضح التناقضات في المركزية الفكرية الغربية مثلما فعل أدوار سعيد وجاك ديريدا وميشيل فوكو وغيرهم كثر ممن استند إليهم في طروحاته إلا أنه تميز عنهم بأسلوبه الأدبي وبلاغته والمتعة الخاصة في التأويلات الأدبية القرائية للأعمال الأدبية فضلاً عن إحاطاته بالإنجازات العلمية والتوظيفات السياسية لتلك الإنجازات. لدى ساندرز القدرة اللافتة على إمتاع القارئ وتنويره. وهو بذلك يسير على خطى الكثير من المفكرين الأميركيين الذين عملوا على تفسير النظريات والدراسات الفلسفية الألمانية والفرنسية وطبقوها على الأدب والحياة والتاريخ.

 

-‏انشغل الناقد المغربي عبدالفتاح كليطيو في كثير من كتبه بمناقشة اشكاليات الترجمة منها “لن تتكلم لغتي” و” أتكلم جميع اللغات لكن بالعربي” وهذا كله امتداد لإشكاليات تثار منذ الجاحظ ومدى نجاعة نقل الشعر من لغة إلى أخرى، لكني هنا سوف أثير اشكالية تخص سهيل نجم على وجه التحديد، إلى أي مدى يمكن أن تتداخل شعرية سهيل نجم العربية وتؤثر على النص المترجم؟ وهل تعتقد أن صوتك الخاص أثّرَ بشكل أو بآخر على النصوص التي كنتَ قد ترجمتها؟

 

-منذ أن أخترت دراسة اللغة الإنكليزية وفي ذهني الاطلاع على إبداع الآخر، وحين تسنى لي ذلك الاطلاع تولدت لدي رغبة في أن أكون جسراً يوصل هذا الإبداع إلى اللغة العربية والقارئ العربي ولم يكن هذا الجسر معبداً ففيه مطبات وعوائق لابد من التمعن والتركيز والصبر والمعاناة ليكون التوصيل أميناً. الترجمة إبحار من ضفة لأخرى وتكتنفها الكثير من المخاطر. فقد يفشل التوصيل لضعف الأداة. أكثر ما يجابه المترجم من مصاعب هي أولاً الفهم الصحيح للرسالة التي يريد النص الأجنبي توصيلها، وفي الشعر لابد من إدراك التكنيك المجازي للغة الأصل ومن ثم تملك الأدوات اللسانية القادرة على التعبير وهذه مهمة عسيرة وتحتاج إلى مران وتدريب طويلين. وفي ظني أن الشاعر أكثر من غيره مؤهل لترجمة الشعر بسبب من معرفته بأسرار البنية الشعرية وما تنطوي عليه الكتابة الشعرية من انزياحات تخرجها عن منطق الكتابة النثرية. هكذا تعاملت مع النصوص التي عملت على ترجمتها. ولم أترجم نصاً لم أفهمه جيداً. وعبر هذا الفهم أسعى إلى الأمانة في الترجمة ولا أقحم طريقتي في كتابة نصوصي عن وعي، لكنك تجد في الغالب أن أسلوب الشاعر يظهر في ترجماته وإن زعم غير ذلك. في الوقت نفسه لابد من المحافظة على جمالية الأسلوب الشعري العربي ولابد من المرونة في ترجمة الشعر والابتعاد تماماً عن الحرفية والخضوع لأسلوبية النص الأجنبي التي إن حدثت ستبدو الترجمة مشوهة ويكون النص في غربة.

 

-‏صدرت لك مؤخراً ترجمة مشتركة مع الشاعر محمد تركي النصار، فماذا يعني أن تصبح الترجمة مشتركة وكيف يمكن أن يقدم هذا الإشتراك النص المترجم؟

-ذهب بعض الأدباء والكتاب بعيداً وكتبوا نصوصاً شعرية مشتركة وروايات مشتركة، أما الاشتراك في العمل الترجمي فأراه أيسر من ذلك بكثير. وبسبب ما تجمع لدينا أنا والصديق محمد النصار من اهتمامات مشتركة في قراءات واطلاعات على الشعر العالمي ومناقشاتنا المستفيضة لأساليب الشعراء وإنجازاتهم تولدت لدينا رغبة مشتركة للعمل سوية على اختيار قصائد للشاعر الأميركي البارز بيلي كولنز وترجمتها بعد الاطلاع على نقود ودراسات تدرس أهميته الشعرية فضلاً عن قراءة حوارات لهم يتحدثون فيها عن نظرياتهم في الشعر. فنحن نشترك في اختيار النصوص ويراجع كل واحد منا ما ترجمه الآخر. وأعتقد أننا بهذه الطريقة نتوصل إلى صياغة ترجمية أكثر دقة وجمالية. وثمة نية لكلينا على الاستمرار في هذا التعاون لترجمة شعراء آخرين بعد بيلي كولنز.

 

-هل ثمة انحيازات شخصية تتحكم بما تنقله للعربية أم ثمة معايير معينة، وكيف تقيّم حركة الترجمة العربية؟

-لابد من الانحياز والاختيار بما تمليه الميول الفكرية والفنية، فلا عبرة بترجمة كل ما يقع تحت اليد، ثم أننا نحتاج إلى ترجمة الآفاق الإبداعية لا الهوامش بالاستناد إلى المعايير النقدية الرصينة المتاحة. ومن ناحية أخرى، نجد أن ما يستحق الترجمة كثير جداً ونحن لكوننا بحاجة ماسة إلى المثاقفة وإلى ردم الهوة الحضارية الكبيرة بيننا والغرب، والشرق حتى، مقصرون في تتبع الإنجازات الثقافية العالمية وترجمتها، وللأسف الشديد ما جهودنا إلا جهوداً فردية متواضعة لما هو مطلوب فعلاً.

أما المشاكل التي تغص بها حركة الترجمة العربية فهي عديدة ومعقدة، إبتداء بمراكز وكليات الترجمة التي قليلاً ما تنتج مترجمين بارعين وانتهاء بمؤسسات الترجمة والنشر الرسمية التي لا تلبي الحاجة في احتضان المخطوطات المترجمة، ويمكننا القول أنها في العراق اليوم ميتة سريرياً، مروراً بدور النشر الأهلية التي يؤسفني القول أنها تصادر حقوق المترجمين وتستغل جهودهم لتعاملهم كالأجراء البائسين فلا تمنحهم من الحقوق إلا الفتات بينما هم يبنون صروحهم ومعارضهم الكبيرة على حساب أولئك الأجراء.

شارك مع أصدقائك