الشاعر والمفكر أدونيس
نعم.. أنا شاعر وكاهن وسياسي
حاوره : الشاعر وديع سعادة*
* في «مفرد بصيغة الجمع» تبرز لغتك الشعرية. أنت تنشد التجديد، وتريد خلق لغة شعرية جديدة وخاصة. ما هو مفهوم التجديد الشعري في نظرك؟
** اللغة الشعرية نتيجة لموقف وليست سبباً. وليست اللغة الشعرية صيغة أو مفردات، وإنما هي مقاربة باللغة للعالم. لذلك قبل الكلام على هذه المقاربة لا بد من الكلام على الموقف. ويمكن تلخيص الموقف بأنه ثورة شعرية بالمعنى الشامل والجذري. وقد يبدو متناقضاً أن نتكلم على ثورة شعرية في مجتمع لم يحقق بعد ثورته الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية. غير أن هذا أمر واقع يضيئه من الناحية النظرية مبدأ التفاوت في البنى. أي التفاوت في التطور والتغيير. ولا تتمثل هذه الثورة كما يشيع حتى الآن في مجرد الخروج على التفعيلة الخليلية ولا في مجرد الكتابة بالنثر أيضاً. وإنما تتمثل في تغيير مفهوم الشعر كما ورثناه وتغيير النظرة إليه وتغيير الطرق الموروثة لمقاربة العالم شعرياً. هذا هو أعمق ما في الثورة الشعرية العربية اليوم. إن كثيرين ممن اكتفوا بالخروج على التفعيلة الخليلية يكتبون شعراً أكثر تخلفاً من أدنى نتاج شعري قديم. كذلك تجد بالمقابل كثيرين ممن يكتبون نثراً ينطلقون من مفهومات تقليدية وينقلون رؤيا تقليدية. ضمن هذا الإطار يصح الكلام على اللغة الشعرية. فمثل هذه الثورة تقتضي بالضرورة لغة شعرية جديدة. وطبيعي أن دراسة هذه اللغة لا يمكن تحديدها بصيغ جاهزة أو وصفات، وإنما تدرس ميدانياً، فهي تختلف من شاعر إلى شاعر وربما اختلفت من قصيدة إلى قصيدة. ذلك أنها لغة تتحرك في أفق متغير باستمرار. وهي تفلت من كل تحديد نهائي، وهذا الإفلات خاصة أساسية من خواصها. وإذا صح أن ندرس اللغة الشعرية وفقاً لمبادئ علم جمال القاعدة أو علم جمال الثبات، فإن اللغة الجديدة لا نستطيع أن ندرسها إلا وفقاً لعلم جمال المتحول. أو علم جمال التغير.
* لكي نحدد أكثر، أعطنا مثلاً تبسيطياً للأفق الذي تسير فيه هذه اللغة الشعرية.
* * سأعطيك مثلاً يوضح بعض الفروقات الكبرى بين هذه اللغة واللغة القديمة. إنه الفرق بين المحتمل واليقيني. اللغة الشعرية القديمة هي لغة اليقيني ولذلك هي لغة الأفكار الواضحة، المباشرة، العينية، العقلية. وهي بالإضافة إلى ذلك لغة الوضوح السطحي والحكمة. مثلاً يقول زهير بن أبي سلمى:
ومن لا يصانع في أمور كثيرة
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ويقول المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم……
وهكذا.. فهذا كلام ليس فيه من الشعر إلا الوزن. أعني أنه ليس شعراً. ذلك أنه لا ينقل تجربة الشاعر، وإنما ينقل أفكاراً عامة جاهزة وشائعة. والشاعر هنا مجرد وسيط وكل قارئ يعرف هذه الأفكار كما يعرفها الشاعر. وهو ليس بحاجة إليه لكي يعرفها. بينما بالمقابل إذا قرأنا مثل هذا البيت لشاعر عربي اسمه الشريف العقيلي:
ضاقت عليّ نواحيها فما قدرت
على الإناخة في ساحاتها القبل
فالشاعر هنا لا ينقل لنا أفكاراً، شائعة عن الحب وتجربة القبلة والحنين إلى الحبيبة، مما هو شائع في الشعر العربي القديم والحديث. وإنما ينقل إلينا حالة ـ صورة. وهذه الحالة ـ الصورة لا يعرفها القارئ قبل هذا الشاعر. لذلك حين يقرأها يشعر بأن أفقاً يتفتح أمامه، ويشعر أن عالمه يزداد غنىً، بخلاف الأمر حينما يقرأ النموذج السابق. ضمن الأفق الثاني تسير اللغة الشعرية الجديدة.
* كما في هذين المثالين، نلاحظ أن الرموز الصورية، واستعمال الأحرف المفردة، كثيرة في ديوانك الجديد «مفرد بصيغة الجمع»، مثلا: المربع والمثلث وشارة اللانهاية والأسهم.. و: دال،تاء، واو، نون، سين، ألف… الخ هل هي عناصر ضرورية للغة شعرية جديدة؟
* * كما تقتضي الثورة الشعرية لغة شعرية جديدة، فإن اللغة الشعرية تعني فيما تعني كتابة جديدة. وتقوم هذه الكتابة على مختلف عناصر الخط، كلماتٍ وأشكالاً خطية. فالمثلث والمربع وشارة اللانهاية والحروف المفردة والأسهم، هذه كلها امتدادات للكلمات، وترسيمات تعطي للكلمة بعض أبعادها الحسية أحياناً، وأحياناً تشير إلى ما لا تقدر الكلمة أن تلتقط. وهكذا يجب أن ننظر إلى البياض، مثلاً، في الصفحة، وإلى الفراغات، حتى نسق الأسطر يلعب دوره في هذا المجال. وفي هذا ما يخرجنا من عالم السماع الذي يقوم عليه الجمال التقليدي، أي عالم الخطابة، إلى عالم التأمل والانخراط في النص، كأننا ننخرط في شبكة، أي إلى عالم الكتابة. أضيف إلى ذلك أن لاستخدام بعض الحروف قيمة صوتية لا تتوافر في كلمة أو كلمتين. وفيها، إلى ذلك، استدعاء سحري ورمزي يتعلق بخصائص الحروف.
* «نمحي وجهينا ـ نكتشف وجهينا» «نلتقي ـ نفترق» «للحب منفى الحب» «لم يعد يرى ـ أعني بدأ الآن يرى»… الخ. كيف تفسر هذا التضاد، أو التناقض، الوافر في شعرك؟
* * هذا التضاد، أو التناقض، الذي تشير إليه هو على العكس علامة الوحدة. فعلى مستوى الواقع ليس الإنسان ما هو بل ما يكون. وإذن الإنسان ليس الرغبة التي تحققت وإنما هو الرغبة التي تحركه إلى ما هو أبعد. فكأنما في صميم الإنسان حركة تنفيه بقدر ما تثبته، وبقدر ما تنفيه تثبته. وعلى مستوى النظر ليس هناك تجربة غنية إلا التجربة المتناقضة. إنها التجربة العظيمة في جميع المجالات وعلى جميع المستويات. هي تلك اللحظة التي يتعانق فيها الموت والحياة. حينما يعيش الإنسان أعلى أشكال النشوة يكون في الواقع في أقرب لحظاته إلى الموت.
التجربة الجنسية تضيء ذلك لمن يعرفها حقاً. فالحياة شكل من تراجع الموت، والموت شكل من تراجع الحياة. وبهذا المعنى كل تجربة عظيمة لا يمكن إلا أن تكون تناقضية ومأساوية.
* تقول: «نعقد صلحاً مع الصعاليك. ننشئ سلطة الإبادة» وأيضاً: «سلاماً للفساد الخالق/ الأليف كأنه الهواء.. المؤسس كأنه البدء» و«أنا المتوثن والهدم عبادتي» إلى ما هناك من دعوة إلى الهدم والعنف. كيف يمكن لشاعر خلاق أن يطلب الإبادة وأن يتخذ العنف طريقاً. أليس هذا نقيض الشعر والخلق؟
* * حين تعيش في عالم لا يواجهك فيه على جميع المستويات غير القمع أو القيد فإن الفوضى تصبح الشريعة الإنسانية بامتياز، يصبح الشر خيراً، والفساد صلاحاً، والعنف سلاماً.
* أحد الشعراء الفلسطينيين اتهمك قائلاً: «يأتي أدونيس ويثير قضايا بعيدة كلياً عن وقوف الشعر في وجه المؤامرة الدائمة، وهذه هي مؤامرته على الشعر أساساً» نطرح هذا السؤال لتوضيح الأمر.
* * لا أعرف أن أتكلم بلغة المؤامرة فهذه أتركها لغيري. فليتسلوا بها ولينعموا. ثانياً، ليست هناك قضايا بعيدة عن الشعر، جميع القضايا شعرية، وما أهدف إليه، وأحرص عليه أيضاً، هو العمل على أن تظل للشعر خصوصيته وأن نتكلم على الشعر، سواء كان سياسياً أو غير سياسي، بلغة الشعر وحده. إن أحد وجوه أزمة الحركة الشعرية العربية الجديدة هو الكلام على الشعر بلغة من خارج الشعر. وهذا يؤدي إلى قتل الشعر وإلى عدم خدمة السياسة في الوقت نفسه. السياسة العظيمة هي رؤيا ثقافية عظيمة. وهي بهذا المعنى جزء من الشعر. وكل إلحاق للشعر بالممارسة السياسية اليومية لا يكشف فقط عن جهل بالشعر والسياسة معاً وإنما يكشف عما هو أخطر. عن شكل من أشكال الموت الحضاري. وعن شكل من أشكال موت الإنسان.
* يقال أيضاً إنك «كنت هارباً وها أنت عائد الآن إلى الكاميرا من جديد».
* * من المؤسف أن الذين يقولون هذا القول ينسون الألف باء.. ليست الثورة شكلاً محدداً ولا مكاناً محدداً ولا تعبيراً محدداً، وليست كذلك وقتاً محدداً. وأكثر من ذلك ليست شعاراً محدداً. الثورة حركة كاملة وجذرية، وما لا تقدر أن تمارسه هنا يمكن أن تمارسه هناك. وما لا تقدر أن تفعله في هذه اللحظة تفعله في لحظة تالية. وما لا تقدر أن تعيشه في مستوى معين ومجال معين يمكن أن تعيشه في مجال آخر ومستوى آخر. إن من أهم معوقات الحركة الثورية هو أن تتحول الثورة إلى ثوب مفصل تفصيلاً خاصاً على جسد خاص، وهو أن تصبح خيطية البعد. وهو أن تتحول إلى ستار يختفي وراءه بعضهم لنفثوا أحقادهم أو ليتسلقوا على حساب غيرهم. كل ما أستطيع أن أقوله في هذا الصدد هو: أرجو من هؤلاء الذين يقولون هذا القول أن ينظروا في أنفسهم قبل أن يحاكموا الآخرين. وإذا كان من شيء يجب أن تتطهر منه الحركة الثورية في تعاملها فهو هذه العقلية الاتهامية المجانية التي لا تسيء أخيراً، إلا إلى الثورة نفسها. إن الثورة هي أيضاً، وفي الدرجة الأولى، حركة من الارتفاع بالإنسان وحركة تفجير لطاقاته الخلاقة. أما تحويل الثورة إلى حركة من الاتهامات والشتائم فأمر يتحول إلى سلاح في يد أعدائه. عدا أنه يقزمها ويخرجها شيئاً فشيئاً من حلبة التاريخ. أما الكاميرا فلم أسعَ في حياتي إليها، بل كثيراً ما رفضتها وهي تسعى إليّ، لكن ما ذنبي إذا كان لي حضور لا يمكن أن يقوى على طمسه أي شيء. إنني، أخيراً، لا أتهم أحداً ولا أحقد على أحد، ذلك لأنني لست في موقف المدافع ولا يمكن أن أقف هذا الموقف لأنني أرفض أن يعلمني في هذا المجال أي إنسان أي شيء.
* وقال عنك صلاح عبد الصبور أنك «تخلط بين الشاعر والكاهن والزعيم السياسي» .
* * نعم. أنا شاعر وكاهن وسياسي. لكن بالمعنى الذي يرى إليه الشعر. وكما أن الشعر منفتح على كل شيء، فإن الشاعر هو أيضاً منفتح على كل شيء. فالقصيدة ليست مجرد صور أو مشاعر أو تخيلات أو لغة. وإنما هي حضارة كاملة في مستواها وفي إطار منظورها. القصيدة هي كون مصغر.
*- مجلة «الأسبوع العربي»، بيروت، 29 آب 1977