موفق محمد: مسافة الغياب بين الكوميدي والفجائعي..د. حاتم الصكَر

شارك مع أصدقائك

Loading

موفق محمد: مسافة الغياب بين الكوميدي والفجائعي

حاتم الصكَر

بغياب الشاعر موفق محمد (1948-2025) يكون العراق قد فقدَ واحداً من أبرز شعرائه المؤثرين في مقام التلقي والتقبل لقصائده شعبياً، والمتميزين بملفوظ شعري يتسم بالصراحة والجرأة، والجاذبية الخاصة بما تحتويه قصائده من إشارات وإحالات لها مغزى كبير في الوعي الجمعي. وذلك يفسر تداولها بشكل واسع علامة على ملامستها هموم الإنسان ولحظة خذلانه الدائمة والمتجددة الأسماء والصفات.
تعتمد قصيدة موفق نهجاً هو بعض انعكاسات حياته المضنية على شعره. مثل اتخاذ المساخرة القائمة على عمقٍ يغور في طبقات الوعي ويستحضر أبرز ما يمكن رصده من إشارات المعاناة وأكثرها دلالة على الرفض والإدانة.
لقد قرّبت طريقة موفق محمد الشعرية قصائدَه من متلقّين عامّين، لا يمكن كسبُهم للقراءة بطريقة أخرى. تماماً كما فعلت قصائد الماغوط في تنمية تلقي القصيدة الحرة، والبناء على خطابها في النقد والمفارقة الممضة التي تتجسد في ثنائيات حادة تستوقف مخيلة القارئ وتصوراته عن الموضوع الذي انصرفت له القصائد، إدانة للواقع، وتنبيهاً على العجز والزيف والمظالم.
المساخرة والطرفة أو الكوميديا الموصوفة بالسوداء في شعره، لا تترفع عن إيراد أكثر الألفاظ عنفاً وخروجاً على المألوف. لاسيما وهو يتوفر على طرف آخر هو التراجيديا الفجائعية البالغة الأسى. ويربط بها كوميدياه التي كانت عنواناً لأهم قصائده، والتي يمكن فهْم شعريتها أداء ومضمونا ًضمن المزاج الشعري الستيني القائم على تبني شعارات التمرد والرفض والتجاوز. فكان موفق يجسّد ذلك خارجاً على تقليدية اللغة التي تعلّمها في الجامعة، وحقق في استخدامها شعرياً انزياحات عديدة، وخرج على المنظور المتوارث لمعنى الصدق والجمال في الشعر، ليجعل من المفارقة جزءاً من ذلك الهدف، من دون التخلي عن جسارة صورية ولغوية لا تتنازل عن استخدام أكثر الألفاظ دلالة على ما يريد، مهما يحف بتلك المفردات والتراكيب والصور من محاذير تدخل كلاسيكياً في المحظورات. وكان أول تعارف شعري مع موفق محمد بشكل واسع ومهم هو نشره لقصيدته التي عرفه من خلالها الوسط الشعري الستيني «الكوميديا العراقية» عام 1972.
يكتب ابن مدينته الشاعر علي عبدالأمير عجام خلاصة طيبة عن مركز الخطاب الشعري في تلك القصيدة بالقول: «إن موفق في (الكوميديا العراقية) لم يتوقف عند سؤال: أيكتبُها موزونةً أم نثرا؟ ففيها من الإثنين، بل هو اجترح فيها، ما سيكون لاحقاً، أسلوباً خاصاً به: العربية الفصيحة الى جانب العراقية الدارجة، وبأشكالها الشعرية الشعبية السائدة: (الأبوذية)، (الزهيري) وغيرهما».
ويمكن لنا أن نضيف لثنائية النثر والوزن، وثنائية الفصحى والدارجة الشعبية، ذلك الاقتران المصنوع بمهارة وذكاء بين الكوميديا بطرافة مفرداتها ومواقفها وأحداثها وأمثولاتها، والفجائعية المدمِّرة حزناً وأسى. حتى قبل أن يفقد ابنه في لجة الأحداث في العراق عام 1991، واقتياد الفتى إلى مصير مجهول، تم تغييبه فيه إلى الأبد، على يد قوات الأمن في العهد الدكتاتوري.
وفي ذلك الحدث القاتل والواقعة المفرطة حزناً، كتب نصاً ضمن نصوص كثيرة عنوانه باب الأبد:
«لفّنا ليلٌ غرابيّ الجناح
فاغلقي الباب
فلم يأتِ أحد
وادخلي تابوتك المكتظ بالرعب ونامي
ودعي صدرك مفتوحاً
فقد يأتي الولد
ربما من آخر الدنيا ومن باب الأبد
وارسمي الوجه الذي غُيِّب في كل المرايا
دون أن يدري أحد
افتحي القلب ففي الباب شظايا
وبقايا من جسد!».
بتلك المزاوجة النوعية، حقق موفق السبق في تطوير الخطاب الساخر الذي لم تعرفه الشعرية العربية كثيراً خارج أطر الهجاء أو الشعبويات القائمة على النوادر، والنكات العابرة للضحك فحسب. وقد ترك لنا محمد مهدي الجواهري نموذجاً تقليدياً فيه بعض الرصانة في النقد السياسي الذي تخصص فيه الشعر العراقي المعارِض أو الرافض للأوضاع السياسية والاجتماعية، بقصيدته «تنويمة الجياع»:
«نامي جياع الشعب نامي
حرستك ِآلهة الطعامِ
نامي فإن لم تشبعي
من يقظة فمن المنامِ
نامي على زَبَد الوعود
يُداف في عسل الكلامِ».
وحاول فيها الجواهري أن يطور عبر مُماثلةِ تناصٍ قريبةٍ في الإيقاع والتقفية، قصيدةً لمعروف الرصافي تقوم على معنى مماثل وغرض قريب، وهي قصيدته:
«يا قوم لا تتكلموا
إنّ الكلام محرمُ
ناموا ولا تستيقظوا
ما فاز إلا النُوَّمُ
… إن قيل هذا شهدُكم
مُرّ فقولوا علقمُ
أو قيل إن نهاركم
ليلٌ، فقولوا مُظلمُ».
أما في المدونات الشعرية الحديثة فالطرافة والمساخرة والمفارقة، تتمدد لتلامس جوانب عديدة ، بجوار الشعر وبالقرب من الغرض.
أحياء مازلنا أحياء
نحيا في حي الأسرى والمفقودين
وحي الشهداء.
الوطن في رؤية موفق محمد ليس رقعة جغرافيا، وحنيناً ساذجاً لحضاراته ومنجزه البشري، بل اندماج في طقس قريب من الفناء الصوفي والاتحاد به. فنشأته البابلية جعلته يستحضر شواخص المدينة التي كرّت عليها آلاف الأعوام، ومرَّ بها الغزاة والطغاة والغلاة، وأمعنوا في تدميرها، لكنها ظلت توحي بالكثير، مما سنجده يتناثر كِسراً وجزئيات في المفارقة المقصودة، فيسترجع جلجامش وتفاصيل ملحمته، ويبثها في تضاعيف نصوصه.
لقد استذكرتُ هنا ما كتبه تيري إيغلتون في كتابه «فلسفة الفكاهة» عن اللاذع في الفكاهة التي يمكن أن «تهدئ من الأجواء العدائية من خلال الجمالية الشكلية التي تحتويها…(فهي) شكل من الفكاهات التي تعطل التوقعات التقليدية، وتنحرف عما يمكن التنبؤ به. باستخفاف دون ضغينة المتشدد السياسي أو قسوة البرجوازيين». مستدركاً أن البرجوازي «قد يتباهى بتحرره من الأعراف الاجتماعية، لكنه ليس مستعداً لرؤيتها تنهار»..ويمكن لنا أن نصنف طرافة قصائد موفق على وفق ذلك بكونها تمثيلاً للقيم التي يحملها الشاعر، لغرض التغيير والإحساس بالانتماء لعصره ووطنه وجماعته.
تكون الطرافة بحسب إيغلتون أيضاً، سلاحا بحدّين: للكلام اللاذع بانسيابية وبراعة وتصادم، وللطعن أيضاً حاذقة ومميتة وجارحة. لكن الشعر يضفي عليها لدى موفق محمد نكهة محلية، تتغلغل في طيات الفكر الشعبي وتصوراته وأمثاله وأساطيره وخرافاته. ليبني عليها وقعاً في التلقي قلّ نظيره في استقبال القصائد السياسية مثلاً. كما تجعله يتجاوز الحرفة الشعرية التقليدية إلى ذلك الخليط الذي يصنعه بمهارة وزناً ونثراً. لقد نجح في أن يتجاوز أيضاً رتابة الخطاب النقدي للحكم أو السلطات والأعراف، خالقاً نمطاً يقوم على موازنة دقيقة بين القصد والمبنى المتحقق في النصوص. وكثيراً ما عثر على ذلك في ألفةٍ تقرّبه من قارئه، فيبوح له بما في أعماقه.
ها هو يكتب نصاً متفرداً في استباق الموت، يمكن أن نضمه بجانب نصوص لدرويش وأمجد ناصر والسياب وغيرهم، ممن تأولوا لحظة الغياب القادمة واستبقوها، فأقاموا عليها نصوصاً تنطلق من فجائعيتها لكن من دون أن تتحد بها كواقعة، بل تذهب بعيداً في تأمل كنهها.
يتعاضد هنا أيضاً الطريف والكوميدي المتشح بالسواد مع التراجيدي الفاجع، فيخاطب المشيعين المفترضين:
«كل ما أرجوهُ من السادة المشيّعين السائرين بي إلى مقبرة السلام قريباً من قبرِ أبي أن يرسموا في شاهدتي ناياً يصدح وقنينةَ خمرٍ تضيءُ لي الطريق وأن يغادروا قبري قبل أن يبدأَ الملقنون فلا وقت لدي.. في الليلةِ الأولى سأزور الشهداء القديسين
وأراهم يفركون راحاتهم ندماً.. وأقول لهم طبتُم موتاً فما زال أطفالكم يشحذون في الإشارات الضوئية ونساؤكم يتقوسنَ بين التقاعدِ والعقار وأمهاتكم، في آخر صيحاتِ الموت تلالٌ من العباءات السود تطيرُ نائحةً إلى السماء».
في مدينة الحلة مركز محافظة بابل، حيث ولد وعاش ومات على ضفاف الفرات، يشخَص تمثال موفق محمد. ويُعد سابقة في سياق النصب والتماثيل، حيث شُيّد للشاعر في حياته ورآه بنفسه. وكان اختيار أجزاء من شعره على جهات التمثال ذات دلالة كبيرة، ومنها:
«أنا أحب الحِلّة
لأني ولدتُ على بعد موجتين من نهرها فجراً
فسمّتني الحبّوبةُ موفقاً
وقمّطتني بطينِ النهر».
سيرة فذة، يندر أن يعيشها شاعر بهذه الكثافة والرهافة معاً، وبعواطف متضاربة ومتنوعة، ترجع لمدى بعيد في المخيلة والذاكرة، والراهن أيضاً.

نشر ايضا في

القدس العربي الأسبوعي .

شارك مع أصدقائك