حِكَايَةُ صَوْتٍ
فِي ذَاكِرَةٍ أَضْنَاهَا الشَّوْقُ، أَسْتَعِيدُ أَشْكَالَ أَصْوَاتٍ كَثِيرَةٍ. أَمُدُّ يَدِي خَلْفَ سَتَائِرِ الزَّمَنِ، أَفْتَحُ مَمَرًّا مِنْ نُورٍ لِيَعْبُرَ صَدًى لِصَوْتٍ يَعْرِفُنِي وَأَدْمَنَهُ. أُنْصِتُ وَأَفْتَحُ لَهُ ذِرَاعَيَّ، أَدْعُوهُ بِنَظَرَاتٍ تَعْشَقُهُ أَنْ يَرْتَمِيَ بَيْنَ أَحْضَانِ لَهْفَتِي، مُتَوَهِّجًا كَمَا هُوَ، لَا يَشِيخُ. أَسْتَشْعِرُ رَنِينَ كُلِّ نَبْرَةٍ، أَضْوَاءَهَا الْخَافِتَةَ وَالسَّاطِعَةَ، حِينَ يَغْضَبُ وَبِكُلِّ الْحُبِّ يَنْهَرُنِي، وَحِينَ يَحْنُو وَيَنْسَابُ كَالْحُلُمِ بَيْنَ أَضْلُعِي. حِكَايَةُ الصَّوْتِ الْغَائِبِ دَوْمًا يَطْرُقُ بَابَ الْحُضُورِ، وَيَخْتَبِئُ خَلْفَ أَسْوَارِ الْحَنِينِ… يُرَاقِبُنِي. يَتَحَوَّلُ الْهَمْسُ فِيهِ إِلَى قَارُورَةِ عِطْرٍ مِنَ الْحَنَانِ. حِينَ تَتَلَبَّدُ سَمَاءُ الْعُمْرِ بِهُمُومٍ وَأَثْقَالٍ، يَذُوبُ كَشَمْعَةٍ مُقَدَّسَةٍ تُضِيءُ لَيْلَ الصِّعَابِ. وَأَصْدَاؤُهُ تَعْزِفُ الْحِكْمَةَ عَلَى أَوْتَارِ الْوُجُودِ، أَرْقَى أَلْحَانِ السُّكُونِ فِي ضَجِيجِ رِحْلَةِ الْحَيَاةِ. يَتَّكِئُ خَيَالُ الصَّوْتِ عَلَى جِدَارِ الْعَدَمِ، يُرَاقِبُنِي مِنْ بَعِيدٍ، يَرْمُقُنِي بِعَتَبٍ، ثُمَّ يُلَاطِفُنِي… وَحِينَ تَنْزَلِقُ تُرْبَةُ أَحْلَامِي، أَتَعَلَّقُ بِظِلَالِ الْيَقِينِ فِي حِبَالِهِ كَيْ لَا أَقَعَ. وَأَمَامَ تَلَاطُمِ أَمْوَاجِ الزَّمَنِ الْعَاتِيَةِ فِي بُحُورِ الْخَوْضِ، يَتَحَوَّلُ الصَّوْتُ إِلَى قَارِبِ نَجَاةٍ، يَرْسُمُ لِي أَشْرِعَةَ التَّحَدِّي بِنَبْرَةٍ حَاسِمَةٍ فِي وَجْهِ الرِّيَاحِ الْقَاسِيَةِ، وَتُبَلْسِمُ عِبَارَاتُ الرِّضَا أَكْثَرَ الْجِرَاحِ إِيلَامًا. تَتَّخِذُ زَفَرَاتُ الْخَوْفِ عَلَيَّ شَكْلَ الْيَدَيْنِ، تُلَامِسُ الْوَجْنَتَيْنِ، تَمْسَحُ بِأَنَامِلِ الطُّهْرِ نُزُولَ دَمْعَتَيْنِ، يَتَحَوَّلُ إِلَى ثَغْرٍ يَطْبَعُ الْقُبَلَ عَلَى الْجَبِينِ، وَإِلَى حُضْنٍ بِاتِّسَاعِ الْكَوْنِ يُهَدْهِدُ قَلَقَ السِّنِينَ. وَبِلَمْحَةٍ، تَخْتَفِي عَنْ خَارِطَةِ الْأَحْزَانِ تَضَارِيسُ مَرَارَةِ الْأَيَّامِ وَقَهْرِهَا، تَخْضَرُّ صَحَارَى الزَّمَنِ، يَنْبُتُ مِنْ غَرْسِ النَّبْضِ وَرَحِيقِ الْحُبِّ أَمَلٌ لَا يَذْبُلُ وَشَغَفٌ بِالْحَيَاةِ. يَتَفَرَّدُ الصَّوْتُ بِكُلِّ الْحَوَاسِّ! يَخْتَبِئُ فِي مَسْمَعِي، يَسْتَرِيحُ عَلَى ضِفَافِ بَصَرِي، يَسْكُنُ فِي بَصِيرَتِي، يُرَاقِصُ طَيْفَ الرُّوحِ. هُوَ صَوْتُكِ… أُمِّي! —