متتالية حياة”: للروائي أحمد طايل
نسائم روائية وبطولة البسطاء
خالد جودة
رواية “متتالية حياة” للروائي “أحمد طايل” رواية قيمية مثالية لا شك، تصف بطولة البسطاء في البيئة الريفية المصرية، ودالها الزمني الروائي الوحيد الوارد في المتن الروائي الإشارة إلى حفلات أم كلثوم الشهرية، بما يضيف للتحليل أيضا أنها رواية الحنين إلى الماضي. لذلك كان البدء بعبارة من البوح الحكيم الموضح لقصدية الروائي مؤطرا للتلقي. وإذا كانت الشخصية إكسير الرواية، وباعتبار أن هناك بالفعل مجموعة من الشخصيات الروائية رسم الروائي سماتها الخارجية والنفسية من منظور انطباعي، فهل يمكن تصنيف الرواية حينها بأنها رواية شخصيات؟ الحقيقة أنها رواية اجتماعية في تقديري، فرسم الشخصيات وتقديمها والمناظر الروائية جميعا، هذا التنوع مقصود به في الأساس تقديم صورة المجتمع في فئاته وطبقاته، وتقديم البيئة المصرية وكيف صبغت طبائع شعبها. فالظاهر الروائي يشير أنها رواية شخصيات مصنفة إلى طيبين وأبطال كرام، ضد “خبثاء” لكن عمقها الفعلي أنها رواية اجتماعية قيمية، وشواهد هذا الشأن كثر نجتزئ منها بما يلي: أن الشخصيات –رغم الحرص على تحليلها من جوانبها الثلاث- مصنفة بحزم وبلونين اثنين الأبيض والأسود حصريا، لارتباطها بلون من الرومانسية الاجتماعية، ولا توجد شخصيات نامية اللهم إلا شخصية “عبدالماجد” شقيق “مجاهد” المغدور به، لكن حتى “عبدالماجد” كانت الخيرية تتململ في ذاته، وخطيئته أنه رضي بالسكوت أول مرة، لكن ظل ضميره حيا حتى ثار في لحظة بصيرته بتفوق ابن أخيه المغدور به، وسعى لجبر ثلمته، وتصويب تصرفه القديم بإعادة الحقوق إلى أخيه المظلوم. والاستهلال الروائي ساطعا في هذا التصنيف الأحادي، يقول الأب لولده “مجاهد”: “أرى أنك الوحيد الذي يحمل قلبا نقيا طاهرا لا يهدف لاستغلال أو طمع أو لأهداف تسلب بعض الحقوق”، في المقابل “أخوتك يحملون بين ضلوعهم أنانية” في تناص واضح مع قصة سيدنا يوسف عليه السلام المفاصلة بين الشخصيات تتجسد عبر “اليوم الكاشف”، كما ان الأمر الآني الروائي هو أن “أرض الظالمين لا تثمر” مقابل بركات وتفوق الطيبين و”هرولة الريح إليهم” بتعبير الرواية، والوصية المستدامة في المتن الروائي: “لا تنس حق الله” كتناص مع مقولة “بعض الذنوب تزيل النعم”، وأن نفي الظلم يجلب البركات. ولا شك أن مفهوم البركة مركوز بقوة في الضمير الشعبي. وإذا كان البطل الرئيس للرواية بطلا جماعيا نبيلا، فالرواية قدمت أيضا طبقة اجتماعية أخرى ضدية وتجمعاتها التي تكشف أغوارها، فاعتبت فقرات سردية بوصف حول طبقة الحيتان، وتناقس الثروات والأزياء والعلاقات، منتفخي الغرور والسطوة، هذا العالم القائم على نهش الأموال والأجساد يمتصون عصارة الكادحين ثم يمنحون فتاتا منها لبعضهم الآخر، وتعانق المصالح وتضاربها والتحلل الاجتماعي والتخمة وتدوير النساء وبيع الكرامة بتعبيرات الرواية تناصا واضحا مع النص الشريف “أمرنا مترفيها ففسقوا فيها”. فالرواية تزخر بالتدقيق في تشريح الطبقات الاجتماعية. كما أنه من الناحية الموضوعاتية يمكن الإشارة لبعض الموضوعات على سبيل المثال لا الحصر: معضلة الأب الغائب (مجاهد عبدالوهاب الفقي) ذكرتني برواية “الأم” للروائية الأمريكية صينية الأصل الحائزة على نوبل “بيرل بك” عندما غادر بطلة الرواية زوجها واختفي وكيف واجهت الحياة القاسية في الريف الصيني، وهى رواية إنسانية عذبة. وبالمثل تشير رواية “متتالية حياة” لقضية اجتماعية مهمة وحساسة، وهي قضية المعيلات والمرأة في مواجهة قسوة الحياة: “عملت بالحقول لتعول أبناءها” قضية اللقاء الحضاري بين الشرق والغرب، ومنظور هذه الرؤية التى انتقلت من النطاق المحلي للمجال الأممي: الاعتزاز بالذات والإيمان بها، ودمغ الثقافة الغربية بالسلبية والنفاق، فيصف المتن الروائي الإدارة السياسية الغربية وما يؤطرها من فكر بالإدارة الكذوب التي تتغني بالمثل وهي أبعد ما تكون عنها. من مناحي إيجابية الرواية: التبصير بالفطنة والوعي، وأن الإنسان الطيب ليس شخصية مهمشة مأكولة الحقوق، ومن الشواهد النصية: “لا تلق بكل ما تعرفه على المائدة، لابد من جانب خفي غير معلوم” “لابد أن يحتفظ ببعض الأشياء له لو أعطاهم كل شيء لن يعيروه أي اهتمام وكأنه دليلا وانتهى دوره” يجب على الإنسان أن يكون مبادرا ولا يكون تابعا مسلوب الإرادة: “على الإنسان أن يضع لذاته كتالوجا خاصا به لا أن يكون مجرد صفحة بكتالوج الحياة” أمثلة تقديم محفزات الطموح وأن عثرات الطريق دافعا إلى النجاحات، فالرفاهية قد تسلب الطموح وتضعف الإرادة بتعبير الرواية بالتالي تأسيس خيوط الرواية ومنبع حبكتها من خلال فرز الشخصيات وإيضاح طبائعها وأصول نشأتها وتباين أخلاقها، بالتالي كان الراوي معقبا ومحللا بصفة مستديمة، وينبت تبعا لذلك في النسيج السردي شخصيات حكاءة تسرد حيواتها الثائرة. والمشهد الاستهلالي العاصف لاخوة “مجاهد” والحوار المسرود مع زوجته بكشف الجذور الكبري للحبكة والخطوط العريضة للحكاية الخلفية، وأيضا هو المشهد الدافع للحبكة في مساراها القادم. من هنا أسست الرواية ذاتها حول حبكة قائمة على انتظار المجهول و”اليوم خبيئة الغد” بتعبير الرواية، تجهيز للقادم الروائي الذي يتشكل في أفق التلقي. وأمثلة ذلك عبارات وردت في الاستهلال، منها: “الفجر ينبثق والرصيف يحفل بالحفر مهمل غاية الإهمال”، ثنائية تؤطر القادم الروائي ويخبر عن غاية قيمية تربوية. تكرار نفس الثنائية فكلما تقدمت الأم وأولادها المطرودين من القرية الوافدين إليها خطوة لاحت لهم: “بيوت طينية متجاورة وبصيص أضواء خافتة”، ومفردة “متجاورة” تحمل ملمح من النسق الثقافي الريفي حيث توحى بالتساند والعاطف، وفعلا تحقق هذا مع ترحيب أهل القرية بالغرباء المكلومين، مما صاغ الأفق الاستشرافي للقادم الروائي، فالأمل صعبا وطريق شاق لكنه مآله حسنا، وبالفعل هناك احتفالية روائية ببيئة الريف الطيبة، والشخصيات ايجابية تدعم طموح الرواية الإيجابي والشغف بالبناء والاعجاب بالأصالة المصرية. ورغم أن الرواية تمنح البطولة إلى اللأبطال، أو الناس البسطاء ملح الأرض، وجماعة الريف الكرام، لكنها لم تكن قاتمة كما تسرد روايات معاصرة عن المهمشين، أو ما يسمى “أدب القاع” فتشرح المواضعات الاجتماعية بطريقة بالغة القسوة. والقارئ قد يرغب في مطالعة أمور بنائية مبشرة، وأن يتنسم نسائم روائية تستشرف ما يقال عنه “الواقع الثاني”، من دافع المقاومة، فعلى عكس الكتابة اليومية الكئيبة، تشرق صورة سرد المتتالية بطريقة مثالية وموفقة وإيجابية، فالرواية قيمية ترتب على الأرواح، تبث الصور الإيجابية المحكمة، هى لون روائي مقدر، ولا تمثل بالتأكيد جميع الألوان الروائية، فالألوان تتجاور ولا تتنافي ولا يسحق بعضها بعض. ونسرد تاليا بعض الشواهد النصية الموضح لتلك النماذج الإنسانية المضيئة: “الوجه مضيء بفعل الرضا والقناعة” “الإشراق الدائم يعلو وجهها صوت خفيض هادئ عذب” “جاءت الابنة فأضاءت واخضرت أيامهم” عائلات كاملة قائمة على الامر الديني والأخلاق الطيبة، والتلاحم الأسري، ورحلة قطبي الاسرة معا في الحياة والموت، والحياة في رحاب القلوب. والاسماء دالة: صبحية عبدالله أبوالمجد اسم دال مباشر، محاسن العمري، العمدة مسعد العيسوي، وهكذا. كما أن الأجواء الريفية ودودة فيها الرخاء والنعمة وطيب النفوس، والإيمان بالإنسان المصري ساطعا، بالاحتفاء بالبيئة والتعبيرات والأفعال الشعبية: “الخير جانا جانا بعد تعبنا وشقانا”. وسطع تشريح الطبقة الاجتماعية الطيبة: “يرتدون ثياب الرضا والقناعة بارادتهم أو بدونها”. كما جاء استنساخ الشخصيات وتكرار طبائعها المشتركة، فالحاج “رضوان” يفعل بالضبط ما فعله العمده “مسعد” رغم المفارقة الجغرافية، فهو واقعا سلوكيا متكررا، بما يخبر أنها شخصيات تجسد بطولة طبقة اجتماعية كاملة “السنابل الممتلئة” الرواية لديها محبة وتقدير كبيرين لبيئة الريف وناسها الطيبين، فسعت لعملقتهم وإضفاء كل سمات الخير والتفوق عليهم علميا وروحيا وسلوكيا، وجسدها النسيج السردي بتقنية التقطيع السينمائية بتقديم مشاهد بصرية متتابعة سريعة، من خلال نشاط “سميحة” الفني، وشغفها في تأريخ بيئة القرية بالرسوم، وفي موطن روائي آخر تقديم أطلسا ثقافيا لمدينة طنطا وغيرها الرواية تحتفي بالشخصية الجماعية المصرية النيرة: “أشعر كأني ولدت هنا وعدت لأهلي وأحبابي”، والناس قائمة بصلات “الروح والإضاءات النورانية سياجا يدفع الهم والأسي”، والقلوب تحيا بالود والصدق. وفي أجواء بث الحكمة الفطرية، وإثمار الفرحة، كان الوعى بتقلبات الزمن بين الحلو والمر، فالأمر لم يكن ميسورا أبدا، بل خاضت الذوات الروائية في بحار من الأسي، كما تشير شواهد نصية كثر: “العيون تنزف بالألم” و “صوت مخضب بالوجع”، لكن طيبتها هزمت أوجاعها وجبرت روح القارئ وتنسم بها نسائم عطرة مضمخة بالفن الروائي.