ما بعد الكولونيالية : التغيير اللاواعي للثقافة
زاندرا كامبيسي
ترجمة سهيل نجم
إن “ما بعد الكولونيالية” يمس مظاهر كثيرة: اللغة (الشفاهية والمكتوبة) والأرض إن كان من الممكن امتلاكها”
في انعطافة القرن ثمة قوة إمبريالية جائعة للذهب والتجارة، أو ربما للمزيد من القوة فتغزو بلداً. ولابد لأهالي البلاد أن يقاوموا الثقافة الجديدة الوافدة إليهم بكل معتقداتها وقيمها وعاداتها وتقاليدها التي أمست الآن مشتبكة في نسيج حياتهم. عليهم أن يقيّموا إن كان أي جزء من ذلك التغيير يأتيهم بفائدة (نهضة الاقتصاد عبر التجارة، وزيادة الوعي والاكتفاء الذاتي عبر التعليم، والتطور الطبي الذي قد يؤدي إلى مكافحة الأمراض) وأي جزء منه يجلب الضرر (فقدان التراث الثقافي والاعتقادات والقيم). وفي أحيان كثيرة تشتبك الخطوط ومن الممكن أن يكون للتغيير المفروض تشعبات إيجابية وسلبية.
في كلتي الحالتين، فإن مسألة الاستعمار تمس ما هو أكثر من صراع أهالي البلاد للتكيف مع الثقافة الجديدة. ثمة عقبة كأداء لابد من مواجهتها، هي القمع، وفي أغلب الأحيان التصريح بمحو وإبادة الحياة السابقة لأهالي البلاد وثقافتهم، هذا القمع يأتي مع الحضور الجديد للآخر، الآخر الذي يؤمن ويعرف ولسوف يقول لكم حتى من أعماق قلبه – إن ثقافته هي الأعلى. الآخر ليس عدواً نمطياً وليس غازياً تقليدياً، فهو لا يشاطرك في التقاليد والأعراف ذاتها ولا في عدته الحربية. إنه لا يبدو واعياً بأنه يقف على أرض ليست له، بل على أرض تعود إلى أسلاف موتى. وبالأحرى، فإن هذا المستعمر، قوة خارجية. يتمسك بتلك الفكرة التي فحواها أن الأرض التي جاء لقهرها يمكنه أن يمتلكها. وهو يتمسك باعتقاد راسخ أن ثقافته أعلى من تلك التي جاء لقمعها. ومن الواضح أن مشاكل طمس الهوية وفرض الدونية وحتى إذكاء الكراهية للمستعمِر تطفو على وعي الناس المستعمَرين. وهنا يأتي دور مصطلح “ما بعد الكولونيالية”. هذه الكلمة هي وسيلة ومنهج، لاختبار، من خلال الأدب، ما الذي يحدث حين تتصادم حضارتان، اعتماداً على واحد من ادعاءات المستعمِر الثقافية في تفوقه. ويورد ستيفن سليمون أن “ما بعد الكولونيالية” إسم عن حالة توق المواطن في مرحلة التجمعات الوطنية ما بعد الاستقلال، والحاجة، في بلدان أو جماعات هي ضحايا الإمبريالية، إلى إنجاز هوية غير مفسدة من قبل المفاهيم والصور العالمية أو الأوربية. هذه الكلمات المتضمنة في التعريف الذي أمامنا قاسية؛ فـ “ضحايا الإمبريالية” تحيلنا إلى الصورة القذرة في تعذيب أهالي البلاد على يد القمعيين البيض. مما لا ينكر أن الكولونيالية تستدعي درجة من القهر. ولكن ما هو أكثر من ذلك، وبخصوص كل الروايات التي هي في إطار النقاش، فإن هذا القمع يتخذ شكل الاستيعاب الثقافي اللاواعي-تسريب خبر غير معلوم لمعتقدات المستعمِرين على الناس المستعمَرين. هذه المعتقدات من الواضح أنها تتضمن انتشاراً للأفكار الموجهة بين السكان من أهالي البلاد. وكما أرى، عموماً، فإن مصطلح “ما بعد الكولونيالية” يتعلق بالنتائج اللاواعية والنهائية التي يفرضها المستعمِر على الناس من خلال حضوره المجرد- وتلك المظاهر لثقافته التي تتشرب في فكر الناس المستعمَرين.
إن ما بعد الكولونيالية –التي هي، دعنا نقول، طريقة لاختبار ثقافة تغيرت على نحو لاواعٍ عبر أدبها تخلق “خطاباً للتعارض تجلبه الكولونيالية إلى الوجود”. وأساساً تقدم ما بعد الكولونيالية جانبين من مسألة الامتداد وتخلق الطرفين البارزين للمستعمِر والمستعمَر، أو غالباً، كما يكون الحال ربما، القاهر والمقهور. إن “ما بعد الكولونيالية مصطلح يشير إلى ما هو أكثر من تكيف الناس للتغييرات؛ إنه يتضمن العلاقة بين المغيَر والمغيِر، الواحد والآخر، حيث يستغل هذان الدوران باستمرار من قبل الطرفين، فيتلبسه واحد ثم آخر. وضمن هذه العلاقة يتم استيعاب اللاواعي الذي يقع في قلب ما بعد الكولونيالية.
بهذا المعنى فإن “ما بعد الكولونيالية” الذي يقدم على أنه العملية المستمرة للمقاومة وإعادة البناء” يكون ذو فائدة كبيرة عندما يطبق في عدد من القراءات لكتاب من شرق وغرب أفريقيا، ومنها على سبيل الأمثلة رواية “العبدة” لأيميشيتا، ورواية “نهاندا” لفيرا، ورواية “العظام” لهوفا، وروايتي “آخ” و “سنوات الطفولة” لسوينكا، ورواية “غابة الزهور” لسارو ويوا، ورواية “كثبان نمال سافانا” لأتشيبي. كل من هذه الكتب تتضمن حضور القوة الكولونيالية بنسب مختلفة للشخصيات، فيما إذا كانت منفصلة من قبل الزمن أو المسافة، أو حتى العمر (في حالة رواية سوينكا “آخ”، يرويها صبي صغير لا يستطيع استيعاب التضمينات الكبيرة خلف الحضور الكولونيالي في حياته). وتبعاً لأشكروفت، فإن تأثير ما بعد الكولونيالية يبدأ “منذ اللحظة الأولى للاتصال الكولونيالي”. إن حضور المستعمِر، فيما إذا كان واضحاً أو ضمنياً بالنسبة للمستعمَر، محسوس حتماً أثناء وبعد هيمنته. ثمة مواجهة مباشرة مع هذا “الآخر” في نهاندا” و “عظام” وهو غير مباشر أو نصف مباشر في “آخ” و”غابة الزهور”. وحتى بعد أن غادر المستعمِر وبعد أن تحرر الوطن المستعمَر، فإن حضور المستعمِر يظل باقياً مثل ظل “كثبان نمال سافانا”. تتغير الحياة، لكن الوعي بذلك التغير –مرتبط على نحو معقد بالمستعمِر، مرتكب جريمة التغير- يبقى.
إن “ما بعد الكولونيالية” يمس مظاهر كثيرة: اللغة (الشفاهية والمكتوبة) والأرض إن كان من الممكن امتلاكها؟) وأدوار الرجال والنساء و(تحرير المرأة)، والقومية (فيما إذا كان الإحساس بالتجمع الثقافي لشعب ما يبدل الإحساس بالوطن)، والتهجين (التشابك الإجباري للثقافات، العملية الغريبة لأهالي البلاد في التكيف). وهذا غيض من فيض. إن الأسئلة والنظريات التي تتعلق بهذه المظاهر تطفو إلى المقدمة من وعينا، وليس ثمة نهاية لما يمكن أن ننظره. ولكن، مثل المستعمِر، علينا أن نقمع هذه الفورات الفكرية من أجل أن ندع الضوء يشع على قضية نرى أنها تستحق الأولوية على غيرها: هي قضية اللغة والشفاهية.