جدل الرواية مع التاريخ… الناقد جميل الشبيبي

شارك مع أصدقائك

Loading

جدل الرواية مع التاريخ
رواية الضحايا أنموذجا
جميل الشبيبي

كتبت رواية ( الضحايا- سطور للنشر والتوزيع ط1 2022 ) للروائي فاضل خضير بين عامي 2021 و 2022،كما اخبرني الكاتب، عن أحداث وشخصيات عراقية عاشت منتصف ستينيات القرن العشرين وما بعده بقليل،الأمر الذي يسهم في عقد علاقة مهمة بين الرواية كأحداث متخيلة والتاريخ بوصفه واقعا حقيقيا ، وهو ما نراه مجسدا في رواية (الضحايا) حيث يتقدم زمن الكتابة كثيرا على زمن الحكاية، الأمر الذي يساعدنا على توصيف زمن الحكاية بأنه تاريخ لزمن الكتابة، وبهذا المعنى نقرا رواية الضحايا، بوصفها رواية أحداث سكنت وقيدت في الذاكرة الشفاهية والمكتوبة،ثم كتبت عبر جدل الخيال الروائي والوقائع الحقيقية التي بعثت من جديد بهدف فني أو إيديولوجي أو تقييم أخلاقي.ونلاحظ أن تحقق فجوة كبيرة بين زمن الحكاية وأحداثها وبين زمن الكتابة هي مسافة زمنية تثير التأمل في قدرة الكاتب على الإقامة في تاريخ الحدث وعدم مبارحته إلى حاضر مشحون ومربك تجري فيه أحداثا مشابهة وشخوصا إشكاليين أيضا، لكن الروائي يخرج من زمن الحكاية دون تدخل أو ميل نحو شخصية معينة من شخوصها أو وجهة نظر،مخالفة أو مطابقة، لكنه يكرس العنوان ليكون تعريفا أو دلالة على نية الكاتب وقصده في كتابة الرواية من وجهة نظره عن تلك الحقبة التي صورها بشكلها التي حدثت فيه وهو انجاز مهم للكاتب ينبغي الإشارة له. فيكون العنوان في هذه الرواية سراجا يضيء فضاء الرواية شخوصا وأماكن وتاريخا، فهو حكم أخلاقي أو فكري على حقبة من تاريخ العراق بشخوصها وأفكارهم وتطلعاتهم وقد انتهت وأصبحت مجالا للتأمل والقراءات المتنوعة التي تنوي التقييم أو التقويم أو التخييل على وفق وجهة نظر المتلقي الجديد الذي لم يعش تلك الفترة، ولم يعش أحداثها بل تعرف عليها من خلال الكتابة التاريخية أو الرواية الشفاهية او غيرها.
إن إشكالية التأويل في الروايات التي تتخذ من التاريخ موضوعا لها، تكمن في توظيف المسافة الزمنية بين ما حدث سابقا وبين زمن القراءة،توظيفا فنيا يلعب فيه الخيال دورا مهما في نقل الأحداث والشخوص من واقعها التاريخي إلى شخوص يتنفسون هواء عابرا للزمن، يجد فيه المتلقي المعاصر أواصر علاقة حية تستند على تطلعات وأحلام تحملها شخوص الرواية،لأن المتلقي المعاصر ينظر إلى أحداث الماضي بوصفها أحداثا غابرة،وكذلك شخوصها ولا يهمه أمرها، سوى بعض المصائر والتمردات والأفكار التي ستكون عابرة للزمن وهي تحمل نكهة الماضي وتطلعات الحاضر الذي سيكون مستقبلا لها وقد تحقق.
لقد صور المؤلف الضمني الذي انتدبه المؤلف، مصائر شخوص الرواية، بعد أن كشف تطلعاتهم التي بدت أمامنا تطلعات مكبوتة ومنحاة ومغضوب عليها في زمن تحققها منتصف ستينيات القرن العشرين لكنها في واقع ايامنا الحاضرة تبدو مشروعة ومقبولة على وفق واقع يتنفس هواء مختلفا في عصرنا الحالي،الامر الذي يثير حيرة المروي له المعاصر الذي يمتلك حرية نسبية في البوح بافكاره في الهواء الطلق، كما تثير صور الانعطافات المأساوية التي حدثت لبعض أبطال الرواية في زمنهم،اسئلة مهمة للقاريء المعاصر عن علاقة المثقف بالسلطة التي بادرت بارتكاب جرائم وتصفيات جسدية بحقه،سواء بالوشاية أو التعذيب أو القتل.وهي جرائم ترد في المتن الروائي،بوصفها علاقة تناحرية بين السلطة السياسية والمثقف التنويري، الذي يتمرد عليها،وهي اتحريض واضح من المؤلف الضمني ومبطن من المؤلف لإدانة من ارتكبها.
ومن الملاحظات التي نود الإشارة إليها أن هذه الرواية تنهج طريقا مألوفا عبدته كتابات العديد من الكتاب العراقيين في رواياتهم التي صدرت في أزمان متفاوتة وتناولت الثيمة نفسها مع اختلاف في الدلالات والمعاني، من هذه الروايات : خمسة أصوات للروائي غائب طعمة فرمان، رواية الهشيم للروائي جهاد مجيد، رواية الوشم للروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي، ورواية الضفاف الأخرى للروائي إسماعيل فهد إسماعيل مع روايات أخرى غابت عن ذاكرتي، لكن الملاحظ أن في معظم تلك الروايات تقارب زمني بين زمن الحكاية وأحداثها، مع زمن الكتابة، مما يعطي الروائي صدقا تسجيليا للأحداث وتصويرا مقربا للمكان . وقد استثمرت تلك الروايات شخوصا من المثقفين الذين يحملون أفكارا هي عينات كانت متواجدة في الواقع العراقي كتيارات فكرية: يسارية وقومية ودينية غلب عليها حوارات صاخبة بينها كشفت الاختلافات في وجهات النظر وأدت إلى تناقضات في المواقف وصل حدا عنيفا موصوفا بالتناحر والتصفيات الجسدية التي شهدتها الساحة العراقية.
ترتكز هذه الرواية على شخوصها الأربعة أو الخمسة، وتعطي لهم مساحة كبيرة،في التعريف بأنفسهم من خلال تماهي السارد العليم الذي ينهض في السرد في هذه الرواية معهم بتقنية التناوب، التي تعطيه حرية الانتقال والمصاحبة، مرة مع سعيد الشخصية الرئيسة في أحداث الرواية ثم مع فؤاد أو مع أبي حسام، ويفرد لهم حوارات مع بعضهم توضح أفكارهم وطموحاتهم في حياة خاصة تليق بهم على وفق ما جرى من أحداث أو انعطافات عامة في الواقع العراقي.
يظهر لنا سعيد وهو يبحث عن عمل، فهو خريج كلية الآداب قسم الفلسفة – جامعة بغداد،يعيش رتابة يومية في مدينته البصرة فيقرر الهجرة إلى بغداد بغية الحصول على عمل( حيث المساحة أرحب للثقافة والى التنوع)وهو يحمل أفكارا يسارية كما يراه أبا حسام (أنا اعرف انك ضد النظام،ومن خلال الحوار معك، خمنت انك يساري الهوى، ولكن لم اجزم إن كنت متحزبا أم لا ص43)
ويصف سعيد حياته في بغداد (بين أصدقاء متنافرين في الرأي،وغير منسجمين عقائديا،كل منهما يعتقد هو الصحيح،وأنا أجاري هذا الشتات ولن اصطف ص49) أما وجهة نظره في مصائر المنتمين إلى الحزب القريب من أفكاره فيصفها بان( تجربة تنظيم الحزب كانت مريرة، وشاقة وقدم ضحايا بدون مبرر.ص47) وترد كلمة ( ضحايا) أول مرة في الرواية على لسان سعيد، وكأنها ترجيع فاجع لما حدث لشخوص الرواية، سياسيا أو عبر صعوبات الحياة.
ويمثل فؤاد شخصية إشكالية أخرى في الرواية، إذ يصفه السارد العليم بأنه (ذو بشرة سمراء يضع نظارة طبية، شعر رأسه كثيف،لون حدقتيه يغلب عليهما اللون الأخضر، يعتنق الوجودية مذهبا فكريا له، وهو مدمن على قراءة كتب سارتر وسيمون دو بوفوار وكامو وغيرهم من الوجوديين .ومن أفكاره وهو يتأمل المصير المأساوي لصديقه حميد المنتمي للحزب الشيوعي الذي اجبره المحقق الأمني بين بتر ساقه أو الاعتراف على رفاقه، فهو يحاكم الحدث متأملا له ولنتائجه المرة:(بالتأكيد إذا هو عاد إلى ذاته وتجاهل الذوات المتطفلة،سيفلح في المجاهرة عندئذ عن نواح وبواعث كامنة،قد تباغته إذا استشرف بها ص89) ثم يكمل ( إن الرجوع إلى الذات وسبر أغوارها هو الأجدى في التصور – الصفحة نفسها)
أما العم أبو حسام فهو كما يصفه سعيد :يتمتع بالأبهة التي تزين مظهره الخارجي،عنده سائق خاص، له باع في السيطرة على حركة السوق، يعتقد بان المال قوة، وهو معجب بشخصية نوري السعيد ويضع له صورة كبيرة في عرفة الضيوف ويصرح أن ( الباشا)كان يريد أن يحمي العراق من التكتلات الدولية بالاعتماد على الانكليز وقد نجح فعلا في لم شتات البلد (…..) نعم المرحلة التي كان فيها الباشا هي تكوين بلد اسمه العراق ص45)
كان الوضع العام في بغداد عشية وصول سعيد إليها في 5/11/1968، ملبدا بالتوقعات المخيفة والأحداث الدامية بعد انقلاب 17 تموز 1968 بفترة وجيزة من وصوله، وصفها السارد العليم في الصفحة 19 من الرواية وما بعدها حين يجتمع أصحاب سعيد في مقهى ( المعقدين):(ثم تبدأ برامج السهر والانتشار في البارات ومن ثم الجدل في السياسة وفي قراءة الشعر…ص19)هناك يشتد الصراع وتباين الآراء النظرية عن جدوى النضال،وما يسببه من تضحيات دون جدوى،وتصفيات جسدية التي تمارسها السلطة الحاكمة ضد معارضيها، مثاله ما قال حامد صديق سعيد لهم :(لقد اغتيل توا احد أعضاء اللجنة المركزية للحزب، تم ذلك في زقاق ضيق كان خاليا من المارة ص24)وفي صفحة أخرى من الرواية يهمس احد أصدقاء فؤاد بإذنه قائلا(بدا النظام يغتال الشيوعيين النشطين.)
غير أن العديد منهم كما يصف السارد العليم أجواءهم :(كانوا يسايرون الأيام بهذه اللحظات المتشابهة والمتناظرة في الهم والحسرة والحرمان،وكانوا أيضا مشدودين إلى أفق غير منظور يداعب أحلامهم الوردية وهنا تكمن الأزمة، أزمة الحياة الجديدة التي روجتها النظريات الحديثة…الانطلاق، الحرية الديمقراطية، التمتع بمباهج الموجودات، هذه ما عاد بالإمكان التخلي عنها أو السكوت حتى ولو بشكل سري لان الإبقاء على كتمها يبعث على ظهور ولادات لا تحصى ومن ثم قد يحدث الانفجار المدوي، اليسار كان يحمل هذا العبء وكان يتشظى من الداخل ، نتيجة الضغط الهائل من قبل قوى التخلف ومن أصحاب المصالح المتمثلة بسلطة الدولة.ص20
لقد كشفت أحداث الرواية،العلاقة المصيرية التي كانت تربط الفرد بالحزب الذي ينتمي إليه،واستعداده للتضحية بحياته من اجل مبادئ ليس لها تحقق حضور في الواقع المعيش بل هي أفكار ورؤى وأحلام تتراءى للمناضل بوصفها واقعا قابلا للتحقق من خلال تمسكه وعناده في الحفاظ عليها، حتى لو أدى ذلك إلى فنائه !!وأحداث الرواية المكثفة ومن خلال عنوانها الفاضح، تشير إلى مئات بل آلاف المصائر الماساوية التي خطفت أرواح الآلاف من ( الضحايا) الذين غيبتهم القبور دون ان يكون لهم حضور في ذاكرة من دافعوا عنهم،وضحوا من اجلهم.
لقد اعتقد هؤلاء ( الضحايا) بمفردة الشعب والوطن والطبقة بوصفها مفردات مقدسة ينبغي التضحية من اجلها،وأنها تبرر صلابتهم ومواقفهم بينما بقيت هذه المفردات غائمة وغامضة وشائعة يستثمرها من يريد أن يحقق مآربه ومصالحه!!
قدم الروائي فاضل خضير نماذج مرمزة من الشخوص في روايته،تكشف هويات عقائدية وذاتية ومتأملة،كان السائد منها الهوية العقائدية التي تمثلت بشخوص : حامد الذي اندفع إلى الالتحاق بالكفاح المسلح تاركا زوجته الحامل بطفلها الأول من اجل تحقيق مبادئه مع صديقه جاسم ، وعبد الله الذي انشق عن الحزب والتحق بالثورة الفلسطينية واستشهد في احد العمليات، حميد الذي انهار اثر تهديده بقطع رجله واعترافه الذي أدى إلى قتل مجموعة من رفاقه،وبقية النماذج التي تكشف شخوصا على الهامش،يعيشون الصراع الدامي ولا يشاركون في أحداثه!!
مصائر شخوص الرواية
وإذا كانت نهايات حاملي الهوية العقائدية مأساوية،في نتائجها اذ لم يستطع شخوصها من التعبير عن أفكارهم وطموحاتهم وسط حركة ضاجة دفعت بهم إلى مصائر لم تكن متوقعة من وجهة نظرهم المتفائلة، فان الشخوص الرئيسيين الذين احتكروا تقاسم السرد، وتمكنوا من طرح وجهة نظرهم،وأوضحوا أفكارهم ونزعاتهم الذاتية والإنسانية، هم في نهاية المطاف قد انطفاوا أيضا، ولم يبق منهم سوى أفكار وشعارات متناثرة في ثنايا السرد بعضها عبر زمن السرد إلى واقع جديد يشير اليهم ولا يعيد لهم الحياة.
لقد استأثر سعيد اليساري القادم من البصرة إلى بغداد،بسرد معظم الفصول وقدم شخوص الرواية من وجهة نظره،حين لخص آراءهم وأعطى وصفا للواقع المعيش الذي يحيط بالعاصمة بغداد التي وصل اليها كما يشير الفصل الأول في ( اليوم المصادف الخامس من شهر تشرين الثاني لعام 1968 ص8)والتاريخ المذكور يشير إلى الأحداث التي جرت في العاصمة اثر قيام الانقلاب العسكري في السابع عشر من تموز في السنة نفسها،ويعني هذا أن وصول سعيد إلى بغداد، قد تزامن مع مرور أربعة أشهر على الانقلاب،وهي الفترة التي شهدت تصاعد الصراع بين جناحي الحزب الشيوعي: اللجنة المركزية والقيادة المركزية )1)…وأيضا ظهور النزعة اليسارية التي هيمنت على أفكار الجيل الجديد في الحزب بالمقاومة وحمل السلاح بوجه الانقلاب العسكري الجديد ( انقلاب 17 تموز )الذي أعاد لهم حكما دمويا خبروه في أحداث عام 1963 (2)، فاتجه بعضهم إلى اهوار العراق الجنوبية لإقامة نواة مسلحة ضد هذا الحكم،وكانت آمالهم معلقة على نمو هذه الحركة المسلحة، التي انطفأت هي الأخرى بعد اقل من عام على قيامها،وتفرق المنتمون اليها بين قتلى وسجون ومناف.
اما مصائر الشخصيات الرئيسة التي عبرت الأزمة دون خسارة أرواحهم بالقتل أو السجن :سعيد وفؤاد وعذراء والعم أبو حسام وغيرهم،فلم يبق منهم سوى أفكار متناثرة في ثنايا السرد تعبر عن وجهات نظرهم في حياة قادمة،أساسها احترام رأي الآخر،والمساواة في المعاملة التي يكفلها القانون،ومنح الناس حريتهم المكفولة بالدستور والقوانين التي تحميهم من التجاوزات التي سادت في الماضي البعيد والقريب.
إن فضيلة رواية ( الضحايا)،تقديمها عالم من تاريخنا المعاصر، حفل بالصراع والنزاعات المميتة والتأمر على الإنسان،وكانت نتيجة هذا الصراع ( ضحايا) من أصحاب الأفكار والمبادئ الإنسانية ،الذين انظموا إلى الطرف المعارض للعسف على وفق معادلة ليس فيها مصلحة ذاتية،او نزعة للتسلط على الآخرين،مندفعين إلى ساحات صراع غير متكافئة،تتحمل أوزارها قياداتهم،ذلك ما يشير إليه عنوان الرواية، الذي يحمل معنى مبطنا بعد التأمل في هذه التجربة وانتهاء تأثيرها بعد مرور ما يقارب نصف قرن على أحداثها ، بالمعرفة التي وفرتها المصادر المتنوعة من تلك الحقبة بما جرى بعد انتهاء الأحداث،بانهيار القيادة واعترافها والتعاون مع السلطة في تصفية المعارضين،وهو تاريخ معروف الآنظ بالمقارنة بين زمن الكتابة وزمن الحدث، وما بينهما يقارب نصف قرن من الزمان، اتضحت فيه العديد من الإشكالات والادعاآت والخيانات المبطنة سابقا والأفكار التي عبرت الزمن وهي تشير إلى أصحابها كنماذج متجاوزة على الرغم من كونهم ( ضحايا) الزمن الغابر.
افكار عبرت زمنها تجاه فضاء قادم
يقول سعيد وهو يصف صديقه فؤاد:( لا شك كان فؤاد يفكر صح الحياة الرتيبة لا تعلم ولا تجدي نفعا، بل الرتابة تمثل الموت البطيء. إن هم الوجوديين هو ذات الفرد، مسؤوليته الذاتية، الشأن الخاص، الغريب هم يخلقون الغربة ثم يعبدوها ولهذا دائما يتصالحون مع الضجر ويتهمون الآخر على انه يمثل الجحيم
ويلخص فؤاد مشكلته مع مجتمع الرواية في الصفة 222 وهو يبحث عن مكان أمن لعشيقته الأرملة قائلا( الأمر ليس بالهين تماما ان تعيش بين مجتمع لا يأذن لك بأي انفراد تتخذه لنفسك…نعم حريتك يجب أن تمر من خلال المجموع،لا سبيل غير التمرد، وهذا سيكون في حينه،إذن لا سبيل غير الصدام المدوي المهلك للأنفاس ص222) وهي افكار تعبر ذلك الزمن الذي حاول خنقها تجاه عالم اخر!!
وإذا كان سعيد ساردا مهيمنا على معظم فصول الرواية فهو يتساءل عن دوره فيها: (كان يبحث في داخله عن هويته تمثيله في هذا المحضر اهو شاهد عيان ام مدعو إلى مشروع ما اهو زبون مميز لممارسة الجنس ص172)واذا كان هذا البحث عن الهوية قد استغرق فصول الرواية جميعها، فان سعيد في الوقت نفسه علقت في ذاكرته أفكارا جريئة لشخوص الرواية، حملها معه وأوضح قيمتها عنده بوصفها أفكارا متبناة من قبله.
تقول عذراء في لقائها بسعيد في الفصل الخامس من الرواية عن جسدها : (الممتلىء بالرغبات والمغريات، المحشو بعقود وقوانين، ألفها البشر عبر التاريخ الطويل،هو يبقى هذا الجسد رغم المحاذير المقننة التي صاغها أصحاب الفقه والرأي وحتى ممثلو العقود الاجتماعية،هو ملكي الخاص،وهبه لي الإله،ومن ثم هناك ضرورات،توجب الخرق في التطبيق لأي قانون، اليست الحرب تسن إجراءات تبيح المحظور…؟فما كان عندي غير سلاح الجسد ص174).
لقد وعت عذراء وجودها وهويتها بالجسد الموهوب لها، للتتصرف به بما تشاء فهي في حرب دائمة مع من يريد مصادرة جسدها وإخضاعها إلى قوانينه وتابواته وتحريماته !!!
وقد استثمر المؤلف دلالة الاسم ( عذراء)للإشارة إلى ديمومة عذريتها إلى زمن قادم على الرغم مما حصل له من انتهاكات وإيغال في تمزيقه ،وصفته هي وهي تسرد معاناتها في اختراق جسدها:(كان يبدو بوجه رجل أحمق،مغامر ويجيش برعونة الشبق أطبق علي وفتح ساقي بعنف،ثم مزق عذري عنوة ص170) وأضافت:(ثم توالت الأبواب تفتح تباعا،فجاشت التصاريح على جسدي حتى استباحوا عريي ص170)

وتشير هذيانات حميد وهو نائم على سرير عشيقته أفراح،إلى عمق عذاب الذات وهي تتخلى عن مبادئها في لحظة ضعف تسلمه إلى مهانة دائمة، وتكشف هذه الهذيانات عن شهادة مؤثرة عن قسوة أساليب السلطة ضد ذوات لا تملك سوى تطلعاتها وأحلامها،وتأتي تداعيات حميد على شكل أسئلة تتعلق بنهايته التي جعلته كأنه (زائدة دودية يجب التخلص منها)ويستغرب شعور المهانة هذه التي تمكنت منه متسائلا: (أهكذا تتحكم المبادئ في رؤية الفرد إلى الوجود…؟ المشكلة لم أجد مخرجا يؤدي بي إلى الخروج من بودقة الانتماء..أريد أن أكون حرا، ولكن لماذا لا استطيع ص236)وفي الصفحة نفسها يسرد معاناته وضعفه إزاء تهديد رجل الأمن له بقطع ساقه اذا لم يعترف، لكنه وقد أصبح ( زائدة دودية ينبغي التخلص منها) يلوم نفسه ويتمنى المستحيل حين يعلن تبنيه لمفردة حرف الامتناع ( لو) قائلا:(لو إني وافقت الجلاد على قطع احد أفخاذي لكانت هنيهة من الوقت،وقد يطلب الآخر وهو جائز،تمنيت لو كنت عنيدا وهكذا سيستمر إلى إنهاء حياتي برمتها كما فعل مع سلام عادل لأصبحت مع الأبطال طالما الموت واحد ص237)
إن هذيانات حميد شهادة على زمن العسف والتصفيات الجسدية المتمثلة بسلطة جائرة سادت وما زالت ذيولها تؤثر في الواقع المعيش، وهي شهادة أيضا على الطرف الآخر ( الحزب) الذي سرعان ما ينكر ويستنكر ضعف الذات وهي تستجيب لقسوة التعذيب،بالنبذ والتشهير والطرد من مجتمعه الذي تآلف معه، ليصبح غريبا دون هوية أو ملاذ!!!
يسجل الفصل الأخير من الرواية تهافت أفكار سعيد وفشله في تحقيق مشروعه في كتابة مسرحية وفشله في تحقيق مشروعه الذاتي في بناء بيت وعائلة،فقد تغلبت عليه أهواء الشك وعدم اليقين فهو يعتقد أن عذراء التي أصبحت نموذجا لإحدى شخوص مسرحيته المؤجلة ( تريد مني عذراء أن أبحر في أغوار الجسد،من منا يطأ شواطئه…!أغواره مفخخة هو علة كل العلل ص338 كما ورد في رسالة مخرج المسرحية المقترح،وخلال تدوينه لأفكاره وخواطره المكبوتة يكتب قائلا:(فكرة الزواج من عذراء لم تكن في سجل أفكاري إطلاقا، كان هناك نوع من التحبب لمعرفة دواخل امرأة عانت الأمرين وكذلك لكثرة الاغراءت في خصلتها ص340) فقد أدرك منذ لقائه بها مخاطر هذا الالتقاء ومخاطرة قبول الزواج منها،لأنه يعرف أن طموحها ليس اقتران برجل انما هي تبحث عن ( الاعتراف بتجربة امرأة ككيان أنثوي قائم بذاته ص341وهو أمر يحرج سعيد ويضعه في حرب مع قوى لا يستطيع مواجهتها!! ويعزز رأيه في الابتعاد عنها بقوله:(عذراء لم تعد امرأة،بل لا معنى لوجودها، هي بمثابة كتلة بشرية تتحرك بالفراغ،فلا طعم فيها ولا لون ص3769) ناقضا أفكاره عن تعدد خصالها:الجمال، الثقافة،وفصاحة اللسان والكياسة النادرة، إضافة إلى عبور أفكارها لعالمه الساكن إلى فضاءات قادمة عبر عنها في إحدى تداعياته:(هناك أيضا ترادف فكري شدني نحو جديدها في التبصر نحو المعاصرة ص341)
لقد استثمرت رواية ( الضحايا) أحداثا منتقاة من تاريخ العراق المعاصر،اتضح فيها الصراع الصاخب والتصفيات الجسدية،وانهيار المشاريع الثورية لصالح الالتقاء مع السلطة الجائرة التي لخصها فؤاد الوجودي بمرارة قائلا: (للأسف بدأ ينهار مشروع القيادة المركزية… وأن جماعة الهور تناثروا هنا وهناك، بعضهم انضم إلى المقاومة الفلسطينية اليسارية. أما جاسم فقد التحق بجماعة حبش من جهة الجبهة الأردنية وحامد لم اعرف عنه شيئاً، عدا عن كونه قد وصل سالماً الى بيته… ها، يقال هناك تفاوض بين حزب البعث واللجنة المركزية للحزب الشيوعي، حول تكوين جبهة..!! لم اعرف التفاصيل، هي مجرد أقوال، لا أدري مدى صحة ذلك.” (ص 323 ).وسوف يكمل التاريخ مسيرته في أحداث دامية أخرى بعد قيام الجبهة الوطنية!!!
————————
في 17 أيلول 1967،حصل الانشقاق في الحزب الشيوعي العراقي حين ظهرت الانقسامات في صفوفه بعد هزيمة حزيران عام 1967، اذ اتهم عدد كبير من الكوادر الحزبية قيادة الحزب بقربها من السلطة ولا تملك رأيا مستقلا تجاه الأحداث المصيرية في تلك الأعوام، وقد تم على وفق ذلك تأسيس الحزب الشيوعي العراقي – القيادة المركزية رسميًا كمنظمة منفصلة باستخدام لقب (“القيادة المركزية” لتمييزها عن الحزب الشيوعي العراقي الرئيسي الموالي للاتحاد السوفيتي، والذي أطلق عليه بدوره لقب “الحزب الشيوعي العراقي – اللجنة المركزية”. انظر الموسوعة الحرة – ويكيبيديا-الحزب الشيوعي العراقي)
يقصد به انقلاب 8 شباط عام 1963 الذي قاده حزب البعث مع مجموعة من الأحزاب القومية ضد ثورة 14 تموز 1958 وفيه قتل واعتقل وعذب آلاف الناس دون ذنب يذكر

 

 

شارك مع أصدقائك