عبد الامير الحصيري،، رفيق الكأس
من يكشف سره الاعظم؟!!
إشارة معرفية/شوقي كريم حسن

عبد الأمير الحصيري، الشاعر الذي عاش بين الحروف والكؤوس، ليس ذلك الصعلوك الذي يتنقل بين الطرقات يثير الجدل ويرتكب الفوضى. بل هو شاعر ذو عمق فني وفلسفي، نحت لنفسه مكانًا في الأدب العربي من خلال تجربته التي لا تشبه تجربة أي شاعر آخر. قد يتصور البعض أن الحصيري يعكس صورة من صور الفوضى والتمرد الاجتماعي في أعماله بسبب استخدامه للمفردات التي تتعلق بالخمر والكأس، إلا أن هذا التصور غالبًا ما يغفل جوانب متعددة من شخصيته الأدبية.الحصيري في شعره لم يكن مجرد شاعر يردد أغاني التمرد الساخر أو الخالي من المعنى، بل هو شاعر أديب استخدم الخمر والكأس كرموز لأشياء أعمق بكثير. الخمر في شعره لا تعني الانغماس في اللذة العابرة بقدر ما هي استعارة للتجربة الإنسانية، تلك التجارب التي تتقاطع مع الشكوك، والتساؤلات، والتأملات الفلسفية حول الحياة والموت، والحب والكراهية. ومن هنا، يتحول “الكأس” من مجرد وعاء للشراب إلى وعاء للمعرفة والتجربة، حيث يصبح الشاعر في هذا السياق رفيقًا لها، لا لارتكاب الغرائب، بل لتذوق لحظات الوجود على نحو أعمق.من خلال هذه الرمزية، كان الحصيري يرفض الانقياد وراء هوس المجتمع أو تقاليده الصارمة. ورغم أن المفهوم السائد حول الصعلكة يربطها بالتمرّد الفوضوي، إلا أن الحصيري لا يقع في هذا التصنيف. هو لا يسعى لتدمير القيم، بل يهدف إلى التمرد على سطحية الحياة وحواجزها. في نصوصه، نجد أن الكأس لم تكن تجسد الهروب من الواقع، بل كانت حلاً لفهمه، أداة للإفصاح عن مشاعر معقدة تتجاوز المألوف. لعل في سطر من شعره أو في لحظة انعكاس بين كلماته، نجد الشاعر يدعو لنوع آخر من الفهم لوجود الإنسان: ليس من خلال الرفض العشوائي، بل من خلال التأمل في اللحظة، ومعايشة ما في العالم من تضاريس.بالنظر إلى أن الحصيري استخدم رمزية الخمر والكأس، من الواضح أنه كان يحاول التعبير عن فهم عميق للوجود والتجربة الإنسانية بشكل أوسع من مجرد التصور النمطي عن الصعلكة. فهو لم يكن يسعى إلى تحقيق الفوضى التي ارتبطت بالعديد من شعراء الصعلكة، بل كان يحاول أن يعبر عن تلك اللحظات التي نمر بها جميعًا، والتي قد لا تحمل في ظاهرها سوى اللذة العابرة، لكنها في جوهرها تدعو للتأمل في أعمق طبقات الحياة.
فالشاعر عبد الأمير الحصيري، في مسيرته الأدبية، أثبت أنه لم يكن مجرد صعلوك، بل كان شاعرًا بعيون ترى ما وراء الأفق، تدرك الحقيقة في أعمق صورها. الحصيري، بذلك، لم يكن يطابق صورة الصعلوك التقليدي الذي يتنقل من مكان إلى آخر بلا هدف سوى إثارة الفوضى والتمرد على القيم الاجتماعية، بل كان يمارس نوعًا من التحليل الفكري العميق للعالم من حوله. فهو لم يكن معنيًا بتحدي النظام بقدر ما كان مشغولًا باستكشاف أسئلة الوجود، ومناقشة التناقضات التي تكمن في النفس البشرية، التي قد تظهر في ظاهرها كتمرد، لكن جوهرها بحث مستمر عن الحقيقة.إن الشاعر الذي يستخدم الكأس في نصوصه ليس في حالة سُكر مستمر، بل في حالة من الوعي العميق الذي يتطلب تأملات مستمرة. الكأس هنا تحمل المعنى المضاعف: إنها أداة للتنقل بين عوالم الفكر والمشاعر، لا مجرد وسيلة للهروب من الواقع. قد يظن البعض أن الحصيري هو ذلك الذي يلهو ويغرق في مستنقع الرغبات العابرة، لكن واقع شعره يظهره ككائن شعري ذي تفكير متدفق يسعى للتنقيب في أغوار الوجود، وكأن الحياة نفسها هي ما يعيد شربه مرة تلو الأخرى ليصل إلى حالة من اليقين.
هكذا، يصبح الحصيري شخصية أدبية فريدة تدمج بين الذاتي والوجودي، بين الفوضى الظاهرة والمعنى المخفي. فالشاعر الذي يشرب من كأس الحياة لا يطلب العيش على هامش الواقع، بل يعيد صياغة الواقع من خلال رؤيته الفلسفية. في هذا السياق، نجد أن الحصيري لم يكن يسعى إلى أن يكون صعلوكًا يحيا من أجل التمرد أو الإشارة إلى رفض المجتمع، بل كان يسعى إلى أن يكون صوتًا مميزًا يعبر عن تلك الحواف الخفية من الوجود، التي لا يفهمها الجميع إلا أولئك القادرين على النظر إلى الحياة من زوايا مختلفة.عند قراءتنا لقصائد الحصيري، نجد أننا أمام شاعر يتحدى التقليدية، لا بمعارضته الميكانيكية للأعراف، بل بتقديم نفسه كرفيق لحظة التذوق، سواء كانت تلك اللحظة لذة شعرية أم فلسفية. الحصيري لا يبث في شعره فوضى الصعلكة بقدر ما يعبر عن وحدة النفس البشرية وتجاربها، مشيرًا إلى أنها تحتاج إلى من يعي حجم الألم والفرح اللذين يمران خلالها. لذلك، من غير المعقول أن يُختصر الحصيري في إطار الصعلكة السطحية، بل ينبغي أن يُفهم كأحد الشعراء الذين يتسمون بعمق التفكير وثراء التجربة، وهو ما يجعل من شعره مرآة للعديد من الأفكار والمشاعر التي تختلط في حياة الإنسان.من هذا المنطلق، تبرز مكانة الحصيري في الأدب العربي كشاعر صاحب رؤية متجددة، لم يكن ولا يزال في نظرنا ذلك الصعلوك الذي يهيم في طرقات المدينة، بل هو شاعر يأخذ من كأس الحياة ما يمكن أن يُسهم في إثراء الفهم الإنساني لمظاهر الوجود المتناقضة. إن الحصيري، في تعامله مع الكأس، لا يقتصر على النظر إليها كرمز للعاطفة أو لذائذ اللحظة العابرة، بل يجعل منها رمزًا للبحث المستمر عن الإجابات في عالم متقلب. في شعره، نجد أن الكأس تتخذ طابعًا فلسفيًا، كأنها وسيلة للغوص في أعماق النفس البشرية، والبحث عن غوامض المعاني التي قد تتألق في لحظات خمرية ظاهريًا، لكنها في جوهرها لحظات من الوعي الرفيع. فهو لا يستعرض الفوضى أو الجنون بقدر ما يطرح حالة الإنسان الذي يعيش في تقاطع بين الرغبات والشكوك، بين الإيمان والتساؤل، وبين الحقيقة والأوهام. هكذا يكون الحصيري، في شعره، يبحث في التناقضات الداخلية التي تحكم الطبيعة البشرية.إن ربط الحصيري بالكأس يفتح أمامنا عالمًا مليئًا بالاستعارات التي تتجاوز سطح ما قد يُعتقد عن الشعراء الذين يتعاطون الخمر أو يذكرونه بشكل متكرر. فالشاعر في هذه الحالة لا يقدم صورة السكير الهارب من الواقع، بل يقدم صورة الباحث المتأمل الذي يذوق الكأس كوسيلة لفهم أكثر عمقًا للوجود. حتى وإن كان يذكر الخمر، فهو يفعل ذلك بعين المتأمل الذي لا يهيم في طريق الضياع، بل يحاول أن يكتشف الحقيقة عبر شرب الكأس.في كثير من النصوص، يكشف الحصيري عن سعيه لمفاهيم الحرية والتخلص من القيود التي قد تكبل الفرد. ومع ذلك، لا يمكن أن يُفهم شعره على أنه دعوة للفوضى أو الانفلات من الضوابط الأخلاقية. بل إن شعريته تبدو دعوة لحياةٍ أكثر وعيًا بواقعها، وأكثر قدرة على ملاقاة الحظوظ والتحديات بنظرة فلسفية عميقة. إن كان الحصيري في لحظة من لحظات شعره يرمز للكأس، فهو يفعل ذلك ليكشف عن الجوانب المعقدة للإنسان الذي قد يواجه الانغماس في المتعة، لكنه في الحقيقة يبحث عن شيء أسمى من ذلك.التحليل الأعمق لشعر الحصيري يجعلنا نرى أن تمرده لا يتعلق بنفي المجتمع أو القيم السائدة، بل هو تمرد على الشكل الظاهري للأشياء. هو تمرد على التوقعات التي تربط الفن والوجود بالمعايير التقليدية التي قد تمنع التأمل العميق في معاني الحياة. كما أن الحصيري في قصائده، سواء كان يذكر الخمر أو الكأس أو غيرها من الرموز، لم يكن يهدف إلى تقديم صورة مشوهة للإنسان، بل كان يسعى لتسليط الضوء على معاناة هذه النفس في مواجهتها للعالم. في كل سطر، نجد أنه يبحث عن النقاء في وسط الزحام، عن الوضوح في وسط الضباب.وفي النهاية، الحصيري هو شاعر يقدم نفسه عبر شعره ليس كصعلوك بلا هدف، بل كإنسان يبحث في شراب الحياة عن معنى، يروي من كأس التجارب البشرية التي تتخللها لحظات الفرح والألم والشك واليقين. وهو بذلك يرفع شعارًا شعريًا يحث على التفكير والتأمل العميق، لا على الهروب أو الانغماس في الرغبات العابرة.
