جيل الهامش الذي لا يموت أبداً..  حسين علي يونس*

شارك مع أصدقائك

Loading

جيل الهامش الذي لا يموت أبداً..

“وراء كل مجزرة دكتاتور وشاعر”……  سلاڤوي جيجيك
1
“الخطأ يهبط فقط على اولئك الذين يذهبون إلى ما وراء القطيعة” هذه الجملة المدهشة التي اوجدها هارولد بلوم في كتابه “قلق التأثر” اعتقد أنها تمثل الشعر، في اقصى تجلياته وحالاته. لقد كانت الحياة بالنسبة الينا عبارة عن خطأ جسيم، يفتح فمه وينمو، كلما اقتربنا من الحياة ومن الموت.
فيما يخصني، لم أجد الواقع مفيدا ابدا، لقد كان دائما غير ذي جدوى، كان ينصب شراكه في دائرة ضيقة تدعى الوطن الذي كان يسحقنا، يسحق وجودنا في كبد العالم المظلم ولم تكن  لحياتنا ولشعرنا (بصرف النظر عن قيمته) اية قيمة تذكر، هكذا كانت تبدو الأشياء في عهد النظام الديكتاتوري وايديولوجيته الثقيلة .
2
الشعر الذي كنا  نسعى لكتابته كان شعرا يأخذ قالبه من الحياة. الحياة التي كنا على طرف نقيض مع ما تعنيه، بحكم قربنا من الموت ورخص الحياة التي كانت تطير وكنا نمسك بها جيدا، كانت هذه هي حياتنا التي تتأرجح بين عالمين، عالم الحضور وعالم الغياب عالم الحياة وعالم الموت، كنا نراهن في كتابة نصوصنا على المفارقة والسخرية المريرة والاقتصاد اللغوي الذي يصل الى حافة المحو، الذي يأخذ شكل الموت. الزخرفة والبلاغة كانت من المنفرات، ومن مخلفات الانظمة القمعية التي كانت تتجسد في قصائد المديح والكذب.
كنا نكب ارواحنا شعرا ولم تكن تناسبنا تلك الاساليب الطنانة التي نمت في البذخ. كان منهجنا يناسب قصديتنا الحزينة، التي تمعن في تعرية الذات، التي تحمل ثقل احساسها بالعار، بسبب انكسارها. كان فعل الازاحة يتشكل في اشعارنا (المآتمية) عبر الفعل والحركة والشكل.
أما الانزياح  اللغوي التجريدي، فلم يكن يشكل رافعة مهمة في كتابة ذلك الشعر. كنا نعتقد ان الشعر انما  يكمن هنا، على سطح الحياة وفي قلب احشائها المتفجرة، اما تجسيده فيأتي عبر هذا التعارض كان يتنفس وينمو خارج السياق العام الذي كان طاردا .
كنت أكتب عن الاشياء التي ارغب بكتابتها (هكذا كان منهج وسلوك هذا الجيل) ولم اجد نفسي مجبرا على تبني ما يتعارض مع وجهة نظري هذي، لأنني لم ألجأ إلى المؤسسة الرافعة لتسويق اشعاري/ اشعارنا مثلما كان يحدث للذي سبقنا. اتحدث عن نفسي هنا ولا أعمم على الرغم من اننا كنا متشابهين بالمجمل يحملنا قارب واحد ومصير واحد (كنت/ كنا)  (أرى/ نرى) العالم بشكل والآن نراه بشكل آخر، وبالطبع العالم شيء والشعر شيء في العالم. كان يوجد لدينا شعراء كثر، كانوا  في طور التبلور، وكنت متفائلا على الرغم من الكمية الهائلة من الشعر الرديء الذي كنا نكتبه.
3
قبل ان يظهر الجيل التسعيني كان الشعر الثمانيني قد نما على انقاض التجربة السبعينية التي ازدهرت ونمت بدورها، بصرف النظر عن طبيعة ما كانت تسطره، نتيجة للتفاهمات بين قادة الاحزاب، بشقيها اليسارية واليمينية واستقرار الوضع السياسي الذي كان في حالة سكون تصالحي مع محيطه والذي كان غارقا في مده الرومانسي الثوري الذي عاش في ترف بحبوحة الوفرة النفطية والانفتاح المجتمعي،الذي لم يكن قد انغلق بعد نتيجة للكوارث السياسية التي وجد نفسه يعيش في قعرها، ونتيجة لهيمنة اليمين البعثي، وقيادته الجنونية على جميع مؤسسات ومفاصل الحياة،  لهذا كان الجيل التسعيني الذي وجد نفسه يعيش على صحراء جرحه جيلا مختلفا لم يفتح عينيه على عالم ساكن تحوطه الوفرة كجيلي السبعينيات والثمانينيات، كان جيلا صيغ من طينة العوز والاضطهاد السياسي الذي صيره الجيل الاشد حزنا، لهذا ولكل ما تقدم ايضا كان مختلفا عمن سبقه.
كان الجيل التسعيني بكليانيته يفتقد إلى الجذور، تلك التي طالما كانت عامل فخر بالنسبة لغيره. كانت هذه ميزة ترفع لها القبعة بقدر ما كانت عامل ثلم (بالنسبة لغيره) كان منبوذا ومهملا،  بسبب نشازه  وكرهه للأنساق الثقافية المسيطرة والمهيمنة التي كانت ترى  الشعر فيما وراء الميتافيزيقا اللغوية  التي كان يعمقها خجل الشعور بالضعة  للنظام، تلك الظاهرة كانت واضحة للعيان مغلفه  بغطاء سياسي منافق وضبابي، الامر الذي لم يستسغه الجيل  التسعيني، الجيل الذي انتمي إليه والذي مثلته حلقات عنقودية منغلقة على بعضها، وإن كانت منفتحة على غيرها بحكم التعارض الجغرافي والاجتماعي والنفسي التي كانت تماثل بهيكلها العام مجموعات سياسية سرية تكتب وتقرأ لنفسها، فكنت ترى عبد الامير جرص، حسين علي يونس، سلام دواي، خالد عبد الزهرة، احمد الشيخ علي، خالد مطلك، حسن جوان، ماجد عدام ، احمد الكعبي، نصير غدير، صفاء ذياب.. تقابلها في جهة أخرى  حلقة عنقودية تتكون من جمال الحلاق، سليمان جوني ، كريم راهي، فرج الحطاب، معتز رشدي، محمد مدحت ، عباس اليوسفي، سلمان داود محمد، وتقابلها في جهة أخرى مجموعة تتكون من محمد غازي الاخرس، يوسف اسكندر، حازم لعيبي، فاضل الخياط، احمد هاشم،  محمد ثامر، ريسان هاشم.. وثمة  مجموعة رابعة تتكون من مهاجري المحافظات الذين سكنوا في بغداد او الذين ظلوا يحجون إليها بين مدة وأخرى، والذين كانوا بطبيعة الحال يشكلون مجموعات عقدية في محيطهم، والتي تتكون من عبد الخالق كيطان، علي سعدون،  امير ناصر،  عمار المسعودي، حسن سلمان،  رعد زامل، غريب اسكندر، علي الخباز، على النجدي ، عمار احمد،  فارس حرام، امير الحلاج، مهدي القريشي، عمار كشيش وغيرهم.
الظاهرة الملفتة هنا ان الجيل التسعيني برمته، كان يكتب قصيدة النثر وهذه الظاهرة  لم تكن شائعة في الجيل الثمانيني والجيل  الذي سبقه، كما لم  تتكرر أيضاً  بعد تغير الاحوال وانهيار النظام السياسي القديم وتشرذم  كتابه، بعد انفتاح المجتمع على بعضه بعضاً، وبعد نهاية الحرب الطائفية التي انحسرت مع الوقت،
فما الذي اختلف بين ما قبل الجيل التسعيني  وما الذي جاء بعده  انه يكمن في سيادة ثقافة الصوت الواحد، وعودة الانماط الشعرية القديمة التي كانت نائمة في العتمة ورجعت بقوة الى حضن النسق التي تم تكريسها في الجيل السبعيني والثمانيني حصرا بسبب الاطاحة بالجبهة الوطنية، والحرب العراقية الايرانية التي دفع العراق بسببها بحيرات  هائلة من الدم، ادت في المحصلة النهائية إلى دمار هائل في البنية التحتية الثقافية والفنية وانهيار القطاع الاقتصادي والصناعي الامر الذي جر إلى انهيار النظم القيمية الرفيعة التي كانت ما تزال تتنفس  .
4
ان تكون مع، وان لا تكون ضد، هو خيار واحد، ساكن وعصي على التغير ، يحولك بالضرورة الى اداة قمع تتمثل العنف بحديه الناعم والصلب، وكان عليك بالضرورة ان تعيشه وتسير في ركابه ايضا، “فوراء كل مجزرة دكتاتور وشاعر”.
ففي البركة الضحلة لهذه الظاهرة الكرنفالية (السبعينية الثمانينية) نمت ظاهرة محو الآخر وتسيليه ومن ثم جعله ثاني اوكسيد الكاربون، هذه الظاهرة هي التي ادت إلى التقبل التام  لثنائية الدكتاتور/ الشاعر التي جرت ل(ثقافة التدمير)، ومن ثم مهدت  لشيوع هذا المفهوم عبر تمظهراته التي يمكن حصرها بكلمة  محتدمة وجارحة و ثقيلة ثقل الحياة، وتحمل سمات متناقضة ظاهريا، هذا  بالطبع لا يجعلنا نبحر صوب النوايا الحسنة، لمعتنقيها التي تغلف هذا الظاهرة التي تكسبها الرؤيا المضادة بعدا لا شرعيا، يستند بالدرجة الاساس إلى تأريخ طويل من العلاقة القائمة على مبدأ القراءة المخالفة، للآخر المغاير، المضادة للعالم .ان استخدام آلية القمع في مجتمعنا الثقافي تظهر بؤر التوتر، لذا تضطر سلطة النسق إلى استخدم القوة العنفية غالبا، مهمشة دور الأنا بوساطة الحد من حركة الجسم والسيطرة عليه ومن ثم استلابه.
في البدء لا بد لنا ان نقول إن ظاهرة تمجيد القتلة واللصوص هو تمجيد لمتن على حساب هامش طفولي وان هذا التمجيد يعد ظاهرة اجتماعية ترسخت بسبب الفقر وقلة الوعي وضِعة الروح.  ولكن هل هو ظاهرة اجتماعية فقط، ام انه ظاهرة لغوية ونفسية وعضوية، مرتبطة بوظائف الاعضاء؟  إن الحديث عن تكريس هذا السلوك الغيري بوصفه ظاهرة اجتماعية محضة، قائمة بذاتها خارج هذه الدائرة الثلاثية، انما يوقعنا في وهم التجريد، فالعنف الممارس لسحق الآخر المراد محوه  من اجل متن غاشم ظاهرة عدمية محضة، تستند إلى مبدأ المغالطة في وجهات النظر،  والامعان في تدمير الاخر، عن طريق تجاوزه، وفق اسس قبلية، غير عقلانية تعد هي المحور الاساس لتنمية هذه الظاهرة التي تزدهر في الذات المنغلقة على الاخر، والتي تدور حول نفسها من اجل اذابة الآخر في ارادة واحدة، منفعلة ومشوشة، ولا ترى نفسها
إلا عن طريق فعل التدمير الغوغائي .
5
على ضوء  ما تقدم، لو اخذنا ظاهرة شعر ام المعارك وقادسية صدام والشعر الذي كتب عن شخصية القائد الضرورة، تلك النصوص التي وضعت لتمجيد الدكتاتور ونضاله، لوجدنا انها تستند إلى القراءة المغالطة للواقع وللآخر، الذي يعيش منتكسا ومقموعا في ضوء قراءة متهافتة وتكاد ان تكون ثابتة انطلاقا من مركز يشكل بؤرة، نسميها (الدونية) عبرها تتراكم الافعال والاشارات، من المتعارف عليها، ومن الشائع ايضا ان الاعمال الادبية كلها كانت تحاور الشر، وتنتصر عليه، عبر محاربته وليس ترسيخه والتهليل له، بهذا الاسفاف وبتلك الطرق الضحلة، لم يكن الشعر المكتوب، في تلك السنوات العجاف، يحمل وجهة نظر انسانية كنا نفتقدها ونبحث عنها في ردود فعل مضادة لهذه الظاهرة الجرمية التي لم تكن تتحرر بشكل سلمي .
6
الشعر  تمثل  لا يتحقق  الا بوساطة تحرره  من الانا التي تقابلها انا أخرى تطردها.
7
ونقيضه يدل على التناقض الظاهري حين تصنع الذات موضوعها وبالعكس.
8
الجلاد والضحية لا يتماثلان الا نادرا، حين نجعل الاستثناء قاعدة ونبني عليه  قاعدة  ،نصيرها قانونا  حين يتم تبادل الادوار،  طالما ان هكذا آلية، يعمل بها بشكل تعسفي، فليس من حقنا راهنا على اقل تقدير ، ان ندير عجلة هكذا نوع من الفهم. وان نرسخه كما يرتئي البعض. قوة. ضعف. سالب. موجب. مفردات من دونها لا نقدر ان نواجه تلك الظاهرة التي تستلب الشاعر وتجبره ان يسبح بموجبه نحو قوارب الحكومات التي تستلبه الى الابد طالما انه من الهامش.  كيف  نحد من انتشاره؟ على  مسحة وجه الوطن، حين يتحكم  بصياغة غشاء دماغ حياتنا، حين يتحكم بحياتنا، دمنا وارواحنا.
هل كنا نختلف عما سبقنا؟ لنرى ذلك.
9
بعد الجيل الثمانيني مر التسعينيون على مساحة تلك الخريطة  التي تدعى الوطن، الذي لم يكن يؤمن به، هذا الجيل بسبب النكسات، والقهر والطرد، لأنهم كانوا ارواحا، تحلق خارج التأريخ،  كان يبدو انهم يفتقدون إلى الجذور، كما قلنا آنفا، كما انه لم يكن يؤمن ويرى أي حلقة تشده إلى الجيل الذي سبقه، كان ثمة قطيعة كامله مع ذلك الجيل، الذي كان يبدو متصلا مع من سبقه، لهذا كان جيلا ضعيفا على الرغم من انتفاخه الظاهري، بسبب تبنيه السياسي من قبل النظام، وابن صدام، هذه القطيعة المنهجية، هي التي كرست الجيل التسعيني، جيل خراب وكوارث، وهي التي جعلته يوجد لنفسه طرقا خاصة، بالحياة والكتابة، والنشر، اثرت بشكل كبير حتى على الاجيال التي سبقته، فمنهم ابتدأ  الشعر يركز على القصيدة القصيرة، والقصيدة الصادمة، التي تعتمد على الرشاقة اللغوية، والوضوح  في قول الاشياء، كما اعتمد على طريقة الاستنساخ، التي تبنت طرق العمل، السري للأحزاب الممنوعة والمقموعة، مما شكل عامل جذب اضافي للآخرين الذين تهافتوا على طباعة كتبهم بهذه الطريقة، التي مضت تنتشر انتشار النار في الهشيم، حتى ان البعثية قرروا ان يطبعوا كتبهم بذات الطريقة، التي يحوطها اليأس، فبعد تجاربي في “اجراءات، إساءات، على الارض تكاثر الالهة، نفايات متأخرة، وموسى”، كذلك تجربة عبد الامير جرص في “احزان وطنية”، و”صعادات” جمال الحلاق، و”بغدادات” حكمت الحاج  الشاعر والناقد الثمانيني، ظهرت ايضا مجموعة كبيرة من المجاميع الشعرية، لشعراء لا ينتمون للتسعينيين بعد ان كرست هذه الظاهرة، وانتشرت  على حساب جيل الخراب والكوارث الذي لم ينعم بالامتيازات، على عكس الجيل الذي سبقه، ذلك الجيل الذي حصل على الامتيازات  كلها، والوظائف من قبل الدكتاتور، وابنه فيما بعد، حين عينوا في اماكن مهمة وكانت لهم صولات وجولات كارتونية في عش الدبابير، كما تم اعفاء جلهم  من اتون النار والحرب المستعرة كما عملوا في جرائد صدام  وابنه. لقد (لمتهم) جرائد الثورة والجمهورية والقادسية وحراس الوطن والف باء اضافة إلى مجلة الجيش الشعبي، ودار الشؤون الثقافية وغيرها..  كانوا محصنين، الا قلة منهم، من اصحاب قلة الحيلة واصحاب الضمير الذين كانوا قلة قليلة، على عدد اصابع اليد الواحدة.
هذه الامتيازات، التي حرم منها الجيل التسعيني، منحته فرادة  جعلته يستخدم عصارة الكارثة ليعيد انتاجها، لهذا كان عليه ان يتجه إلى الرؤى العدمية التي كانت تناسب ذلك المناخ، حيث كانت  سائدة اللاجدوى والاحساس بالخسارة كان كونيا ومطلقا في تناهيه حيث لم يكن ثمة قيم جمالية يعتد بها. كانت المحسوبية والرداءة سائدة بكل تفرعات حياتنا، وبالتالي لم يكن ممكنا، ان نبحث عن القيم الكبيرة، وسط هذه الصغائر، كان ذلك سيبدو كاريكاتوريا متقنا لما كنا نناضل ضده.
كان الاحساس بالخسارة عاما، وكان التعويل على الانا، كفيل بصونها من الفساد السياسي والاجتماعي. الانا المنغلق الذي كان مهزوما، كان  الامل الوحيد المتبقي لصناعة شيء مغاير،  لم يتربى بين احضان البعث والطلائع في المسيرة، كما تربى الجيل الثمانيني، الذي يمكن اعتباره عصارة تلك المرحلة وبرازها الواضح،  لحسن حظ الذين جاءوا بعدهم، ان تلك المنظمات فقدت قيمتها  الوظيفية، ولم تعد تمارس حضورا طاغيا مثلما كان في بدايات السبعينيات والثمانينيات فخلافا لهذا الجيل المدلل، كان على الجيل التسعيني  الهامشي، الذي لا تربطه بالذي سبقه كما قلنا انفا ، اية حلقة وصل  وبالتالي لم يكن ليعتمد على الدولة، ليعلن عن نفسه المحطمة ، كانت الدولة وحكومتها المهيمنة، الجبارة قد انهارت وغرقت بالكوارث التي صنعتها بنفسها نتيجة لخطل حكامها، وكان لديها اساطين من المدعين والزمارين، الذين جعلوا الجحيم نعيما بحضرة القائد الضرورة، وكان لهذا الجيل ان يبحث له عن آباء شبحيين، وهكذا كان.
10
كان الجيل التسعيني ينتمي حصرا إلى الجيل الستيني  المنشق الذي كان يتبنى رؤى كونية كبيرة، كان الجيل الستيني ينتمي إلى جيل الكارثة والتطلعات الثورية الكبرى، المنفتحة على العالم، على الآخر الغريب. وهكذا وجد الجيل التسعيني نفسه اقرب ما يكون إلى سركون بولص، وفاضل العزاوي، وجان دمو، وحسب الشيخ جعفر، وعبد الرحمن طهمازي، منهم إلى الجيل السبعيني والثمانيني. كانت تلك احدى هزليات القدر وطفراته الحاسمة، لذلك كانت لذلك الجيل احداث مختلفة على صعيد الحياة والكتابة، فهو لم يكن جيلا منضبطا، على مستوى السلوك كما انه لم يكن يعير أية اهمية للقواعد والاخلاق، التي كانت تبدو  تافهة ولا قيمة لها،  بسبب سيادة النفاق الاجتماعي والادبي والكذب الممنهج، لهذا لم يكن الدين بوصفه نسقا ليحظى باية قيمة ، بينما كانت السياسة  كذبة عفنة. لم يكن ثمة الكثير من القيم والاماثيل التي تستدعي لملمة الخراب وطمر مقالع الاكاذيب.
11
لقد توقف الزمن حقا! في نهاية السبعينيات، توقف الزمن بصفته نهرا، ليصبح بركة آسنة تعشش حولها الطحالب، لهذا مد الخواء جناحيه على العراق، وغطى كل شيء في طريقه، ولم يكن الشعر استثناء، فلقد كان الخراب عاما، وكان الموت يحصد الارواح. ماتت الموسيقى، والغناء تحول الى انشودة مديح لاتنتهي. مات المسرح والسينما التي كانت في بداياتها نزلت الى القاع، بينما تحول الفن التشكيلي الى بورتريه متصل للقائد الضرورة. كان كل شيء يلهج بحب القائد الضرورة. لم نعد نسمع غير اناشيد المعركة، والشعر الشعبي الرديء، بعد قصائد مظفر النواب الخالدة. اختفت الاغاني السبعينية بالغة الرقي، ولم نعد نسمع صوت داخل حسن وزهور حسين ووحيدة خليل وناصر حكيم وحضيري. اصبح لدينا فرقة القائد وفرقة القوات المسلحة ومسرح القوات المسلحة وفرقة العزيز القائد ومن هذا. لم نعد نسمع رضا علي  وغاب صوت ناظم الغزالي. اختفت الحان صالح الكويتي وبقيت اصوات الغربان تنعق. لقد جرف الموت كل ذلك الجمال،  وأوجد له  بديلا يتماشى مع وجهه القبيح، من تلك القذارة العفنة”بالوعة الدم والموت” مثلما كان يقول اندريه بريتون.
12
قدم الجيل الستيني اعمالا ممتازة حقا. شقوا الطريق للجيل الذي جاء بعدهم بشكل رائع لكن عملية حفر تلك الطرق ذهبت ادراج الرياح لأن الجيل السبعيني والجيل الثمانيني وجدوا انفسهم يعومون على بركة القذارة والدم، فتلطخوا بها، ربما يكون ما حدث شيئا قدريا، لكن هذا كان هو واقع الحال، فمن بين مئات  من الذين ظهروا في كلا الجيليين لا يمكن ان نستثني الا مجموعة صغيرة صانت نفسها، ولم تتلوث بعطن تلك البركة القذرة،  التي نأت بنفسها بعيدا يمكن بالطبع ان نذكر منها هاشم شفيق، شاكر لعيبي، خالد المعالي، عدنان العيسى، عبد الحسن الشذر، عبد العظيم فنجان، حكمت الحاج، عقيل علي، جمال جمعة ، محمد مظلوم، باسم المرعبي، نصيف الناصري، ناصر مونس. هذا كل شيء اما  البقية فلقد تلوثوا، ومسخت تجاربهم التي لم تكن ذات اهمية في أي يوم ، كانوا هؤلاء من الهامش، و يمكن لنا ان نرى ما تركوه، كان ثمة موانع ومعرقلات وتخبط  وفوضى والغاء ،  بلغ مراحل كارثية، وكان لا بد لذلك ان ينتج ما يمكن ان نعده (مكابدة الذات) وهي تحاول  ان ترسخ نفسها.
حين تلغي الآخر، فانك بشكل ما ستفتح  له  باب العالم المغلق ،  ذلك لان ثمة عالم حقيقي  يتحرك  في مجالين، عندما يتعطل المجال الاول،  فانك تشد الرحال إلى المجال الثاني  ذلك الذي حفظ لنا اروحا شفافة  وكبيرة،  من ذلك المجال خرجت كتابات  نظيفة غريبة.
13
لم يكن يوجد على السطح الذي كان مهيمنا غير بضعه أسماء قدر لها ان تتواجد على سطح المشهد الثقافي على صغره،  لم يكن عالم الضد  يعترف بها ابداً ،   لانها  كانت باهتة  في مجملها يعوزها الصدق  والتماسك وتعاني من تضخم الانا ، الذي  لم يكن ليتناسب  بالمرة مع حجم ما انجزته  من هراء.
كانت مواهب طنانة تستمد مشروعيتها من قوة النسق ، الذي كان يفرض أنموذجه  متمثلا ببعض الاسماء،  التي تم تكريسها والتطبيل لها،  ومقابل ذلك كانت توجد أسماء اكثر اهمية بكثير، فضلت ان تعيش في العتمة،  على الهامش منطوية على نفسها ،  وكان ثمة آخرين بالطبع،   قدر لهم ان يعملوا بالخارج وان يعملوا شيئا في الجانب الآخر من العالم .
14
كان التسعينيون من الهامش وربما لا يزالون منه، يستقلون هذه العربة الخشبية  القديمة.
من نافلة القول ومن البديهيات الثابتة لعلم التدوين، إن الهامش ظاهرة كونية، مرتبطة  بنسق كبير جدا وببقعة تشكل 90% من سطح الارض، وان هذا الهامش يعبر تخوم التجمعات البشرية ويمكن ان يكون نجما صغيرا، ويمكن ان يكون ذرة  او سحابة ،  تفنى وتعيد انتاج نفسها، تلك احدى الغاز الكون وضربات الابد.
عندما نتحدث عن الهامش لا يمكن الا ان  نتحدث عن نقيضه،  هكذا يكون لزام علينا ان نتحدث عن متن صلب ازاء هامش هش يمارس وظائفه من مكان تواجده على تلك البقعة،  في بنية  معدمة محكومة بالنسق  الهش،  سواء كان ذلك في الاثير او على الارض التي يبتلع خيراتها متن قاس وصلب، يدحرج نقيضه إلى حفر الكون المظلمة التي يجب طمرها بين طيات الشقوق.
15
لكن الامر لا يقف عند تخوم هذه الفضلة، التي سميناها هامشا، بل يتعداها لأن تلك الفضلة، هي التي كانت ولا تزال تتحمل ثقل العالم،  في ذلك النسق القاسي الذي يشع على سطح تلك الفضلة من اجل اعادة انتاج بريقه (أي العالم) .
ومن نافلة القول أيضاً ان الهامش ليس تجريدا فثمة ارضية صلبة يستند إليها، وثمة  منظومة كونية تشدها إلى بعض بسلاسل لا تنفصم عراها الخالدة ابدا. لأن الهامش في نقطة (أ) هو الهامش نفسه في نقطة (ب) وهكذا سيكون علينا ان نتحدث عن هامش واحد هامش بلا مركز، هامش واحد يتكرر إلى ما لا نهاية في كل زمان ومكان، لهذا فهو يخضع  إلى بؤر ثابتة و متنقلة عن طريق بنية التناظر النسقية الصامتة تلك التي تحكم العالم.
ويمكن ان نورد امثلة كثيرة على وجود تلك النسبية الثورية وجمالها الاخاذ الذي  نلمسه بشكل جلي في التصوير الفوتغرافي ،  افلام السينما الصامتة بالابيض والاسود، ثمة الغناء والموسيقى الكلاسيكية، ازاء  طغيان الموسيقى السطحية، وثمة كتابات الهواة، وكتابات كاتب العقود ومعاملات الدوائر، هناك كتاب رسائل العشق السرية أيضاً، وثمة العمال الذين يتم سحقهم من قبل مدراء اجلاف، ثمة نساء تحركها ذكورية قاسية، وهناك اطفال يرزحون في قيد الأبوة الاكليركية، ثمة السيارات الفارهة، والسيارات الرخيصة، وهناك الرجل الوسيم، والرجل القبيح، ثمة العرق وهناك البيرة، ثمة الالوان الغامقة والالوان الفاتحة، ثمة القصير والطويل ، ثمة مجانين وعقلاء.. اعداد لا متناهية تصنع الهامش وتعيد انتاجه، وما من امل يجعلك تنتشل ذلك الهامش من وحل الهزيمة ابدا.
كل شيء يولد ويموت على وجه الارض، على مر الازمنة كان  يوجد هامش كبير يحضن نفسه، وعلى مر القرون، كان وجوده  يتأرجح بين الغياب والحضور وبالعكس. كان ما شور ومثال حي على طبيعة ولادة المتن بصفته هامشا ومن ثم موته بصفته متنا .
لكن هذه المتوالية النسقية لن يقدر لها ان تحضن نقيضها ابدا، على الرغم من ان ثمة محاولات حلمية حاولت وتحاول ان تفعل ذلك بشكل مجازي من مثل الناس سواسية كاسنان المشط وهلم جرا.
لكن تلك المحاولات لم تكن جدية ابدا وكانت موسومة بنقيضها  الابدي.
طالما اننا هنا، ونواصل حياتنا على هذه الارض لتكن بؤرة تحولنا من العراق، ومن منزلي الرطب الذي يتداعى وتنهشه الارضة بالغة الصغر، ومن مكان عملي قرب كريم حنش ومعهد الدراسات النغمية الذي تسرحت منه اخيرا حيث كانت تحوطني الآلات الموسيقية المهشمة التي نسيت ان اذكرها بصفتها هامشا في بداية قولي، وحيث تصدح ام كلثوم و فريد الاطرش وعبد الوهاب واسمهان وصباح فخري ووديع الصافي وناظم الغزالي وفيروز من مسجلي الياباني الصنع الذي اصبح من الهامش الآن، ليكن العراق مبتدأً لنا الذي اوشك ان لا يكون، والذي يمر الآن بصيرورة ان يكون هامشا وأن لا يكون ابدا.

*- نشر المقال في مجلة ”  كناية” رئيس تحريرها  حكمت الحاج

شارك مع أصدقائك