اللوحة
أنوار حسين الدليمي
لم تكن رائحة العفونة المتخمرة العالقة بالهواء هي السبب في هذا الانقباض الذي يحسه وهو يجتاز عتبة البناية المتداعية، محاولًا تحسس طريقه إلى السلم الذي سيفضي به إلى شقة صديقه الفنان، الذي الح عليه أن يزوره ليطلعه على عمله الأخير. “يجب أن تأتي”، قالها بنبرة آمرة، ولكنها لم تكن لتخفي خيط التوسل الذي كان يتسرب مابين الكلمات. فمثل كل مرة، كان عليه أن يستجيب لآخر مبرر للزيارة يربطه بصديقه القديم، قدم سنوات الاكتشاف في بواكيره الأولى. هذا العمل سيغير من مسار التشكيل، ويجبر النقاد على الالتفات أخيرًا لما اختزنه من موهبة. كما أردف في اخر اتصالاته بصوت يشي بأن عدم تحقق هذه الزيارة قد يكون أقرب للتهاون بسنين الصداقة الطويلة منه لغياب قد يفرضه هذا الظرف أو ذاك. ثوانٍ قليلة احتاجها للتعود على العتمة التي تلف المكان قبل أن يرتقي السلم متحسسًا موقع أقدامه، التي لم تطأ هذه البلاطات منذ أن اختطت له الحياة مساربًا وسبلًا نأت به شيئًا فشيئًا عن تلك الأيام التي كان فيها لا يفارق صديقه، الذي بزغ في حياته فجأة وتحول كحاجة أساسية في حياته. كان شغوفًا بصديقه جدًا، وكانا يدمنان الرسم معًا، وكانت لقاؤاتهما أشبه بالزرقة الصافية في سماء الأيام الحارقة. كان يراه دائمًا عكسه هو، فتى مرحًا وشجاعًا ومدفعًا، رغم التحذيرات الكثيرة التي كان يسمعها من العديد من الأصدقاء عن خطورة هذه العلاقة.. والتي لم يكن يعيرها أي اهتمام، بقدر إحساسه بالمتعة خلال مجالسته والحديث معه في تلك الليالي التي اختبر بها جمال الشعور بذلك الضوء المنبثق من فتوة الشباب والشعور بالانفصال عن هذا العالم والتحول إلى مجرد طيف خفيف. تثبت جيدًا في جوانب السلم خوفًا من أن تنزلق قدمه عن أحد الثلم الكثيرة التي حفرتها سنوات الفقر المدقع والاهمال في بلاطات السلم القديمة. ملمس الحاجز الحديدي أعاد اليه ذكريات لليالي كان يصعد فيها هذا السلم قافزًا متضاحكًا مع صديقه. توقف قليلًا قبل أن يقرع الباب ليجده ببقايا من ذلك الوجه الحارق الذي أفتضه شظف ما في اليد وأمعن الجدب الطويل في حفر أخاديدَه على طول جبهته المنهكة، ذلك الوجه الذي لطالما ربطه بهواجس الصبا وذكرياته المتناثرة على طول سنوات عمره. استقبله ببشاشة مهملة لم تحسن اخفاء ذلك الانطفاء الذي لمحه في وجه صاحبه وهو يدعوه للدخول.. وذلك الوهن الذي رافق حركة يده وهو يعدل وضع اللوحة أمام المتاح الشحيح من ضوء الشمس الذي استطاع الافلات من الزجاج القذر الذي يزين النافذة الوحيدة في المنزل.. ولكنَه، كما كان يخشى، لم يحتج إلا إلى نظرة خاطفة.. نظرة واحدة فقط، ليتوصل إلى الرأي الذي حاول التملص منه لسنين.. فعلا.. لم تكن العفونة هي السبب في تردده.. ولا رطوبة الحائط .. ولا الضوء الخافت ولا البلاط المكسور، ولكنه كان الانسحاق أمام فكرة أن يخبر بقايا ذكرياته أنه لا جدوى من تشبثه بما لن يكون، وأن الذقن المهمل والشعر الطويل وقناني الخمر الفارغة، وبقايا الطعام المتعفن على الطاولة.. لا تكفي لصنع لوحة جميلة.