وديع شامخ
رئيس التحرير
مهاد
مبدعة عراقية النسب ، بغدادية الهوى، متعددة المواهب ، قامة سامقة في فضاء الكلمة سرداً وترجمة ، وهي مُغامرة جريئة ، لاتعرف التوقف في محطة أو حقل ابداعي مخصوص ، نحلة إبداع ، لذا كانت مغامرتها في مجال كتابةالسيناريو والإخراج السينمائي غاية في التمييز بعد ان درسته اكاديميا في (المدرسة العربية للسينما والتلفزيون) التابعة لأكاديمية الفنون في القاهرة وهي في سن 75، اذ ان الزمن في مفهوم الناصري هو مجرد رقم واحساس .
اتحفت المكتبة العربية بمؤلفاتها القصصية وترجماتها ، وهي من الجيل الذهبي للمبدعات العراقيات والعربيات ، مُتعفّفة في الظهور الإعلامي ، ولم تشكل لها الجوائز قيمة ابداعية ، وكانت ترى ان قراءة كتبها عموما ، وقصة لها من جندي عراقي عائد من جبهات القتال هي اجمل الجوائز .
وكانت الشهادات بحقها كنت خير شاهد على تميز وسمو مسيرتها الابداعية، إذ قالت عنها الكاتبة والصحفية الأمريكية مارلين توملنز :
(“بثينة الناصري كاتبة رائعة ولدت في العراق وتعيش في مصر منذ
1979
–الليلة الاخيرة–
تجمع 16 قصة قصيرة .
بعد ان انهيت الأولى
(الليلة الاخيرة)
مضيت في القراءة لأن بثينة أسرتني لقد جذبتني الى عالمها الذي هو عالمي ايضا لأننا كلنا بشر متشابهون او مختلفون في اساليبنا ولكننا لسنا اقل من بعضنا البعض .رسالة قصصها تقول أن (هذه هي الحياة )، ولكن وهي تقول لنا هذا نفهم انها تقول لنا ايضا. (عيشوا حياتكم) .
هذه اول مرة اقرأ لبثينة ولكنها لن تكون الاخيرة. اضعها في مصاف كتّابي المفضلين الاخرين: “باولو كويلهو، ايتالو كالفينو، امبرتو ايكو، كارلو ليفي، اندريه ماكين، اكسيل مونته، فلاديمير نابوكوف، اموس اوز، خاييم بوتوك، جوزيف روث وغيرهم”
ومن متابعتنا لرحلة المبدعة الناصري وتاريخها المشرق من الكلمة الى الصورة ، قررنا في مجلة ” ألف ياء ” بأن تكون بثينة هي صاحبة الغلاف العربي الأول للعدد السنوي للعام 2024-2025.. تقديرا لمكانتها المميزة سردا وترجمة وآخر ها في حقلي كتابة السيناريو وإخراج الأفلام السينمائية ، التي حظيت بقبول جماهيري جمالي واسع ، وحازت على جوائز في مهرجانات عالمية وقارية مهمة . ولقد قررت ان يكون تقديمها ليس بحوار تقليدي ، وانما اخترنا ان نضع صفحات المجلة مسرحا لشهادتها الحيّة وهي ترش علينا عطر سيرتها في مختلف الحقول وكان هذا البوح .. شكراً بثينة الناصري ..
……………………………….
من الكلمة الى الصورة
رحلة إبداعية حافلة بالعطاء والنجاح والمغامرات
بثينة الناصري
*-الكتابة مغامرة والحياة مغامرة والموت المغامرة الكبرى
*- يُخطىء من يقول ،المرأة لا تكتب إلا عن حياتها ومشاعرها.
*-الكتابة لا جنس لها.
*– ما أجمل هذا.. أكتب قصة لجمهور يتكلم العربية فيتأثر بها – بعد الترجمة- قارىء في بلاد بعيدة يتكلم لغة اخرى
*- لما لا يعرفه عني الكثير .. أنا أكتب الشعر باللغة الإنجليزية
*- أحب المغامرة والمجازفة في استكشاف طرق إبداعية جديدة
*- السينما كانت شغفي الثاني بعد كتابة القصة منذ أن بدأت التعبير عن ذاتي
*- أؤمن بأن المستقبل للصورة وليست الكلمة
*- في عام 2017 درست كتابة السيناريو أكاديمياً
حكاية البدايات
لا أدري كيف بدأت كتابة القصص وانا في سن مبكرة جدا، حيث بدأت أنشرها في الصحف العراقية وعمري 16 سنة.
ولكن قبل ذلك ومنذ وجودي في المدرسة المتوسطة انتبهت معلمة اللغة العربية اني اكتب اي مادة انشاء تطلبها، بشكل قصة. فأهدتني رواية نجيب محفوظ –زقاق المدق– ومع أن موضوعها كان أكبر من سني في ذلك الوقت. لكنها ربما فتحت امامي أبوابا واسعة.
كنت ومازلت أحب أن أخلد لنفسي بعيدا عن ضوضاء التجمعات. ألاحظ بدقة كل ما أراه في الطبيعة، في الشوارع، تصرفات الكائنات الحية سواء بشرا أو حيوانات او حتى الأشجار. اكتشفت إرادتي القوية مبكرا، وربما استلهمتها من صمود حيواناتي الأليفة التي كنت أربيها وقد تعلمت منهم الكثير. يصاب أحدهم بكسر او إعاقة ما، فيستمر في المقاومة والحركة رغم الألم، وربما لو كان بشرا لارتمى على سريره وأتكل على من يرعاه، واستسلم للدعاء لربه ليشفيه.
ملاحظاتي الدقيقة تلك لكل ما حولي، انعكست على قصصي حتى كتب بعض النقاد فيما بعد أن قصصي تصلح أفلاما فكأن السيناريو جاهز فيها. وربما هذا ما ساعدني في المرحلة الحاضرة على تحويل قصصي الى أفلام سينما.
حصاد الكتابة وكتاب المغامرات
قبل عدة سنوات جمعت كتاباتي منذ 1974 حتى 2015 في جزأين وكان العنوان (كتاب المغامرات)،.لأني أؤمن بأن الكتابة مغامرة والحياة مغامرة والموت المغامرة الكبرى.
لماذا اعتبرالكتابة مغامرة؟ لأني أكتب لأخلق عوالم جديدة فيها كائنات أتحكم بمصائرها وأحدد مساراتها، ولكنها أحيانا تفلت مني فتكتب هي نهاياتها.
أبطال أول قصصي في تلك السن المبكرة، كانوا شخصيات لم أعش حياتها ولا اعرف عنها سوى ملاحظاتي الدقيقة لما حولي. القصة الأولى كانت (حدوة حصان) وهي قصة عن رجل يبحث عن رزقه في نقل أشياء بعربة يجرها حصان. وربما كانت القصة متأثرة بقصص تشيخوف. فيما بعد كتبت قصة بطلها الحصان الذي ولد في سيرك وعاش حياة باهرة مع امه، ثم تبدل حاله وعاش بؤسا وعنتا بعد ان تم بيعه لصاحب عربة تنقل الخضار وغيرها الى الأسواق. القصة عن ذكريات الحصان واشتياقه الى أمه وفي يوم يراها ايضا في السوق، فيتمرد ويقلب العربة ويحرر نفسه وينطلق نحوها.
عوالم الناصري القصصيّة الغرائبية الساحرة
هكذا استمرت قصصي تدور عن شخصيات غريبة عني، فتيات ليل، سائق سيارة اجرة، جندي امريكي في فيتنام، عراقي عائد من الأسر في ايران، جندي عراقي راجع من الحرب. يهودي ألماني مهاجر الى فلسطين. سكان مخيم لاجئين، متسول يصارع كلابا على البحث عن طعام في سلة زبالة في الشارع، كلب ينوي الانتحار، رجل يعيش وحيدا فيكلم زوارا خياليين، حذاء يروي قصته، رجل يموت في حادث فيحاول ان يخرج من ثلاجة الموتى، فلاح تنجب امرأته اناثا فقط وله بقرة تنجب ذكورا فقط فيحاول تغيير المعادلة، فلاح آخر يطارد معزى تغزو مزرعته. والى آخر القائمة، اكثر شخصيات قصصي من الرجال، وربما هذا يدحض الفكرة السائدة لدى الكثير من القراء (وحتى النقاد، أن المرأة لا تكتب إلا عن حياتها ومشاعرها. فالكتابة لا جنس لها. ولهذا اقول ان الكتابة مغامرة.
ومن مغامراتي في الكتابة، تلك القصة المتخيلة عن جلجامش وهي بعنوان (حَدَثَ في اوروك) وابدأها بهذه الفقرة (الفصل الأخير من قصة كلكميش كما سجلها كينام السكير وبما ان اللوح المفقود هذا وجد في مكان لا يخطر على بال أحد فإني أشك في صحة الأحداث المروية).
وقصة (اسطورة سومرية: الذي لم يستطع ان يموت) وتبدأ بهذه الفقرات:
تساءل الجالس على العرش
وهو يمد بصره اللامتناهي الى الخارج:–آنو– إله السماء السومريّة
”ماهذه الضجة ؟“
كان ثمة رجل رث الثياب يحمل لافتة، يروح ويجىء أمام بوابة الإله غير آبه لزجر الحارس لهة )
وهناك قصة تتنبأ بما يحدث الآن وهي بعنوان (تل أبيب 2024)
: وتبدأ بهذه الفقرة:
(في وسط أورشليم الغربية، بين الكنيست ووادي الصليب والجامعة العبرية يقوم بناء حديث الطراز. كتل معمارية مكعبة ومستطيلة ودائرية بالأبيض والأسود. “خذ الباص رقم 5 أو 16”
والقصة مكتوبة ومنشورة 1974 وتوقعت انها لن تحدث قبل نصف قرن. وبسبب وصف الأماكن الدقيق، فقد ظن بعض القراء أني ذهبت الى هناك. لم يحدث ذلك ولكني في كتابة أية قصة يجب ان اقوم ببحث طويل بالاستعانة بالصور او الكتب وكنت قد حصلت وانا في زيارة الى لندن على مجلة سياحية كانت فيها معلومات مصورة عن تل أبيب.
المكان والتحولات في تجربة الناصري
بمناسبة الحديث عن السفر، فقد سافرت كثيرا الى بلاد أخرى هي
: بريطانيا– اسبانيا– ايطاليا– بلغاريا– رومانيا– تشيكوسلوفاكيا– روسيا– السويد – النرويج– كوريا الجنوبية– تركيا– سوريا– لبنان– الاردن– الامارات– فرنسا. ثم اخترت مصر لأقيم بها منذ 1980.
بعد هجرتي الى مصر، انقطعت عن كتابة القصة لمدة 10 سنوات.
. كنت مثل شجرة اقتطعت من أرضها وزرعت في أرض أخرى
. ومن يمارس الزراعة، يعرف أن تأقلم الشجرة في تربة جديدة يحتاج وقتا. بعدها كتبت قصة
(ميلاد) عن رجل يموت ثم يولد من جديد. هذا ما حدث لي
الكاتب والجوائز
لم أقدم قصصي لجوائز، لأني كنت أعتبر أن جائزتي هي ان يقرأ كلماتي قاريء مجهول فتؤثر فيه وربما تمنحه فرصة للتفكير أو لتغيير مساره. وهكذا كانت الجائزة الأولى من جندي عراقي راجع من الجبهة يركب قطارا من بغداد الى بيته في البصرة، فالتقط مجلة وجد فيها قصتي (القطار المسافر .) ويذكر في رسالة ارسلها بعد ذلك الى المجلة، أنه قرأ القصة في القطار فأنسته هموم الحرب، وحين وصل الى البيت قرأها مرة أخرى قبل أن ينام، وفي الصباح انطلق يبحث في المكتبات عن أي كتاب قصص لواحدة لا يعرفها اسمها بثينة الناصري. والجائزة الثانية كانت من قارئة امريكية، كانت صحفية تحضر ندوة عن مختارات قصصية لي ترجمها المستشرق الكندي المعروف دنيس جونسون ديفز وصدرت عن دار نشر الجامعة الأمريكية في القاهرة في 2002. تكلمت الصحفية وقالت ان قصة في المختارات هي (الليلة الأخيرة) وهو نفس العنوان الذي اختاره المترجم لكتاب المختارات، قد أثرت فيها ودفعتها لاتخاذ قرار كانت تؤجله..
ما أجمل هذا. اكتب قصة لجمهور يتكلم العربية، فإذا بها حين ترجمت للغة أخرى تغير مسار قارئة في مجتمع بعيد لم يكن هدفا لي بالقصة، وهذه مارلين توملنز تعيش في باريس قرأت مختارات من قصصي المترجمة الى الانجليزية ووضعت تعليقا على موقع أمازون. هذه ترجمته :
شهادة بحق بثينة الناصري
مارلين توملنز
(بثينة الناصري كاتبة رائعة ولدت في العراق وتعيش في مصر منذ 1979
–الليلة الاخيرة– تجمع 16 قصة قصيرة . بعد ان انهيت الاولى (الليلة الاخيرة) مضيت في القراءة لأن بثينة أسرتني. لقد جذبتني الى عالمها الذي هو عالمي ايضا لأننا كلنا بشر متشابهون او مختلفون في اساليبنا ولكننا لسنا اقل من بعضنا البعض. رسالة قصصها تقول أن (هذه هي الحياة )، ولكن وهي تقول لنا هذا نفهم انها تقول لنا ايضا (عيشوا حياتكم)
هذه اول مرة اقرأ لبثينة ولكنها لن تكون الاخيرة. اضعها في مصاف كتّابي المفضلين الاخرين: باولو كويلهو، ايتالو كالفينو، امبرتو ايكو، كارلو ليفي، اندريه ماكين، اكسيل مونته، فلاديمير نابوكوف، اموس اوز، خاييم بوتوك، جوزيف روث وغيرهم)
الترجمة حكاية ومشوار
تمت ترجمة قصصي الى العديد من اللغات
الانجليزية –الايطالية – الفرنسية– الالمانية– السويدية – النرويجية–الأسبانية – الملايالم الهندية وهي لغة ولاية كيرالا.
وهذه الترجمات كانت من قبل مترجمين تواصلوا معي وتعرفت عليهم، وترجمات اخرى اكتشفتها صدفة على الانترنيت.
من ناحيتي ولأني خريجة أدب انجليزي من جامعة بغداد، فقد ترجمت العديد من قصائد شعراء عراقيين الى اللغة الانجليزية ، كما ترجمتُ بعض قصصي الى الانجليزية، وإلى العربية ترجمت عدد هائل من المقالات حول الحرب في العراق والتضليل الإعلامي بشكل عام والحروب النفسية، وجمعت بعضها في كتب والبعض الاخر مازال ينتظر الطباعة، كما اهتممت بترجمة مذكرات الجنود الأمريكان في العراق.
والشيء الذي قد لا يعرفه الكثير عني هو اني اكتب الشعر باللغة الإنجليزية ربما لأني درست ايقاعات الشعر بتلك اللغة، لكني لا اعرف كتابته بالعربية. وقد نشرت تلك القصائد مؤخرا في كتيب كما نشرته في بعض المواقع الأجنبية
الناصري وتجربة الإخراج السينمائي وكتابة السيناريو
.يسألني الكثيرون عن سبب إتجاهي مؤخرا الى الإخراج السينمائي. وهذا ليس غريبا لأني أولا أحب المغامرة والمجازفة في استكشاف طرق إبداعية جديدة. ولأن السينما كانت شغفي الثاني بعد كتابة القصة منذ أن بدأت التعبير عن ذاتي.
لم أكن قد درست السيناريو حين كتبت قصة ( سيناريو فيلم صامت) في عام 1974 ونشرتها في مجموعتي الأولى (حدوة حصان ). كانت هذه بدايتها :
(يملأ الشاشة دخان كثيف. تهبط الكامرة على شجرة زيتون مشطورة وقد مس جزء منها الأرض. تظهر فردة حذاء رجالي عتيقة ممزقة الحواف ملطخة بدم طازج. الكامرة تستعرض خياما هاوية، محترقة، يتصاعد منها دخان وغبار. حركة طفيفة خلف مزق خيمة. لقطة قريبة لوجه طفل يطل من الخيمة، ينظر الى الكامرة دهشا، في الثالثة من عمره، عيناه سوداوان وشعره أسود مترب، في وجهه الأبيض بقع سود. يتلفت حوله، يبدو عليه الفزع، يرد رأسه خلف الخيمة، ولكنه بعد قليل يطل مرة أخرى. يتعثر بخطى متأرجحة. تتحرك شفتاه دون صوت “ماما .. ماما” تستعرض الكامرة أنقاض الخيام. الأرض المحفرة. صوت الطفل خارج الكادر” ماما.. ماما. خشيش النار يغطي على صوته.الكامرة تتابع ظهر الطفل وهو يتعثر بين الركام بحثا عن خيمته. يدور بعينه حوله ثم يكمد وجهه).
من الواضح انها قصة عن قصف مخيم لاجئين فلسطينيين. لكن حين درست السيناريو بعد أكثر من اربعين عاما، فهمت ان هذا المقطع لا يمكن ان يكون سيناريو جيدا، لأن السيناريست لا يحدد وضعية الكاميرا، وانما هذه مهمة المخرج.
في عام 2017 درست كتابة السيناريو، وكتبت السيناريو والحوار لقصتين من قصصي هما (سبق صحفي) و حكاية البنت سماح) وأخرجهما مخرجان من شباب مخرجي مصر. وقد غير المخرج حسن صالح عنوان الفيلم الثاني الى (منديل بريحة) وفي عام 2022 ق ررت ان أدرس الإخراج من أجل تحويل قصصي الى أفلام قصيرة. وبعد تخرجي أخرجت وأنتجت 4 أفلام مقتبسة من قصصي القصيرة.
لماذا السينما الآن؟ لأني اؤمن بأن المستقبل للصورة وليست الكلمة. ولأن تحويل الكلمة الى صورة وهما لغتان مختلفتان، يشعرني بأني أعيد كتابة القصة بشكل آخر وربما ببداية ونهاية مختلفتين، وأهم من كل هذا أن أرى شخوص قصصي وقد بعثت فيهم الروح والحياة. وفي النهاية هذه مغامرة جديدة أتحدى نفسي بها.