في مثل هذا الشهر من العام ١٩٦٤ رحل السياب عن عالمنا، وترك إرثا شعريا قاربته الكثير من الدراسات، وبقيت منه هوامش كثيرة لم تُدرك، فهو الشاعر الذي يبقى شعره مثل غابة تنطوي على الكثير من الأسرار. السياب هذا الجنوبي الذي اخترق بغداد والعوالم الأوسع منها، لم يكن زاده سوى العنفوان والجنون، قوة الحب الممزوج بالشهوة والدمار والموت، وبواسطة تلك العناصر، استطاع تجاوز الماضي الشعري بمفاهيمه الروحية وأعرافه الاجتماعية وخياله وتقنيات قوله. هو لم يكن أكثر تمديناً أو ثقافة من مثقفي بغداد أو بيروت وسواهما، بل بمقدورنا أن نجد في مذكرات بعضهم من يسخر من تخلّفه وريفيته، ولكن جذوة تمرده وشعوره بالنبذ، أبقياه في دائرة وعي للشعر والشعرية يخصه وحده، ومن تفيأ بظلاله من الشعراء لم يمسك سوى نثار تلك الطاقة الروحية الغريبة التي حاول السياب استخدامها مثل ساحر يحول الرماد إلى تبرٍ. ففي الوقت الذي طويت صفحات بعض قصائده التي بدت وكأن شعره يسبقها ويمحيها، تستعيد القراءة المتفحصة اليوم عبرها منهاجه التأسيسي على نحو مختلف. وإذ ننظر اليوم إلىى مطولاته “المومس العمياء” و”حفّار القبور” على سبيل المثال، يتداعى إلى ذهننا ذلك التصور الذي يدرجها ضمن القراءة الاجتماعية للواقع، في حين بمقدورنا أن نجد في قراءة مختلفة لها مفاتيح نحو فهم المغزى الذي جعل مادة السياب الدرامية محوراً أساسيا من محاور سعيه نحو آفاق جديدة . لعل قابلية شعره على القراءات المتجددة هي الأهم فيه، فلا تعني الكثير ريادته في لون شعري، فقد خلفّها وراء ظهره وتقاسمها معه كثيرون. من هنا نستطيع المجازفة بالقول: إن المومس العمياء لم تكن سوى السياب وحده وأن حفّار القبور لم يكن سوى القناع الذي لعب فيه على مسرحه الشكسبيري، ولكنهما أيضا شخصيات عاشرها السياب وعرفها بالقطع، فهو أقرب إلى مزاج المتشرد والصعلوك الذي يجوب الدروب والمقابر ويعاشر البغايا، مثلما يبقى هو الرومانسي الهائم في أفياء وظلال وزروع أبي الخصيب، ومن كل هذا خلق السياب قوله، وكان في تلويناته يجمع تلك الروح المحلية الريفية إلى ذلك العنفوان المتمرد على كل الأعراف والقيم القديمة.. ” من أي غاب جاء هذا الليل؟/ من أي الكهوف/ من أي وجر للذئاب؟ / من أي عش في المقابر دفّ ؟/ أسفع كالغراب؟ / “قابيل” أخفِ دم الجريمة بالأزاهر والشفوف / وبما تشاء من العطور أو ابتسامات النساء / ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض/ بالضياء / عمياء كالخفاش في وضح النهار/ هي المدينة، / والليل زاد عماها / والعابرون: -/الأضلع المتقوسات على المخاوف/ والظنون، / والأعين التعبى تفتش عن خيال/ في سواها / وتعد آنية تَلألأ في حوانيت/ الخمور: / موتى تخاف من النشور / قالوا سنهرب ثم لاذوا بالقبور من القبور ” هل هي المومس العمياء تلك التي يحاول موازاتها بأفروديت، حلم الريفي المثقف الممسك بالأساطير كما يمسك مصباح علاء الدين. بالقطع هو يذهب عبر مشهد المومس وعالمها الحقيقي إلى ما يسع تأملات الشاعر المحموم، هذا الرجل الذي يعبر من خلال ومضة الشعر إلى مرقاة التأملات العميقة. يحاول تحطيم المخيلة المألوفة عبر القوة المتدفقة لأسئلته الغاضبة، يشحن قوله من تلك الانبثاقات التي تفجرّها الفوضى، فوضى تمرد ذاته الجزعة التي يترجم خوفها إلى غضب يهدّ المناطق المستقرة لذاكرة الشعر. ما بين الملحمة والقصة، يفكك العوالم التي تهمي في ذاكرة الحياة العراقية، يداخلها مع ثقافتة بفطنة من يعرف كيف ينتظم عبرها قوانين وعيه الخاص.. السياب أكثر من مثقف حفظ درس الأسطورة كما شاء نقاده، بل هو أراد اختراق ثقافة الأساطير والشعر الغربي، ليستعملهما ويتلاعب بهما، وليجعل من عزلته مادة للدرس الجديد، كان السياب يعيش “بما حسب الشهور وعدّ هذا البؤس” في معبده الغريق. لعله يقاوم رتابة المخيلة وإيقاع الحياة في الصراع مع عناصر الشاعرية ذاتها، فالحافظة تمسك بمكونات ثقافته كي ترتب فوضاها وتدرجها ضمن نظام الشاعر الذهني ومزاجه ووجدانه الناري. ينظر إلى الأمام، الى ما خلّفته لحظة الموت من ولادة في أعماقه، لذا كان في ثلاثينياته يختصر الأعمار الشعرية كلها، فهو مدرك بان قوة اليأس والخسران هي المحرك الأول للشاعرية حتى وهي تسترخي لتستمع إلى حلم غيابه : “ومن شباكيَ المفتوح تهمس بي وتأتيني / سماء الصيف خلّف طيفه في صحوها المطر. / ونحن نسير، والدنيا تسير وتقرع الأبواب / فتوقظ من رؤاه القلب: ذاك عدوك الزمن / تدور رحاه .. كم ستظل تخفق؟ ها هم الأصحاب / تراب تمتلئ الدروب وتشرب الدمَنُ !”.. يباغت السياب قارئه، بقانون السرد المقلوب، حين يؤخر “سماء الصيف” ويخفي صفتها التي تلحقها كي يستكمل إيقاع الكلام في استرساله، وفي تخفيفه من حمولة الربط، في شعرية تقدم لنا اللغة جميلة ومغناج ولكنها ليست مبهرجة ولا متصّنعة. هو يدرك أنّ سحر الشعر يأتي من الإحساس بالمجهول، بالغامض من الرؤى، وبالناقص في خبرة الحياة، لذا كان يتعامل مع الشعر وفق عقل المحترف اللاعب الممسك أعنته، ولعل قلة درايته بالحياة، وتعثره في معابرها، يعود إلى كونه يسكن في المنطقة التي تبقيه على مقربة من وعي عصري بحرية المخيلة وهروبها من الواقع، بل بتوترها ونفورها من صلابته. قصصه التي يقارب فيها العوالم المحلية، تنعكس على مرآة وجدانه، فتأتيه مادة تشكيلية يلونها بأطيافه. قبل سنة واحدة من وفاته كتب “شناشيل ابنة الجلبي”، تلك القصيدة التي تضمر موسيقى مرحة متنقلة شفافة. كتبها وهو على فراش المرض، ولكنه عبَرَ فيها السواقي وصاحب كركرات الأطفال، وصنع إيقاعات غنائية يندر أن نجدها في القصيدة الحديثة. ” ثلاثون انقضت، وكبرتُ : كم حبّ وكم وجد / توهج في فؤادي / غير أني كلّما صفقت يدا الرّعد / مددت الطرف أرقبُ: ربما أئتلقَ الشناشيل / فأبصرت أبنة الچلبي مقبلة إلى وعدي” من هي أبنة الچلبي، ومن هي آسيا “وآسية الجميلة كحّل الأحداق منها الوجد والسهر” ؟ سألت غيلان ابن الشاعر المقيم الآن في أمريكا، عنها وعن آسيا، فأخبرني أنها عمة بدر التي كانت بعمره والتي رعته إلى آخر لحظاته. بقيت آسيا دون زواج بعد موت السياب، لتربي أطفاله مع أمهم. كل شخصيات السياب وأماكنه وأزمنته حقيقية، فما كان يقوى على مغادرة الواقع الاّ ليعبر به إلى حدائق الشعر المسحورة. حياة بدر يدخلها إلى الشعر، لتخرج منه مثل حديقة لا يراها بعينيه، بل تعكسها مرآة المخيلة وتعيد تشكيلها بالرؤى، فهو ما شط به الخيال إلى اصطناع لحظة، وما حالت بينه وبين الواقع لغة غامضة أو صورة عقلية، فقد كان يتدفق شعراً ويسترسل بطلاقة ليعدّل ما فات قارئه من معنى أو ضعفت لديه لحظة الربط. كان مراده ان يبني تناسق القول في الترتيب والإيقاع ، في حفظ نغم القصيدة والاحتفاظ بجزء أساسي من نظامها، مثلما كانت تفلت منه تلك التمردات التي تجعل صوته يبلغ مديات غير محدودة، مثل حجارة يجرفها سيل هادر. هل كل ما جاء به السياب يصلح للشعر، وهل كان شاعراً مكتملاً ؟. بلا شك هناك الكثير من الحشو والعواطف والبكائيات التي تحول بين الكثير من قصائده وبين أن تصل إلى مديات الصقل، ولكن عمره لم يكن يسمح بذلك، فقد غادر ولم يبلغ الأربعين، فكان كمن يستعجل الزمن كي يقول بعض ما يسمح به وقت شاعر بقي يعبر الأزمنة ويقيم فيها.