شهادة : القصة القصيرة ..مهارة المعمار واحساس (الكمنجاتي )

شارك مع أصدقائك

Loading

عبدالستار البيضاني


بقدرما تبدو (القصة القصيرة )، انها مساحة خصبة للتجريب، ذات استجابة مغرية للاجتهاد في البناء وطريقة السرد واختيار الشكل الفني لها ، أكثر من بقية الأجناس السردية الأخرى ، فانها عصية على الدخول اليها ، وتنطوي على صعوبة بالغة للاستدلال على عتبات ابوابها التي لاتسمح بالدخول إلا لمن امتلك اسرار الهندسة المعمارية ، ورهافة احساس المطرب الفطري، أو العازف الموسيقي ، وان التحرك فوق مساحتها يحتاج الى حساسية عالية الدقة تشبه حساسية ورق التصوير تجاه الضوء، فهي – أي القصة القصيرة أشبه بمقطع من صورة فوتوغرافية يعمل القاص على تكبيره، وجعله بقدر مساحة الصورة الأصلية التي أُقتطع منها من دون ان يفقد وضوحه وحدوده مهما كبّرته .
هذا برأينا المتواضع ؛ رأي أولي للفرق بين السرد في القصة القصيرة، والسرد في الرواية – ربما يفيدنا في تفسير ظاهرة انتشار كتابة الرواية في العقدين الأخيرين على حساب القصة القصيرة ، فالتصوير القصصي يُظهر قدرات الكاتب ( المصور ) أكثر مما يظهرها التصوير الروائي من ناحية الألتقاط والتصوير، لأنه محكوم بمحدودية المساحة التي لاتتيح التفصيل ـ لذلك يحتاج الى التلميح أكثر من التصريح ، في المفردة والجملة والصورة مع الدقة والوضوح ( Resolution ) الذي يجب توفره في المساحة الصغيرة المقتطعة من صورة كبيرة. ، بمعنى هناك مهارات خاصة تتعلق بحساسية التعامل مع صور الحياة اليومية، والمشاعر، والاحاسيس، وتكثيفها بشكل فني من دون ان تفقد تفاصيلها الداخلية والخارجية، يحتاج القاص الى فاعليتها أكثر من حاجة الروائي اليها، لأن الاختزال والتكثيف مع قدرة تفجيرة الجملة القصصية، هو روح النص القصص ، الذي يعطيك النتائج نفسها التي ممكن ان تستحصلها من النص الروائي المتمتع بحرية اشباع المشهد بالتفاصيل وكمية الاحاسيس، ولكن هل هذا حكرا على القاص دون الروائي ؟.. نقول لا ، غير أنه لدى القاص يكون سمة واجبة ، وعند الروائي خيار يعبر من خلاله عن مهاراته الفنية .
قد نختلف في هذه التوصيفات ،لكن السؤال الأهم ؛ هل يمكن تعلم هذه المهارات، بالتدريب والاطلاع والتثقيف والمتابعة النقدية بمجرد توفر الرغبة بالكتابة ووجود المادة الخام والثيمات لدى الكاتب؟… نعترف أنه من الصعب حسم إجابة هذا السؤال، لكنه لايمنعنا من القول ان كل هذه الاشياء – اقصد التدريب ، والاطلاع ، والتثقيف … الخ ، قد تصقل المهارات، لكنها لاتصنعها لدى من يريد ان يصبح كاتب قصة، فهي فعالة ومؤثرة فقط عند تمتع الكاتب ب(السليقة)، على النحو نفسه الذي كانت تفعله سليقة الشاعر القديم بجعله يكتب قصائده بضبط تام للتفعيلات والأوزان قبل ان يدونها الفراهيدي، أو اذا شئت سمها موهبة ، أجد اقرب مثال لها هو المطرب الريفي الفطري الذي يغني (طور المحمداوي) باتقان تام بالمزج بين مقامي ( العجم) و (الصبا ) ، وهو لايعرف شيئا عن المقامات أو عن ( العجم) و (الصبا ) أو حتى لم يسمع بهما من قبل ، لكن اغنياته تُعتمد كنماذج تطبيقية لدارسي االموسيقى والاكاديمين الذين يعرفون كل شيء عن المقامات، والصوت، وفسلجة الحنجرة ، لكنهم لا يصلوا الى مهارة المطرب الريفي في الغناء، فقد يجدون صعوبة في المزج بين هذين المقامين برغم معرفتهم بهما، على عكس المطرب الذي يمزجهما ويغني بالسليقة بانضباط تام !. وهذا يفسر لنا ان اغلب كتاب القصة القصيرة بدأوا بدايات قوية لفتت الانتباه اليهم، أكثر من أعمالهم اللاحقة، حتى وان كانت لا تقل اهمية وقوة عن اعمالهم الاولى ، لذلك اعد كتابة القصة مثل الغناء الفطري ، لأنها تحتاج الى (السليقة ) التي ستكون المرتكز للوعي الفني ببناء الاشكال وتميزها والبحث عن المغايرة الشكلية والفكرية.
هذه الملاحظة التي سجلتها على نفسي ، جعلتني اتذكر في صباي عندما كنت أحضر حفلات الاعراس، احاول الأقتراب من عازف الكمان، وأراقب حركة انامله، ولمساتها السريعة على الاوتار الممتدة على عنق آلته كي أفسر، أو أعرف كيف لهذه الحركة البسيط ، والسهلة والناعمة تثير فينا الحزن، والوجد عندما تخرج من جسم الكمان ، وفي الوقت نفسه تستطيع ان تجعل اجسادنا تهتز طربا وفرحا، لذلك كنت اكثر شيء أراقبه في بداية حياتي الأدبية عندما التقي القصاصيين المعروفين هي أصابعهم !، اتخيلها مثل أصابع (الكمنجاتي ) وهي تمسك القلم وتتحرك على الورقة لتنتج لنا معزوفات سردية تدخل أحاسيسنا مثلما تدخلها الأغاني والمعزوفات الموسيقية ، فالقاص عندي ( كمنجاتي ) ماهر ، يستدل على أوتار آلته بالسليقة فيضغطها مع (شخطة ) قوس العزف من دون ان يراها بعينيه ، ولك ان تسميها مهارة، أو غريزة ، او سليقة ، المهم انه يشنف اسماعك بعزف صحيح ومرهف، من دون أن يخرج عن محددات المقام الذي يعزف فيه ، فهذه قواعد للعزف والغناء تنشا معه ، فما هي أذن القواعد التي يعزف عليها أو في ضوئها القاص معزوفاته السردية؟.
هذا هو السؤال الذي بحثت فيه بعد سنوات قليلة من دخولي الوسط الأدبي ، وربما منذ ان حسبني النقاد ومسؤولي النشر على جوقة ( كمنجاتية ) القصة القصيرة ، وكان السؤال بصورته الأوضح هو : لماذا هناك قاص مهم وقاص اقل أهمية ؟، أو لماذ هذا النص القصصي اخذ حيزا من الشهرة ولم ياخذه غيره؟. أخترت خمسة اعمال قصصية لكتاب عالميين ومحليين ، اتفق النقاد على اهميتها ، وهي كذلك بالنسبة لي ، درستها بامعان للبحث عن مواضع أو اسباب اهميتها ، من دون ان استعين برأي ناقد، او دارس ، فوجدت ان الجامع بين هذه الأعمال المهمة هو توفر (الحكاية ) ، أو(الحكي )، الحكاية الساحرة التي لم تفقد صلتها مع منبعها الأصلي ( الحكاية الشفاهية )، من تشويق ، ونسج عناصر البناء، ولغة سهلة ، فهي بالنسبة للقاص مثل المقامات للكمنجاتي !،وقد كتبتُ انموذجا تطبيقيا لهذا الفهم المستخلص من تجربتي هو قصة (التاريخ الذهبي ) التي نشرتها مجلة (الأقلام)، يوم كان النشر في هذه المجلة مثل الحلم بالنسبة لنا نحن الشباب ، لكنها لم تحض باهتمام اغلب زملائي الشباب الذين عدوا هذا الاسلوب عودة الى القصة الخمسينية، وكان اغلبهم واقع تحت بريق التجريب الستيني، أو محاولة الخروج منه بتجريب اشكال جديدة تتكأ على اللعب في اللغة وتحطيم الحكاية ( الحدوتة)، التي كنت اعتقد انها مثل عنق آله الكمان الذي ينبغي ان تتحرك عليها اصابع ولمسات العازف بالاعتماد على المقامات ـ فلا عزف من دون معرفة المقامات سواء بالسليقة أو بالتعليم ،ولا قصة بدون حكاية.
ومثلما يتنوع العزف، وتتنافس الالحان بالجديد والمغاير لكن المقامات ثابتة ، أرى أن الاشكال القصصية واساليب الكتابة متنوعة وهي مجال المغايرة والابداع ، لكنها تستند الى الحكاية وروح الحكواتي ، فالحكاية ثابتة ، حتى وان وجد البعض تبريرات لتحطيمها تارة بتوظيف الفنون الأخرى ؛ السيناريو ، السينما ، الفن التشكيلي والتحقيق الصحفي .. وتارة اخرى برغبة التمرد والخروج على المالوف ، لتحقيق حضور ابداعي ، على اعتبار ان الابداع في واحد من تعريفاته؛ هو الخروج على السائد .

شارك مع أصدقائك