حوار مع الأديبة دينا سليم حنحن..حاورتها: رانية مرجية

شارك مع أصدقائك

Loading

حوار مع الأديبة دينا سليم حنحن

حول مؤلفها ” ما دوّنه الغبار”

حاورتها: رانية مرجية

 حيفا

 

 

  مهاد

في عوالم السرد التي تتشابك فيها الحقيقة مع الذاكرة، وتتمازج فيها الحكاية مع الشهادة، تبرز الكاتبة الفلسطينية الأسترالية دينا سليم حنحن كصوت أدبي يملك القدرة على الغوص في طبقات التاريخ الإنساني والوطني، لتلتقط من بين غباره أنفاس الأجداد ووجع المهجرين. في أعمالها، لا تكتفي بتدوين الحوادث كما رُويت، بل تعيد إحياءها بنبض من عاشوا الألم وعاينوا الفقد، لتصوغ نصوصًا تتجاوز حدود الورق إلى مساحات الوجدان الجمعي.

بأسلوب يجمع بين الصرامة التوثيقية والدفء الإبداعي، استطاعت دينا أن تمنح القارئ فرصة نادرة لملامسة الحقائق بعيدًا عن التزييف أو الانفعال، لتكتب التاريخ من الداخل، بعينٍ يقظة وذاكرة حية. وفي كتابها “ما دوّنه الغبار”، تنقّب في الحكايات التي أوصتها بها جدتها، وتواجه عبء الأمانة الأدبية والتاريخية بشجاعة وإصرار، مستندةً إلى شهادات حيّة ورحلات بحث عبر القارات، لتقدّم وثيقة أدبية إنسانية بامتياز.

في هذا الحوار، نقترب أكثر من الكاتبة، نكتشف ملامح رحلتها بين السرد والتوثيق، ونسبر دوافعها وقلقها الإبداعي، لنعرف كيف استطاعت أن تحوّل وصايا الأمس إلى نصوص تحفظ الذاكرة وتصون الحكاية.

  1. في كتابك، بدا واضحًا ميلك للتوثيق الدقيق للأحداث والشخصيات. ما الذي يدفعكِ نحو هذا النمط، وهل هو خيار فني أم ضرورة سردية؟

صراحة، وبكل أريحية أقول، أن هذا الكتاب كان بمثابة طوق حول رقبتي، إلا عندما حققتُ أمنية جدتي ” جميلة ” التي أودعت بين يدي تفاصيل لم أعشها، وطلبت مني أن أكتب الأحداث الحقيقية كما عاشتها هي، وحتى أنها طلبت أن أكتب عن أهل الحارة التي عاصروا الظروف ذاتها، أظن أنني ضمنت بعض الحكايا في هذا العمل.

بدأت الكتابة من صغري، وجدت جدتي انني الشخص المناسب لذلك، قصّت على مسامعي سير الأحداث التي لا تنسى، نشوب الحرب، وفقدانها لزوجها الذي لم نعرف عنه أي ش064A حتى اليوم، غربتها المضاعفة، أصلها من السلط، والشوط الطويل الذي سارته مع أربع بنات يتامى، الخ من أحداث حزينة، طلبت مني أن أكتب قصة حياتها بكل اصرار ” اكتبي يا ستي، اكتبي” وعندما بدأت الكتابة، وذلك قبل أكثر من عشرين سنة، تاهت مني البوصلة، دينا سليم الطفلة كبرت وصار لديها سيرة ذاتية ثرية، وبدأت أكتب لصالح كتابة نصوص جديدة كنت أعيش أحداثها، ربما هو الهروب من تحقيق أمنيتها صعبة، ” ما دوّنه الغبار” تحقيق أمنية.

فعلتها بعد قراءة توثيقات بلغات ثلاث حتى أوصل الحقيقة للقاريء، لم أعتمد عما قيل وقال فقط، أبدا، لكن والدتي، رحمها الله ساهمت كثيرا في ترتيب الأحداث. بحثتُ عن أشخاص عاشوا الفترة ذاتها، التوثيق حالة بعيدة عن الكتابة العاطفية، فكان العمل أشبه بمعركة خضتها استمرت عشر سنوات، قسّمت الكتاب إلى ثلاثة أقسام، قسم سردتُ فيه ما عاشه جدي وجدتي من ناحية الأم، وقسم ما عاشه جدي وأسرته من ناحية الأب، وقسم ما قاله الشاهدون على الأحداث، ولهذا القسم قصص أخرى، وشرح طويل، كيف، وأين وجدت الأشخاص.

 

  1. عندما تعيدين استحضار لحظات تاريخية أليمة، كيف توازنين بين الأمانة للحدث والجانب الإبداعي في السرد؟

هذه هي خاصية يتمتع بها الكاتب المتمرس، هناك صعوبة في الفصل بين الحقيقة والإشاعة، للأمانة، الكتابة بحرية هي من صفاتي، إما التعبير الحر أو اعتزال القلم، لم أفكر بما سيحدث فيما بعد من تباعيات، لكني اتبعت اسلوب الحياد في بعض المواضيع، ونوّهتُ بذلك في الصفحة الأولى، ليس خوفا، بل حتى ل أظلم أي طرف من أطراف الحكايات، و دوّنت على رأس كل قسم، ” كتبت هذا القسم حسب ما قيل لي ” أو ” عشتُ هذا القسم من الأحداث” أو  ” ما حصل قبل الحرب” أو ” أحداث حصلت في الحرب” أو ” أحداث عشتها”.

 

  1. في أسلوبكِ، نلمح تداخلًا بين السرد الروائي والشهادة الحية. كيف تتعاملين مع هذا المزج دون أن يطغى أحدهما على الآخر؟
  • صحيح، هذا ما تميّزتُ به، وهذا ما قال عنه الكثير من النقاد الذين تناولوا الكتاب، أملك هذه القدرة، خاصية مميزة، الحمد لله، استطعتُ.
  1. ما هي الصعوبات التي صادفتكِ أثناء الكتابة؟
  • صعوبات كبيرة، أولا عدم التماهي مع الحدث، وفصل ذاتي كليا، وإلا لأصبحت كاتبة عدوة لفئات كثيرة مما ذكرتهم في الكتاب، ثانيا في الحصول على الشهادات الحية، سافرت إلى فلسطين والأردن وأمريكا وباقي الولايات الأسترالية حتى ألتقي بالمعمرين الذين عاصروا الحرب، أما المكالمات التي كانت تصلني عبر الهاتف، قمتُ بتسجيلها حتى لا يفوتني أي تفصيل، استمرت المكالمة أحيانا أربع ساعات وأكثر، أعدتُ صياغتها كتابيا مع الالتزام بكل ما قيل، عمل صعب جدا، لكنني من طبعي صبورة جدا ومثابرة وأردتُ وصول الهدف والتخلص من هذا العبء الذي فرض علي.

كانت النية هي أن أكتب قصة جدتي ” جميلة” وجدي “رشدي”، لكنني لم أستطع تخطي الأحداث التاريخية التي حصلت سنة 1948، وأيضا لم أستطع تخطي ما حدث لجدي من ناحية الأب ” داود” فله حكايات يجب أن تدوّن أيضا، هكذا بدأ العمل يتسع، مهنيتي كاتبة حتّمت علي ألا أكتفي بقصة وتجاهل الأحداث، لم أستطع!

 

  1. إلى أي مدى تؤثر خلفيتكِ الثقافية والانتماء المكاني في اختيارك للمواضيع التي تتناولينها؟
  • كل ما كتبته مررتُ به، أو بعض المواقف، قمت بتوسيعها، أملك هذه الخاصية، لا أعلم إن كانت خاصية إيجابية أم سلبية، وهي، إن لم أعش الحدث لا يأتيني وحي الكتابة، في ” ما دوّنه الغبار” لم يحصل واعتمرتُ قبعة ” هاري بوتر”، حتى انني في فترة الكتابة ابتعدتُ عن قراءة الكتب الخيالية حتى لا تغيب الحقيقة المرة من خيالي، عشت الوقائع بكل حذافيرها. لكنني أتمتع بخيال خصب في الكتابة خاصة في القصص القصيرة.
  1. ما هو أصعب مشهد أو لحظة مررتِ بها أثناء كتابة هذا العمل، ولماذا؟
  • أصعب فصل هو عندما بدأت في تدوين وفاة ” جميلة ” أولا، تهربت من تكملته، وكأنني بذلك أنكر انها غادرتنا، ثانيا، استصعبتُ وصف حالة سقوطها، كأنني بذلك أردتُ أن تكون النهاية مختلفة، فهي لا تستحق تلك الميتة، قدرها، بكيت عندما أنهيت الفصل بعد أسبوعين، لكل حكاية هناك نهاية.

 

  1. لمستُ إحساسًا عميقًا، الفقد والحنين. هل هو انعكاس لوجع شخصي أم لوجع جماعي تلتقطين من محيطك؟
  • هو وجع شخصي فعلا، ألم وانتظار وأمل لازمنا جميعا طوال سنوات عديدة، أقصد أنا وبناتها، وهن خالاتي، عاشوا الأمل في عودة والدهم، ولم يعد، عاشوا الفقدان وحرمان الأبوة، عاشوا المتغيرات السريعة التي حصلت في الدولة الجديدة، تعايشوا مع الوضع، لكن رغم نجاحهم في الحياة بقيت تلك الغصة في قلوبهن، كنت المراقب المتأمل، المراقب الصامت والمتعايش بين كنف من منحني الحب والرعاية في طفولتي، جدتي وخالاتي أهم الأشخاص الذين منحوني الحب.

 

  1. كيف تقيسين أثر نصوصكِ على القارئ، خاصة إذا كان من الجيل الذي عاش الأحداث التي توثقينها؟
  • عندما التقيتُ مع الشواهد على الحدث، حثوني على الكتابة، أوصوني أن أستمر في كتابة التفاصيل دون حذف أي كلمة كان، التقيتُ بهؤلاء المعمرين في أمريكا، فتحوا لي بيوتهم، استقبلوني بترحاب كبير، وقصوا علي الحكاية التي لم يتجرأ أي كاتب أن يكتبها، طعنوا بما كتب سابقا، قال لي أحدهم ” كل إلي نكتب فيه تشويه لأن الكتّاب كانوا قد تركوا اللد وخرجوا إلى البلاد العربية، لكنك بقيتِ أنتِ هناك، أنتِ من هناك وعشتِ مع كل من بقي هناك، اكتبي ولا تخافي”.

 

  1. هل تؤمنين بأن على الكاتب أن يلتزم الحياد في كتاباته التاريخية، أم أن الانحياز للحق والذاكرة واجب أدبي وأخلاقي؟
  • الكاتب، خاصة كاتب الرواية عليه أن يلزم الحياد في هيك مواقف، ويترك أمور التوثيق للمؤرخين والمختصين، اللهم، إن استطاع كشف الحقيقة بأسلوب مرن وبدون تحريض، أو بأسلوب ” هاي أذني” وهذا حقا ما فعلته، لكنني وحتى أحمي الكتاب من منع انتشاره، حافظت على الحياد، ” ما دوّنه الغبار” تأرخة ومصدر هام لكل من أراد البحث عن الحقيقة، علنا نتعلم من أخطاء التاريخ!.

 

  1. لو أتيح لكِ إعادة كتابة أحد نصوصكِ برؤية اليوم، ما العمل الذي تختارينه، وما الذي سوف تغيّرين فيه؟
  • لا أستطيع إعادة كتابة أي نص، حاولت وأخفقت، فما يخرج بداية هو الأجمل، اللهم حاولتُ إعادة تشكيل رواية “سادينا” لكنني لم أستمر في العمل، لأنني أحسستُ أنها بدأت تفقد أجمل ما فيها، وفي ” الحلم المزدوج” كان لي طموح بالأفضل، كتبت النهاية بطعم السعادة، رغم أن الحدث الحقيقي لم يكن سوى خرابا على أهله، أفضّل كتابة نص جديد.

 

  1. ما الرسالة التي ترغبين أن تبقى في ذهن القارئ بعد الانتهاء من قراءة عملكِ ” ما دوّنه الغبار”؟
  • نستطيع أن نتعايش مع المتغيرات التاريخية، إن أردنا أن نحيا بسلام، علينا أن نتعلم من أخطاء الماضي، واستخلاص العبر من الذين سبقونا، ألا نعتلي أشباح العنصرية، ألا نمضي الحياة خلف مسميات دينية أو طائفية أو مذهبية، ألا نحمّل أبنائنا وأحفادنا الصدمة واحباطات تؤدي إلى توارثها، هناك من يعيش حتى الآن ما بعد الصدمة ويرثها لأبنائه وسلالته بدراية أو بدون دراية، أن نصبو إلى حياة أفضل من أجل أجيال قادمة لا ذنب لها تريد أن تحيا حياة كريمة.

 

شارك مع أصدقائك