لطفية الدليمي
الذي أنسانا الكياسة لطفية الدليمي سأحكي لكم أولاً هذه الحكاية القصيرة. نشرت الصديقة المبدعة التونسية (هند الزيادي) منشوراً فيسبوكياً تناولت فيه ظاهرة عربية تعمل على تقزيم النتاج الروائي العربي وتسخيفه ووصفه بأوصاف بشعة (سأتحرّز من ذكرها هنا). يحصل هذا الأمر عقب كلّ إعلان لجائزة نوبل الادبية حتى بات تقليداً عربياً مشوباً بالسفاهة والتنمّر والإفتقاد إلى أدنى إعتبارات الكياسة. جاءت الزيادي على ذكر إسمي مع اسماء مجموعة من المبدعين العرب ككاتبة عربية تتمنّى (الزيادي) حصولها على نوبل. كتبتُ الى صديقتي ممتنّة وشاكرة تمنّياتها الطيّبة لي، وقلتُ أنّ الساحة الأدبية العربية فيها فرسان (وفارسات كذلك) كثرٌ يستحقّون نوبل الأدب. بعد بضعة أيام راسلتني الزيادي مستفهمة عن معلّق عراقي كتب تعليقاً يفيضُ حقداً وغلِاً بالضدّ منّي، و تساءلت الزيادي عن السبب الذي يجعل عراقياً يتفوّه بمثل هذا الكلام الذي يخرج عن سياق الرأي المحترم والهادئ ليتموضع في خانة إفراغ النفس من بعض حقدها ومأزوميتها وكأنّ كاتب التعليق كان ينتظر مثل هذا المنشور حتى يفرّغ ما في روحه المأزومة من رغبة في التنكيل من غير تسبيب مفهوم ومقبول. عندما حاولتُ مراجعة تعليق هذا (العراقي) في منشور صديقتي الزيادي لم أعثر عليه، ويبدو أنّ كاتبه حذفه. الغريب أنّ كلّ المعلّقين العرب كتبوا تعليقات لطيفة مهذّبة تمازجت فيها الأفكار الرصينة مع الكياسة المطلوبة حتى عندما رشّحوا أسماء أخرى من الأدباء العرب. بعضهم كتب تعليقات قاسية بشأن الرواية العربية؛ لكنّها ظلّت في إطار الآراء المحترمة القابلة للمساءلة والمناقشة المستفيضة. سأخاطبُ هذا (العراقي) المأزوم الذي لا أعرفه بهدوء بعيداً عن الحِجاج والمرافعات الدفاعية عن النفس أو الأدب العربي. سأخاطبه على طريقة (ماذا لو …..؟) التخييلية التي باتت جنساً روائياً راسخاً. ماذا تتصوّر؟ هل تحسبُني أعيشُ حياتي وأنا أدورُ في فلك (نوبل) كما العبيد حول طوطم القبيلة؟. لا بأس . هدّئ هواجسك وتخيّلْ (تخيّلْ فقط رغم قسوة الأمر عليك) أنّني فزتُ بنوبل المشتهاة. تخيّلْ أنّني تلقّيتُ مكالمة سكرتير لجنة نوبل وهو يخبرُني بفوزي بالجائزة قبل إعلانها بقليل. هل تتوقّعُ أنّني سأتمايلُ طرباً مثلما فعلت الروائية توني موريسون؟ ربما لن يكون الأمر أكثر من لحظة بهجة عابرة ستغمرُ أبنائي وأحفادي ومُحبّيّ ثمّ ينتهي الأمر. أؤكّدُ لك أنني لو كنتُ نائمة وتلقّيتُ هاتف نوبل سأغلق هاتفي ثمّ أعود للنوم. هذا كل شيء. أهي دولارات المليون النوبلي التي يتقاتل من أجلها المتقاتلون؟ ربما. لكني سأكون واضحة وحاسمة. لم تعدْ أموال العالم تعنيني بشيء في عمري هذا . ماذا سأفعلُ بالمليون النوبلي ؟ لن تكون أكثر من رقم مركون في حساب بنكي. سأتبرّعُ بنصفها على الأقلّ لدار أيتام أو ملاذ لكبار السن. أما النصف الآخر فسأمنحه لأولادي وأحفادي. لن أستبقي شيئاً لي. هذا ليس إعلاناً مجانياً بل هو قناعة اكيدة. ما أقوله أنفّذه من غير تردد. ربما لو حصلتُ على الجائزة قبل بضع سنوات كنتُ سأشتري بالبعض القليل من مبلغ الجائزة شقّة لكي أرفع عن نفسي مذّلة السكن في شقة مستأجرة. تخيّلوا بعد كلّ هذه السنوات من العمر والعمل تركتُ منزلي الجميل في بغداد- والذي سرق الاوغاد كل محتوياته – لكي أعيش في شقة مستأجرة في عمّان، وكان يتطلّبُ الأمر منّي تدبير إيجارها الشهري. الكتابة لم تكن شغفاً فحسب. كانت وسيلتي للعيش. إطمئن أيها (العراقي) الحاقد المتخفّي وراء قناع رقمي. لن أبتاع سيارة مارسيدس (مايباخ) أو رولز رويس؛ فلستُ من هواة السيارات التي لا أحب قيادتها ، ولن آكل غير الطعام العراقي البسيط الذي أحب، ولن أتخفّف من عبء الكتابة لأنّها شغف حياتي قبل كل شيء. أقولها بقناعة مطلقة وليس رغبة في الزهد والتعفف: لن تضيف لي نوبل الأدب شيئاً. لم أعد أطيق أعباء السفر ولطالما كنت اعتذر منذ سنوات عن حضور الملتقيات والندوات، ولستُ من هواة تلبية الدعوات والحوارات التلفازية. هل ستجعل نوبل أعمالي تُترجَمُ وتُقرأُ بلغات متعدّدة في كلّ العالم؟ هذا أمر طيب ومشروع لو حصل، ولو لم يحصل فلن تختلّ موازينُ حياتي. أفضّلُ أن يقرأني كثرةٌ من القراء العرب المحبين لأعمالي قبل قلّة من الصينيين أو الكوريين أو البريطانيين أو الفرنسيين أو الألمان. أشياء قليلة وصغيرة تهمّني اليوم في هذه الحياة: أن أنام نوماً عميقاً فالنوم الجيّد مفتاحُ كلّ يوم ممتلئ بالسعادة والنشاط، وأن أتناول فطوراً بسيطاً على أنغام موسيقى أعرف أنّها تفتح بوّابات العقل والروح، وأن أعتني بزهوري الجميلة في شقتي الصغيرة، وأن أطمئنّ على سلامة من أحبّ، وأن أقرأ وأكتب في سياق ترتيبات محدّدة وضعتها لنفسي. باختصار: يومٌ يخلو من الألم الجسدي والروحي، وطافح بالرغبة في مواصلة الحياة والكتابة هو كلّ ما أبتغيه في حياتي. سأكلّمك الآن من بوّابة الإعتبارات العملية. كن شجاعاً واعمل مقارنة. منذ قرابة الخمس عشرة سنة وأنا أكتبُ مقالة أسبوعية، وقبلها كنتُ أكتبُ مقالات متناثرة في الصحف العراقية والعربية. كل مقالة فيها فكرة شاخصة. هذا إلى جانب كتابة رواية كلّ خمس أو أربع سنوات، فضلاً عن الإشتغالات الأخرى في الترجمة والتأليف في الشأن الفكري والادبي على مدى خمسين عاماً. فلنعملْ قائمة بالفائزين النوبليين في الخمس عشرة سنة الأخيرة: ماذا كتبوا غير الرواية؟ أما طبيعة ما يكتبون فتلك حكاية إشكالية أخرى هي موضعُ مساءلة في الدوائر النقدية الغربية قبل غيرها. شخصيا أقرأ منشورات الصحافة الادبية الغربية وأعرفُ تماماً ما أقول. جرّبَتْ الروائية الايطالية (إيلينا فيرانتي) كتابة مقالة أسبوعية لا تتعدّى بالكاد 300 كلمة في الغارديان البريطانية ثمّ أحجمت عن الكتابة عقب سنة واحدة حسب. حسبت الأمور بمنطق الجهد مقابل الربح وعرفت أنّ المقالة الاسبوعية تعبٌ لا يستحقُّ المتحصّل من ورائه. اكتفت بكتابة رواية كل بضع سنوات وحسب. هناك العديد من الكاتبات والكتّاب في العالم العربي ممّن يبذلون جهوداً أكبر من حاملي نوبل في السنوات الأخيرة على الأقلّ. لن أذكر أسماء مشخّصة لأنّها معروفة، وبينهم عراقيون بالتأكيد. نحن في العراق اصبحنا نتكاره ونعظّمُ موارد الخصومة والغلّ والقسوة بدلاً من تغليب المروءة والإنصاف. هذا هو الجانب الأخطر في الحكاية كلها. ربما ستنشأ الأجيال الجديدة وهي تعتبر هذا التكاره والحقد حقيقة مؤصّلة واقعة وأبدية، وما كان الأمر هكذا أبداً. بالنسبة لي ولمُجايليّ يمثلُ الأمر جرحاً عميقاً في القلب لا يمكن إصلاحُ عطبه الغائر. الحديث الفلكلوري عن الأخوة في الوطن محضُ كلام منمّق لا يكاد يخرجُ عن فم قائله حتى يضيع بدداً في الهواء. اللسان لا ينطق إلّا بما يفيضُ به القلب من خزين معتّق أو مستحدث من الرأي أو القناعات التي تقيّحت وصارت تتناسلُ حتى لكانّها ستصبحُ علامة جينية يتناقلها العراقيون. لم أعرف يوماً عراقيين يفيضون بهذا المنسوب من الإفتقاد إلى المروءة والنزاهة والكياسة. لم أحبّ المبدأ التنافسي يوماً في حياتي. أرى في الكتابة الجيّدة قدرة على مكافأة صاحبها ذاتياً بإنعاش روحه وعقله وحياته. لا أعرفُ هل أنّ هذا العراقي المتخفّي كاتب؟ وهل يتشمّمُ رائحة نوبل كل صباح ومساء ولا ينامُ إلّا على طيف حلمها يطوفُ في خيالاته؟ تأكّدْ أنّك لو كنتَ كاتباً وحصلتَ على نوبل سأصفّقُ لك طويلاً، وسأكتبُ تقريضاً مسهباً في مديح أعمالك كيفما كانت، وسأعلنُ هذا بإسمي الصريح في الصحافة وعلى صفحتي الفيسبوكية كذلك. سأعلنُ هذا ولن أحذفه بعد بضع ساعات وأعود إلى التخفّي وراء قناع في الغابة الفيسبوكية كما فعلتَ. لا بأس في خصومة أو تقاطع أفكار أو رأي مع من تشاء. تكلّم بكياسة واحترام ومروءة . تلك كلّ المسألة.