يَحيَى غَازِي الأَمِيرِي
مَعَ خيوطِ الفجرِ انطلقتْ بنا سيارة الجيب السوداء الحديثة ذات السبعة مقاعد، بَعد تجهيزها بمعدات واحتياجات السفر، السيارة تَسير عَلَى الطريق الأسفلتي الحديث (ذي الاتجاهين) بمعدل يتراوح بين (80 إلى 120) كم في الساعة، جلست ُ بالمقعد الأمامي بجوارِ السائق، هذا هو اليوم الأول من عملي كرئيس للجنة (تدوين المعلومات بشكل حيادي للأماكن المهمة لجبهات القتال والمعارك لأيام زمان؛ خوفاً عليها من الاندثار والتشويه والنسيان).
قبلت العمل بهذه الوظيفة، بل المهمة والتي استقبلتها بفرح كبير؛ فلكم وددتُ وتمنيت أن أوثق شيئاً عن تلك الأماكن ووصفها وتسجيل أسماء من معي في حينها لكن الخوف من التدوين والتصوير قد منعاني من ذلك؛ فآنذاك، فمثل هكذا تصرف ممنوع منعاً باتاً في تلك الفترة، ومن يقدم على هكذا عمل يعرض نفسه لعقوبة الموت المؤكد.
يعمل مَعي في اللجنةِ موظفان، أحدهما كان ضابطاً بالجيش برتبة (رائد) متقاعداً حالياً، وسبب أحالته على التقاعد اصابته بإحدى المعارك العسكرية منذ سنوات عديدة خلت، بانفجار لغم، مما أدى الى إصابة بليغة في ساقه اليمين، والآخر رجل في الخمسين من عمره، ذكي كثير النشاط، يعمل بجد بمجال تخصصه البيئي، ويحمل مؤهل تخصصي جامعي بذلك، كان يجلسان بالمقعد الذي خلفي، فيما جلس معنا بالسيارة بهذه المهمة (شخصان) آخران من الحرس الخاص مدججان بالسلاح، وشخص ثالث (مصور فوتوغرافي) يحمل آلة التصوير معه؛ للتوثيق.
أنتهى الطريق الاسفلتي، وبدأت السيارة تسير وسط طريق ترابي صحراوي، أخبرنا السائق أنه يعرف الطريق جيداً، والطريق مؤمن ومكشوف من الألغام، فلا داعي للقلق، كان يتحدث بثقة تامة، وكأنه يسير على طريقٍ مألوفٍ له، السيارة تشق الطريق الصحراوي، والأفق يمتد إلى ما لا نهاية؛ فلا شيء غير السراب أمامنا يتلألأ على حبات الرمل.
رأسي يدور في دوامة فلك عصف الذكريات، لم تزل النُّفُوس محطمة تئن، من هول وجع وألم سنين العبودية المفرطة بقسوتها، فقد أصابها بمقتل اليأس والإحباط؛ فأضحت مأزومة مهزومة خاوية، كخرائب الحروب المهجورة، يستوطنها الحزن والدمار، وأثار حقول الألغام، جهد ما تبقى من عمل مضنٍ لمصابيح الأرض الحرام، وذكريات حياة الضيم والصبر، والخوف، والموت، والظلام، والجوع.
بعد أكثر من ساعتين من السير المتواصل ونحن في هذا الطريق، بدأت تنكشف أمامنا على مرمى البصر (سواتر ترابية وبقايا مواضع وأطلال أبنية نصفها في باطن الأرض ومعدات عسكرية متروكة، وأبعد منها أماكن تحيط بها بقايا أسلاك شائكة) نظرت بالخريطة التي بيدي، طلبت من سائق السيارة التوقف في هذا المكان، ترجلت من السيارة، وهكذا فعل الجميع من بعدي.
امتد نظري إلى أقصاه يمسح المكان كالرادار
صمت مترامٍ بلا أطراف أو نهايات معلومة
وبقايا اسلحة حطام، كأنها سفينة غارقة في رمال الصحراء
وَقُحُوف آنية بالية وَ(قِصَاع) طعام
ورميم عظام، وخوذ جنود مثقوبة من الأمام
وشظايا متنوعة الاحجام
وأطلال ملاجئ لغرف كالجحور
مصنوعة من الواح من الصفيح والتراب والطين والخشب
وخنادق ومواضع شقية.
وتساءلت عجيب، كيف كنا نعيش في هذه القبور المهجورة؟
الأرض جدب، خلا المكان من الحركة والضجيج والدبيب، لا أنهار لا زرع لا ضرع ولا طير.
أتحدث مع نفسي كالمجنون، بصوت عالٍ (رباه) هنا في هذه المواضع دارت فواجع لا تعد ولن تُحصى لحوادث الدهر.
أنها رحى حرب ضروس دموية بربرية
أُزهقت فيها مئات الآلاف من الأرواح البريئة
وأرهقت على اديمها أنهار من الدماء الزكية
وتحطمت من خلالها ملايين الأحلام الوردية
يصنفها اليوم محللو السياسة والتاريخ بالحروب الدموية العبثية!
رغم السكون الرهيب الذي يحف بالمكان، لكن لم يزل رعب الموت يعشعش فيه.
على عجلٍ أخرجت من حقيبتي قلماً ودفتر مذكرات جديد: وبكلمات كبيرة واضحة بدأ القلم يدون:
(أكتب بقلب مكلوم، وصراخ ألم مكتوم)
سأكتب بدفتري من جديد بعض ذكرياتي عن هذا المكان الفريد، في الصفحة الأولى دونت تلك العبارة السابقة فقط.
سريعاً سرح عقلي يحدق ويذوب بعمق بذكريات الزمكان، وراح يسترجع شريط الذكريات المخيف، الذي يرافقني كل هذه السنين الطوال، وجوه رفاقي الجنود، المعفرة بالوجع واللوعة والتراب، بعيونهم المفزوعة اليقظة القلقة الراصدة للعدو، خلف ساتر التراب أو اكوام الحجر، فيما كانت الأيادي متهيئة للضغط على زناد المنون، وهي تقارع الموت بالموت، أجسادنا التي كانت ترتجف في المخابئ والملاجئ كالجثث محبوسة النفس عند اشتداد تبادل القصف الثقيل.
رباه، أَي قلوب كانت لنا ونحن نتحمل بجَلَدٍ رعب الليالي المظلمة، وخطر اقتراب خطوات الموت في الليالي المقمرة، كم أخافنا نور القمر، فهو يكشف حصوننا ويعرضنا لشديد الخطر.
توقف القلم عن الكتابة، وأصخت السمع لأصوات اعرفها جيداً رافقتني لسنين طوال، أزيز الرصاص، ودوي المدافع، هدير الطائرات المقاتلة والسَمتيّة، ها هي تتداخل مرة أخرى برأسي مع أصوات أنين، وتوجع وَاستغاثة ونحيب.
لمْ يبرح الذاكرة أوامر القادة الضباط النزقة المتكررة
الآمرة الناهية الحازمة الصارمة:
عليكم اليقظة والحذر
ممنوع المجادلة والاحتجاج
يتحدثون كأن بداخلهم ألف حجاج!
كان حديثهم هذا يزداد صرامة وحدة في المواقف الخطرة والشديدة الحذر، وخصوصاً عند التنويه من هجوم متوقع!
كان القائد (الضابط) يبلغنا التحذير متوتراً كالموتور رافعاً يده اليمين صوبنا، مهدداً بأصبع السبابة، فيما عيناه ترتعب من هجوم مرتقب.
حتى نعرف حالاً أن هجوماً وشيكاً جديداً سيقع، لا بل هو أقرب الينا من حبل الوريد.
جلست على بقايا دكة من الطين أمام مواضع شقية في الأرض (حفر) خلف ساتر ترابي، والتفت الى المجموعة التي معي: – الرجاء أصغوا إليّ سأحدثكم عن هذا المكان.
وأنا أشير بيدي الى بقايا حائط لغرفة بجوار الحفر:
في هذه الزريبة كنا ننام ونأكل ونتألم ونحلم، في الليالي المرعبة بهجوماتها المتكررة، كنا نجلس ونتكور على أنفسنا متيقظين من الهلع، وعندما يأخذنا التعب والنعاس، كنت أنام بعينٍ واحدةٍ، حيث يستقر في العين الأولى الخوف، فيما يستقر بالعين الأخرى القلق، وكلما يزداد هدير المدافع وأزيز الرصاص، كنت أقول لصحبي بالموضع، جاء الذي يأخذ بأيادينا، جاء مسرعاً ليقرب أيامنا وأحلامنا وآمالنا الى المقابر!
هذا المكان من أكثر الأماكن تعاسة، التي خدمت فيها، مكثت بهذا المكان ردحاً من الزمن، كانت أيامه متخمة بالمخاطر والموت، هنا لا وقت للتفكير بالفرح والتأمل والأحلام، كان الخوف من رعبِ الموت يداهمنا في كل لحظة، التشاؤم والسوداوية تسيطر على الجميع، الكآبة واضحة على الوجوه، حتى الأغاني والموسيقى المنبعثة من المذياع لا تسعفنا، لا نصغي لها، نصغي لبعض أغاني ومواويل الحزن، والحنين، والشجن، والبكاء، والوجع.
توقفت لحظات عن الكلام، وسحبت نفساً عميقاً، وتبعته بزفير أطول، كأني أطرد حالة الانفعال والحزن الذي تملكتني في هذه اللحظات، ثم حدثتهم من جديد بأعصاب أكثر هدوءاً:
سأقص عليك هذه الحكاية: ذات ليلة مظلمة، السحب الرمادية المحملة بأطنان الماء، تجري مسرعة، برق ورعد، يرعب النفوس، تندلق من خزانات السماء انهاراً من المطر؛ المطر ينزل مدراراً، رائحة العفن في الموضع تزكم الأنوف، الطريق الى المراحيض لم يكن يعبد كثيراً، لكن الظلام حالك، خارج الموضع الذي نقيم فيه، أحد الجنود، يخرج للمرحاض. بعد لحظات نسمع صراخه، طالباً المساعدة، خرج له من يستطلع الأمر، ليجد رفيقنا بالسلاح، يستغيث، جاءنا وهو مسربلاً بالماء والطين، أخبرنا أنه تعثر بالدرب وسقط في حفرة مليئة بالوحل!
ونحن في مثل هذا المكان الخطير الحقير البائس التعيس، في الليل وكلما حلت عتمة الظلام، وتذكرت جور قسوة قوانين العبودية في الجيش؛ يجافيني النوم، فيتأجج في القلب صراخ عنيف يصعب البوح به، فهنا قمة الممنوع وغير مسموح به أن تتذمر سواء كان ذلك بالحديث أو حتى بالتلميح، فهنا الجميع في قمة الحذر نخاف بعضنا من البعض، ففي كل مكان زرع ضعاف النفوس من الوشاة وكتبة التقارير الحزبية، فقط مسموح لنا أن نكثر من الدعاء ان ينصرنا الله على أعدائنا الظالمين!
في جوف الليل عينايّ ترصد صحبي في الموضع الذي يجمعنا، أردد مع نفسي: هل فعلاً هذا قدرنا الذي كتب علينا، أن نكظم غيضنا ونجتر الصبر صاغرين؟
فأردد مع نفسي وأنا أسيرٌ مكبل في عتمة الظلام وقيود قوانين الظلم وهاجس الرعب الذي بسط سلطانه علينا فيأتي الصوت همساً ضعيفاً مرتجفاً من جوف قلبي يا لحظنا العاثر التعيس، فيما صوت قرض الفئران التي تشاركنا المكان، يوقظني من رحلة الضنك والخيال.
أستوقفني أحد زملائي في اللجنة ضابط الجيش المتقاعد، أود ان أسألك سؤال شخصي.
أجبته تفضل، على الرحب والسعة.
ماذا تعتقد وتقيم الحروب؟
اجبته وعيناي تحدق في عينيه من وجهة نظري: إنَّ كل أنواع الحروب قذرة مدمرة؛ كان سؤاله كوخزة خنجر في قلبي.
سألني مرة أخرى وكيف ذلك؟
الحرب يا زميلي العزيز، صِنو الشر والخراب، أنها الويل والهلاك، وتتسبب بإزهاق الأرواح، وتدمير الممتلكات، وإلحاق الأذى بالمدنية والمدنيين، وتشيع التخلف والجهل، وتعمل على تعميق الانقسامات وتشجع على الكره والبغض في النفوس والمجتمعات، وهي انتهاك صارخ لحقوق الانسان؛ وأن أسوأ وَأخطر شيء في الحروب هو تبريرها، والدفاع عن مفتعليها؛ إجابتي له أنهت المحادثة.
توجه زميلي (الضابط) لتكملة مهمته، أخذ منظاره العسكري ووقف على الرابية القريبة يمسح المنطقة ويدون معلوماته.
أرجو التقيد بالتعليمات، ممنوع منعاً باتاً الاقتراب من بقايا الاسلاك الشائكة التي أمامنا، أنها حقل للألغام، أنها مناطق شديدة الخطورة، انها عملت في زمن الحرب، لمنع تسلل العدو وأعاقه هجماته، واحتمال كبير لم يزل قسم من هذه الألغام فعال، وتكون أخطارها جسيمة، تحدثت بصوت مسموع موجهاً كلامي للجميع.
بدأت ُالعمل (أنا) وزميلي (الاختصاصي في البيئة) كمنقب حاذق للآثار، بقفاز وملقط، نلتقط اللُقى ونجمع ونحصي ونصنف بعض بقايا مبعثرة من الحطام، الملقاة أمام ناظرينا، ننتقي بحذرٍ بعضها نرقمها، ونحفظها بأكياس شفافة، وأدون على كل كيس منها ملاحظاتنا عليه؛ وأنا أرزمها في الصناديق كنت أردد مع نفسي:
من يرممها ويعيد لها، البهجة والحياة
والعقول مخدرة، تسير في التِّيه.
استيقظت من نومي فزعاً مرعوباً، على صوت ارتطام مخيف هزني بعنف، أرتطم رأسي في الكرسي الذي أمامي، فتحت عينّي مذعوراً، لكن كان صوت زوجتي يهمس بأذني ويعيدني للواقع من جديد وهي تقول:
وصلنا المطار، الحمد لله على السلامة.
في صالةِ انتظار الحقائب، وقبل أن أستلم حقائب السفر، جلستُ على إحدى المصاطب، وعلى عجلٍ أخرجتُ دفتر المذكرات والقلم، وبدأتُ أدون هذا الحلم الحقيقي.
كتبت في مالمو أكتوبر/تشرين1 – 2024
تعريف لبعض الكلمات التي وردت في النص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصابيح الأرض الحرام: لقب يطلق على جنود الهندسة العسكرية الذين يعملون بزراعة حقول الألغام.
القِصاع: جمع القَصعة والقَصعَة ُوعاءٌ للأكل مصنوع من المعدن مخصص لأكل الجنود والمراتب دون الضباط.
ملاحظة: اللوحة الفنية بريشة الفنانة التشكيلية ريام الأميري.