قرأت عنه قليلا وسمعت عنه كثيرا، القاص المغربي محمد شكري لايشبه غيره من الأدباء العرب المعاصرين، فقد عاش متشردا بين المقابر والشوارع، وأكوام القمامة، وخرائب الشوارع الخلفية في طنجة. لم يحلم في يوم من الأيام أن يقترب من دائرة الأضواء، كان مشغولا بسد جوعه الذي لازمه منذ طفولته ، ولم يفكر بشيء غير لقمة الخبز. كان أميا لايجيد القراءة والكتابة حتى العشرين من عمره عندما وجد نفسه يقرأ ويكتب دون أن يدري كيف حصل ذلك ؟. قيل أنه صعلوك ، عبثي ، متمرد ، فضائحي، وحتى متهتك.. لذلك فأنني كنت أستحضر أمامي هذه الصفات ، وأرسم في ذهني صورة صاخبة للقائنا الصحفي الذي اتفقنا عليه بصعوبة، لكن عندما التقينا لم أجد أي شيء مما سمعته، أو قرأته، فقد كان هادئا ، وديعا ، لابل منكسرا يتكلم ببراءة وبتواضع شديد لايوحي بشهرته العالمية، وشهرة كتابة ( الخبز الحافي )الذي هو الآخر يختلف عن سواه من الكتب الشهيرة في تأليفه وانتشاره ، ويكاد يشكل مفارقة نادرة في تاريخ الأدب العربي المعاصرة،.
…………………….
عن هذا الكتاب ابتدأت حديثي مع القاص محمد شكري فقال :
قبل هذا كنت قد نشرت عدة مقالات وقصص في الصحف والمجلات العربية، في عام 1972 جاء الى المغرب الناشر البريطاني ( بيتر أوريل ) ، وقد عرفني عليه صديقي ( هول بولز ) المقيم في طنجة، وحدثته عن حياتي، وقلت له انني دونتها في كتاب، وفي حقيقة الأمر أنني لم أكتب اي شيء عن حياتي حتى تلك اللحظة ، فطلب مني المخطوطة فورا كي يترجمها وينشرها ، فوعدته أن اسلمه المخطوطة في اليوم التالي. فرحت منكبا طوال الليل على كتابة الفصل الأول من مذكراتي ( الخبز الحافي )، وسلمته له في صباح اليوم التالي دون أن أعرف ماذا كتبت ، فأعجب به اشد الاعجاب وباشر بترجمته، واستمريت هكذا كل ليلة أكتب فصلا ليترجم في اليوم التالي حتى أنجزت الكتاب في أقل من شهر تأليفا وترجمة، ونشر باللغة الانكليزية ومن ثم تُرجم الى 13 لغة عالمية كان آخرها اللغة اليابانية بواسطة الأديب (نوتاهارا)، وعلى اثر ذلك در عليّ أموالا طائلة كانت تاتيني من مختلف أنحاء العالم ، مما مكنني من الأنتقام من أيام البؤس التي عشتها، كما أستطعت ان اطبع أربعة كتب من كتبي المخطوطة على نفقتي الخاصة، ومن المهم أن أذكر ان الكتاب لم يُطبع في المغرب إلا في عام 1981 وبعد عام مُنع ، ومع ذلك وصلت مبيعاته الى 20 الف نسخة.
أذن (الخبز الحافي) هو الذي رسم الهالة حولك؟. نعم .. وأنا أقول لو كتبت الآن أي شيء تافه لنفد من السوق ، ولكن هذه الهالة لاتشرفني ، وأنا لا أنزّل أي شيء للسوق على حساب الشهرة التجارية، فهذا من عمل المقاولين وتجار الأدب ، فأنا لا أوقع عقد مع الناشر ما لم يحمل الكتاب قيمة أدبية.
هل تعتقد أن سبب الهالة هو شذوذ كتاباتك ؟ لا أعتقد ان الذي كتبته كان شاذا، لأنه موجود في المجتمع، فكل ما أفعله هو انني اكتب بشجاعة، وأنا اعتبرها حالة طبيعية في مجتمع مصاب بعدم التوازن .. في كتاباتي لا أشوه ما هو جميل ، بل بالعكس احاول أن أجمل ماهو قبيح – إن كان هناك قبح وجمال، وهذه الأشياء القبيحة أحاول أن اعبر عنها باسلوب سام مشرق. ماهو مفهومك للقبح والجمال ؟ بالنسبة لي القبح هو مرادف للشر..لما هو منحط في البشر من من تخلف وجهل ، وهذا بالنسبة لي كل القبح . الجمال هو السعي الى هدف من أجل محوهذا الشرأو القبح ، وتقييم ذلك من خلال العلاقات البشرية التي تتم بين المبدع والمجتمع الذي يعيش فيه من أجل تطويره الى ما هو أسمى ليتخطى قذارته ، وقذراته ليس بالمعنى المحسوس ، وانما وسخ الأشياء الذي أستطيع ان أجمله بالتخلف الحضاري.
هل تقيم موازنة بين جمالية الشكل وقباحة المضمون ؟ ليست موازنة .. أنا طبعا لست معني بالشكل أكثر من المضمون، وفي هذا الموضوع لا آتي بشيء جديد .. ( بودلير) عبر عن أقبح الأشياء بأجمل الأساليب، وفي القرن العشرين نجد ( جان جنيه) كتب عن النفايات بأسلوب شاعري .. اذا عبرنا عن القبح باسلوب غير مصقول ، وغير منتقى فان ذلك لاينتج عملا ساميا. أقول مثلا على ذلك أنا في نظري جمال الاسلوب أهم كثيرا من المضمون . لأن المضامين تبلى ، فالمضامين التي عبر عنها ( بودلير) قد استهلكت لكن اسلوبه بقي . نفس الشيء يمكن ان نقوله عن الابداعات الأخرى، مثل (دانتي ) والشعراء الرومانسيين (كيتس ) ( بايرون ) (وردزورث) ( شيلي ) .. وفي فرنسا كان هناك (بودلير) الى جانب شعراء اثاروا قضايا ما تزال محيرة حتى الان لا نستطيع فيها ان نفصل بين الاسلوب والمضمون كما نجد عند ( رامبو ). أذن من يقود من، الشكل أم المضمون؟ أنا في نظري ان كل مضمون له أسلوبه ، وكثيرا ما تجتمع عند الكاتب عدة أساليب وعلى مراحل..قد يبدا واقعيا وينتهي تعبيريا، وهذا طبعا ليس تقليدا ، لأن لكل موضوع شكلا خاصا به، أن الكاتب ليس رهين أسلوب واحد أو موضوع واحد، وهو يلتقط عدة مواضيع في المجتمع ويصوغها حسب القالب المناسب من حيث الشكل ، أي يجد لكل موضوع قالبه الشكلي . اذن ما الذي ميز أسلوبك ؟ على رأس الأشياء التي ميزت اسلوبي وخاصة بين الكتاب المغاربة، وحتى كتاب الشرق الصراحة في كتاباتي ، ذات مرة كنت جالسا مع الأستاذ يوسف أدريس ، قدمتني اليه صحفية مصرية ، أول كلمة قالها لي ( أنت محظوظ .. أنت شجاع ) . قلت له (لماذا ؟) ، قال ( لأنك تعبر عن اشياء لم نستطع ان نعبر عنها ). لمن تعزو سبب شجاعتك ؟ سبب شجاعتي كوني انتمي الى أسرة مهشمة ومسحوقة ، ولاتحمل وجاهة في المجتمع حتى تمس بها صراحتي في طرح هذه القضايا التي تمس الأسر التي تعتبر نفسها شريفة، فأسرتي مقطوعة الجذور وطافية مثل الطحالب .. ولذلك اذا كتبت بصراحة سواء عن أسرتي أو عن المجتمع الذي أعيش فيه، فلا تهمني أية ادانة مهم كانت .. وهذا النوع من الصراحة لا يتجرأ أي كاتب عربي أن يغامر بنفسه لمواجهة المجتمع بها ، وقد ينسحب ذلك أيضا على الكتاب الذي عاشوا أكثر انحطاطا من حياتي. لكنهم لايمتلكون الشجاعة في التعبير عن وضعهم لكي لايكتشف القاريء حقيقتهم. أو لأنهم يحملون بعض الرواسب الاجتماعية المكبوتة التي اصابتهم بعدواها ولم يعرفوا كيف يبرأون منها، ان العدوى لاتصيب فئة دون أخرى، ولكن هناك من يقاوم ، وهناك من يصبح أحد المصابين.
دائما تؤكد على الانحطاط.. هل عشت حياة الانحطاط ؟ أجل .. واذا كانت هناك أكثر دلالة منها فهي تصلح لحياتي .. فقد عشت في المزابل وأكلت القاذورات ونمت في المقابر، ومشيت حافي القدمين سنوات طويلة، فأنا عشت حياة كلب متشرد.. فماذا تسمي هذا ؟
هل يمكن اعتبار كتاباتك هجوما مقابلا لوضعك الحياتي ؟ ربما .. ويمكن اعتبارها رد اعتبار.. وكذلك احتجاجا ليس فقط على حياتي ، وانما على حياة الكثير مثلي ، هي رفع دعوى ضد الذين سيبوا حياتي ، وحياة الناس من نموذجي .. لقد هاجمت في هذه الصراحة فئة أخرى ، ترى خسارتها فيما أقول، انتصاري انني استطعت ان افضحها وافضح هذا النوع من الاستغلال من طرف الطبقة الطاغية التي أسميها ( مصاصي الدماء ) ، أو العوالق .. هذه الطبقة التي تمتص دماء المغلوبين على أمرهم.
أنت تسمي أدبك هجومي ، والكثير من النقاد والصحفيين يسمونه فضائحي .. فماذا تقول ؟. صحيح هو يفضح المسكوت عنه، وفي نفس الوقت فيه نوع من التحريض على عدم استمرار هذا الاستغلال.. كتاباتي كتابات فضائحية، احتجاجية، تحريضية من أجل اعادة الاعتبار الى الفئة المهمشة التي ينتمي لها معظم أبطالي.. هي دعوى مرفوعة في اطار المحاكمة المستمرة ولم يصدر فيها الحكم بعد.. ماهي مصادر وعيك في الكتابة ؟ أنا لست قارئا جيدا للأدب العربي..لأن معظم الكتابات العربية تفتقد الشجاعة، وينقص الكثير منها التقنية المتقدمة أو الراقية.. والمواضيع قد تكون مشتركة في مجتمعنا بصفة عامة وهي في متناول الجميع، لكن تبقى مهمة الكاتب في التقاط هذه المواضيع، أنا لم أستفد من التقنية العربية في القصة ، فقد اعتمدت على التقنيات الغربية ، حيث وجدتها راقية وشجاعة في التعبير ، والغرب تخلص من (الطابوات ) البشرية أكثر مما تخلصنا منها. هل هذا انتماء للنمط الغربي في الحياة ؟ انا عندما أقول هذا، لايعني انني مستلب للغرب ، لم آخذ من الغرب إلا الشكل ، ولكن في نفس االوقت عندما أكتب عن المجتمع الذي أعيش فيه، احاول أن أمس مشاعر الأنسان اينما كان . على ذكر استلاب الغرب .. اين انت من الصراع مع الفرانكفونية ؟ أولا أنا أكتب بلغة عربية ، وثانيا مواضيعي التي أكتبها عربية مغربية، انا لست مثل همنغواي يكتب قصة عن صياد في كوبا، أو مغارة صيد في أفريقيا، وعن الحرب العالمية الأولى في أوربا و مصارعة الثيران في اسبانيا، همنغواي وأمثاله كانت لهم ظروف لكي يكتبوا مثل هذه الكتابات وكذلك الحال مع اندريه مالرو. وهل هذه سبة عليهم ؟ لا ليست سبة.. وانما كانوا محظوظين، كانوا أكثر شمولية في اعمالهم ، وانا لم تتح لي ظروفي كي اعكس هذا الشمولية. لكنك لم تجبني عن الفرانكفونية ؟ ماذا تريد بالضبط ؟. رأيك بالأدباء العرب الذين يكتبون باللغة الفرنسية ؟. أنا لا أقول أن هؤلاء عندما يكتبون بالفرنسية يخونون اوطانهم أو مجتمعاتهم، هم أيضا كانت لهم ظروفهم، لأن معظمهم تلقوا تربية برجوازية، الطبقة البرجوازية محظوظة لأنها تدخل ابنائها الى البعثات الفرنسية أو الأسبانية.. ورغم ذلك اقول ان نتاجهم لايخلوا من الاستلاب، حتى ان بعضهم يؤلف كتب ارضائية ، أي من اجل أن يرضي الغرب. هل تعتقد أن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل سوف يؤثر بتوجه هؤلاء الكتاب ؟. كلا .. لكنه سوف يؤثر في الغرب بأن يزداد اهتمامهم بالأدب العربي والفكر العربي .. هذا هو الأمتياز الكبير الذي حظي به العالم العربي عندما نال محفوظ جائزة نوبل.. أنا لا أعتبر الجائزة جاءت هبة من الغرب الى الشرق ، بل أقول أن نجيب محفوظ كقيمة أدبية كان يستحقها من زمان .. لأنه نالها غيره ممن هو أقل قيمة أدبية منه. انها جائزة ظالمة تاريخيا.. مثلا هذه الجائزة أنشئت في السنة الأولى من القرن العشرين ولم ينلها تولستوي أو مكسيم غوركي أو سواهما، ومعروف أنه عندما أُعطيت الى برنادشو حيث قال ( انها جائزة بمثابة أنشوطة نجاة لاتعطى إلا الى من أوشك على الغرق )، بمعنى آخر أنها لاتعطى لمن يستحقها في آوانها، كما فعل (جان بول سارتر) عام 1965 عندما رفضها وكان يستحقها قبل زميله (البير كامو) الذي أعطيت له لأعتبارات سياسية ، وكان ( جان بول سارتر ) أعظم منه في استحقاقها أدبيا وفلسفيا وفكريا. ( جان جنيه ) .. عرفت أنك كنت على صلة وثيقة معه ؟ نعم كانت لي معه علاقة قوية ، تعرفت عليه في العام 1968، وأستمرت علاقتنا الى ما قبل وفاته بأسابيع ، وآخر تذكار تركه لي هو أنه جاء يبحث عني في طنجة ، وكان قد أنتظرني طويلا في الحانة التي اعتدنا التردد عليها ، وعندما لم يجدني ترك لي رسالة عبارة عن كأس خمر ملأى وجريدة ( فرانسوار ) الفرنسية عند النادل وكلمة وداع وسافر دون أن أراه، بعد ذلك باسبوع ،وفي اليوم التي تسلمت رسالته قرأت نعيه. هل أنت حزين لفقده ؟ ما أزال حزينا لفقدان ( جان جنيه ) ، فقد كان صديقي الحميم، وقد دامت علاقتنا عشرين سنة كانت لنا فيها أشياء مشتركة ، كلانا عاش تجربة قاسية في مجتمعه ، مع اختلاف ظرفينا ، وقد نشرت مؤخرا مذكراتي معه بالانكليزية صدرت في بريطانيا ، وكذلك مذكراتي مع ( تنسي وليامز ) دون أن ينشرا بالعربية . و( تنسي وليامز )؟ علاقتي مع ( وليامز ) ليست قوية مثل ( جان جنيه ) ، فقد رأيته ثلاث مرات؛ المرة الأولى كنت أراه يوميا خلال ثلاثة أسابيع، ونقضي ساعات طويلة في المطاعم والمشارب وزيارة بعض اصدقائه الأجانب في طنجة، والثانية والثالثة لاتتجاوز يومين أو ثلاثة ، إلا أنني لم أنسجم معه في سلوكه لأنه شخصية مزاجية، ومتقلبة، وهستيرية . ملاحظة : نُشر هذا الحوار في مجلة ( ألف باء ) العدد 1082 الصادر يوم 21 حزيران 1989 بعد حذف أجزاء من مسودته لاتنسجم مع سياسة النشر انذاك ، وهناك حوار آخر ، أو قسم ثاني من الحوار نُشر في جريدة ( المحرر) التي تصدر في باريس، وعندما اعثر عليه سانشره ،