نصير الشيخ
شاعروناقد عراقي
أسرعَ الخطى في سفرهِ
علي عيدان عبد الله …
إستعادة الشعر وفيـــوض اللغة
1
في منجزه الشعري والذي امتد منذ سبعينيات القرن الماضي متمثلا في مجموعته الشعرية (( لائحة شعر رقم واحدــ 1974 ــ دار العودة/ بيروت))،وحتى آخر مجموعة شعرية صدرت له قبيل رحيله،كلها شكلت متوالية وجودية لإعادة صياغة موقف من الحياة ،مبرزة هذا الفكر الثاقب في محاورته الأشياء والموجودات والوقائع في دفقٍ شعوري عالٍ تجلى في إختزال العاطفة الى فهم أعمق وإنشاء جسور بلاغية مكتنزة.
هكذا تبدت اشتغالات الشاعرالراحل علي عيدان عبدالله وهو يجوس عوالمه الشعرية بعين الرائي،مستنطقاً اللغة بأقصى مالديه لاستخراج لمعانها وفضة معانيها،مُنهمّاً في إيجادٍ صيغ بلاغية تمتاح من كتب التراث لتعتلي محمولاته الشعرية، كل هذا لإيصال فيوض لغته ومعانيه الى الآخر” القارئ النموذجي”.
مثابة قراءتنا هذه ابتدأت من مجموعته الشعرية ( وبعد …) والتي أشتملت على نصوص مفارقة في طريقة كتابتها،نصوص اعتمدت بنية البياض في رسم سطحها التصويري ــ ان جاز التعبيرــ على مستوى الشكل.وغاصت في متون التراث وقلبّت مجلدات الفكر الإنساني لاقتناص لمعانها وتسطيرها على الورق بحثا عن معنى.
مهمة الشاعرهنا ومثلما نعرف من بداياته، حمل رؤاه وعدته الشعرية لفتح افقٍ أكثر حداثة وفهماً وخصباً في حقل الشعرومنذ مجموعته الشعرية الأولى ( لائحة حب رقم واحد ــ بيروت ) ليؤسس قطيعة مع التذوق السائد في كتابة النص ومنح الاخر جهداً مضاعفاً لفهم شفراتهِ.فكانت ” قصيدة النثر” حيزه الوجودي شعراً لاستكمال شَرطه الإنساني، عبر إحتطابه أدوات لفهم جديد واضافة تصوراتٍ اكثر عمقاً للمشهد الحياتي برمتهِ.
تدلنا معارفنا على ان الشاعر” ذات متفردة ” بما يفيض عليه من وجدٍ واحساس نحوتجلياتٍ تقوده نحو طرق ” الرؤى” في موازنةٍ مذهلة مابين الوجد وانعطافاتهِ يشملانه ككيان كلي،والأفكارالمجردة التي تعبئه ُذاتاً وفهماً وموقفاً من هذا العالم.
وللزمن معطىً معنويا،ً أكده حضوره الراسخ في نصوص المجموعة،في سيره وسيولته الخطية،والتي تترشح عنه الكثير من الفقدانات،مايحيل الى انعكاس كيفي لذات الشاعروهي في محنتها،وهذا ماجاء في نص ” فرص” حيث وضوح النص كبنية عمودية سربَ الكثير من أفكاره،تمرأت في جُملهِ المقتصدةِ :
( آهٍ، كم فرصة جميلة للكلام قد فاتت،وكم فرصة جميلة للصمت قد ضاعت؟
فرص كثيرة وأسئلة كثيرة / مضت وتمضي).
قد يبدو الأمر سهلاً حين يجيئ الشعر سؤالاً وجواباً في نفس الوقت، وعند نفس المسارات.
في حين يكون السؤال عن المكان متجلياً في نص ” معرة النعمان”، ليحضر الجواب التوصيفي،ولكن : أين هي معرة النعمان؟
هي في الهناك، في اللآمكان ..بعد لازمني منطلق من جوانية الذات الشاعرة وأسئلتها القلقة وتماوجات افكارهاالتي تريد لفت انتباه الآخراليها كي يفتش في فصوص الحكمة،فكان لها هذا الأندغام مع ” المعري” كذات متفكرة وذهن متوقد.في الإشارة النصية ” تلك حيث اللوح” أي ُ لوح ؟ إنها مكان إقامة المعري كفكرة متفردة في زمانها،وآنجبلت كأثرٍخطيٍ على لوح التاريخ ك ” شعر”، لكنها تحمل مغايرتها الصادمة،وهو ماقاد النص الى إستنتاج مبني على طبقة من تأويل تدعو متلقيها الى الحفر عميقاً لأستكناه متطابقات الوعي من الوقائع.
( من إدعى أنه دارَ فقد كذبا)..هذا التقطيرالكلامي بحمولته المعرفية،هو ما يخبرنا به وعنه العارفون،وهنا تتضح فكرة، أنه كل من أمسك بجلباب المعارف فانه كاذب..!
( أيها الشيخ : هل تدري أين تقع المعرة ؟
ــ تلك،حيث اللوح :
من إدعى أنه دارفقد كذبا).
سيناريو مكثف كان إشتغال نص ” سُلمي” في نفس الصفحة، فهو يبدأ من التراكم الكمي للوقت بكل ثقلهِ، وبكل تراتبيتهِ، ليقود الذات الشاعرة الى ” مقبض النافذة” بدلالتها الواضحة ( انفتاح على الحرية) ومن ثم معانقة الشمس وقربها من عين الشاعروذاته في نفس الوقت.لكن هناك الكثير سيتبعهُ، فالنهارصنيعة الشمس ــ لكنه لم يزل بعيداً.وكي لايتراكم ثانية ــ أي الوقت ــو الشاعرفي قبوهِ، فقد فاجأهُ ( حين يأتي القِدِمُ عليه) ليدله الشاعركذات تتعشق الأنوارالى ــ أمكنته ونفائسه.
( يوماً فوق يوم
سُلمي / الى مقبض النافذة .
الشمس قريبة / لكن / النهاربعيد.
حين يأتي / أتقدم عليه ..ويتبعني حيثُ أمكنتي ).
2
تتكشف لدى الشاعر علي عيدان تناصات ” فكروية” تلتمع من شقوق كتب التاريخ ومجلدات الفكر الإنساني وانسيابية الطبيعة ووجودها الأزلي، ذلك أن معظم نصوصه إعتمدت عمق الفكرة كمعمارٍإنشائي لنصٍ مولد لصيغٍ تعبيرية تُشيد ُ( لغة الإشارة) كأداة اتصالية وبما يسمح لذات الشاعرأن تكون ” مركزاً” يبث اشاراته كمحمولات معرفية الى الاخر بغية تكشفِ المعنى،وهو ما أراده الشاعرفي سعيه الحثيث في مضمار الشعر،وما أشتغل عليه في نصوص هذه المجموعة، بدءأُ من العنونة ( وبعد …) ذلك أن الأنسان وقد يكون تحديداً ( العارف) هو المتبقي الأوحد والحامل لشعلة ” برومثيوس” عبر تقصيه الدائم وايقاده لنارالمعرفة الأزلية.
في نصه الشعري ” حوار مع هاينرش” تتضح لنا صورة منطقية تتشكل كبروزمعنوي يشف عن تواريخ وحيوات،وبالتالي فهي في عمقها ( دائرة الكشف المعرفي) لبواطن الذات وموجودات الطبيعة،ولأن الإبداع الحق هو صراط مستقيم،تنتجه ــ ذات ــ عبر الرؤية والكتابة والصورة المتشكلة، فطريق المعرفة واحد وخطيروبما يشبه ” حافة سكين”.
وبحضور” هاينرش” غيرالمعرف لنا في النص، يعمل الشاعر “مكساجاً” لدمج الصورتين لتصبح النهاية متوحدة ولاتتسع لذاتٍ تتمرأى بمعارفها:
( أضيق طريق نعرفها / هي التي على حافة السكين.
ويبدو لي / أنك تسير عليها .
ــ هذا حسنٌ! مادامت لا تتسع لسواي.
ومن أجل قصدية الوضوح المعرفي، تأتي مجالدة الذات في خلق عوالمها،متكيفة مع وقائع الحياة والأزمنة،ذلك أن الذات العارفة هي ( رؤية ورؤيا).فبين البصيرة ــ الضوء النفاذ من العقل والنفس، صوب صميم الموجودات مغلفاً بهيمانٍ أخاذ.
وبصرٍــ يبصر الدرب ويتلمس عمارتها ويقرأ تجسداتها المكانية،وما بينهما ثمة ” نفسي” اللا ئبة ،وهي تتمسح بالضوء فتراهث تارة، وتُري به تارات آخر.وفي ذلك وضوح القصد،وهو مسعى الشاعر على مرالعصور.تمركزات الذات الشاعرة وهي تجد في بحثها لدى علي عيدان عبد الله تتمثل هنا في ( النقطة) ذلك السواد الذي تقوله، السواد بكل كثافته وقتامته، بدلالة حجب ( النقائض ــ البياض) المتضمنة مفردات حياتية لازمةٍ لكنها قهرية .فالنقطة هي تمركزللوجود،وهي شروع لتشوفات أبعد.غير أن رصدها الكوني لتغايرات الفعل الإنساني في أضعف مفاصله،وعبر وحداته الشعورية ( الألم ــ الحزن ــ الضيق ) لذا جاءت النقطة مركزاً لكشف المحيط في إعلانها عن السواد الصافي على العالم نصياً.
البحث عن تمركزات محدثة تحايث الذات الشاعرة في رؤيتها للعالم والاشياء، يرسم لنا الشاعر علي عيدان في نصه ( خيط النارــ خيط الروح)مشهداً يشي بإيصال علامة ما تضمرماتود كشفه، فهي تلبس قناعاً مرآويا ًوتظهرملامحه جلية في كسرنمطية استكمال الصورة المشهدية.إذ أن المشهد يتأثث من ( نار حولها / راؤون). نحن بأنتظارمعرفة عددهم الدال على افعالهم او مسمياتهم على الأقل، للآقتراب من وضوح الفكرة، لكن القناع المرآوي همس بما هو أبعد، عابراص المسميات الى ماهو أكثر تصوراً ( بم كانوا يفكرون )..
( أيتها النار/ الذين كانوا حولكِ
لا أعلم عددهم ، لكني أعلم / بم كانوا يفكرون )
3
بدءاً يتجدد الشكل الشعري في مساحته الكتابية لدى الشاعر علي عيدان عبد الله ظاهراً وباطناً، حيث ” التوقيعات” شكلاً اعتمده الشاعرلأبلاغ ما يمكن إبلاغه من كثافة صورية ومعنى، متمماً مسار عبارة النفري (( كلما إتسعت الرؤية ضاقت العبارة))، وأحسب ان الشاعر علي عيدان أجاد مزاولة الحرث في متون اللغة، اللغة حقله الأمثل للكشف عن شعرية الأشياء وحقيقة العالم والقبض على خلاصات الوجود الإنساني.وكأنه في ” كــدٍ” مستمر في أرض الشعروما جاورها، مستنطقاً الفكرة للهبوط بها من بروجها المشيدة الى أواني الحروف الرقراقة في امتزاج صوفي، يأخذ من لغة الواقع رؤيتها الصادقة ومن مديات الرؤيا استعاراتها الحاذقة .
في مجموعته الشعرية ((بانتظارطائر الكاغان)) يصل الشاعر الى مرحلة ” تجريف اللغة” عن فائضها،ويختار لنفسه مساحة تأمل وانتظار سلافة عناقيد اللغة وهي تقطرُفي أباريقهِ، ذلك أن طائر الكاغان،وجدَ أم لم يُجدْ،وصل الى مشارف الشاعر أم لم يصلْ..هناك يقف الشاعر ذات فجر صوفي بأنتظاره عند نافذة نصف مضاءةٍ..
(( الكتابة هي التي ضد الزوال..وليست البهجة الأليفة)) ص12
شعرية الجملة لدى علي عيدان مصدرها هذا المزيج من أفكار معتملةٍ بدواخله،وهي ايضاً نتاج قراءاتٍ متطامنة لفلسفاتٍ ” غنوصية” تصدر اشعاعها وتملأ روحه بهجة وعرفاناً،وذاته امام مواجهة العالم وحافاته الحذرة، لذا جاءت جملته الشعرية تقطيراً مائزاً لثمار الشعر:
ـــ (( لاشئ يستحق عنائي..سوى أثنين
الله والصفر المزدوج ))
ـــ (( محور الكون..وهل كان سوى هذه الريشة ؟))
ـــ (( الفذُ..هو ذلك الذي ليس لديه مايقوله )).
إذن هي توقيعات شعرية وهي خلاصات من إحساس مغمسٍ بتورية اللغة غاياتها الكشف عن اللغة المصلوبة على حرف مشعٍ.لا نأخذ منها برهة انتظارلصعقنا من جديد، وأحسب انها لغة ” مخاتلة” تحتمي بقشرة القول في تكويره، وتخفي تماوجات المسائلة والدهشة،وصولاً الى عرض صحائف الذين (( أسرعوا الخطى في السفر)) وكأن بالشاعر علي عيدان يستمرأ من حياته الكثير، ليلحق بهؤلاء الذين أسرعوا في خطاهم.متجلياً كل هذا الكلام عبر الحضورالواعي لسلسة ذهبية من متصوفة وزهادٍ ومريدين ،اختزل الشاعر فلسفاتهم ومواقفهم وتهدجاتهم ورؤاهم وتشوفاتهم في سطور متطامنةٍ من قوله الشعري الباث خطابهُ من ذاته التي تتمرأى في صورهم وأفكارهم، كلها جاءت في إختزال دلالي لتلك الحيوات الحاضرة على مائدة الشاعر، والمتطامنة في متون الكتب والفلسفات وطبقات التاريخ، يحضرون هنا وبما يشكل لديه لوح
“مرآوي” يرى الشاعر فيه وجههُ ومواقفه ويغض البصرَعن هذا الزمان وافعاله ووقائعه،ويجس تحت خشب بلوط هذا اللوح أسرار روحٍ متماوجة في طواف ٍآسر.
( أنا الماء..
مامن وردةٍ لا اعرف عطرها
لذا حين أسقيها / أسقيها بمقدارلايزيدُ ولا ينقص
عن حاجة الإنسان لذلك العطر).
هنا الشاعر علي عيدان يجدد الخوص في متون اللغة الحافة لعوالم التصوف ومديات سعيه المتفرد للكشف عن رموزها ومعانيها،واستنطاق مدارجها واستشفاف جمل إبلاغية،تتداخل في تناص مع مقولات مشايخها،وتُقولُ المندثرمنها بلغة العصرعبر “لافتات” لا تؤول المتن البلاغي والجمالي فقط للغة المشايخ والمشاهير والمفكرين،وإنما تشحنها بما هو يفضح انتهاكات العصر،ومنها تدني الوعي الثقافي وانهيار قيم مجتمعية بفعل التحولات الدراماتيكية التي حصلت وتحصل حد اللحظة، متلبسة ثوب الحداثة ومتغيرات العصرواسلوب الحياة.كل هذا يضعنا فيه الشاعرفي جهدٍ متواصل لتعريف الشعر،، حيث ((الشعر..هو اقتراح لإعادة وجود حقائق)).
ما قدمه لنا الشاعر علي عيدان عبدالله هو نظام كتابي محدِثْ في تقويل المُقولْ على مستوى المتن،وعبرتوزيعه الجغرافي / السطري على مساحة الورقة/ على صعيد الشكل.حيث الكلمة تقشرُ ما عليها، منفتحة على دلالات واسعةٍ قارةٍ في المعاجم والأفكار وتراثات العالم.مستخلصاً لنا من كل هذا حكمته المتفردة المغمسة بشعرية المتأمل أبداً.
لنستدرك في خلاصة ماكتبنا عن علي عيدان عبدالله، ففي الوقت الذي تحقق فيه نصوصه الشعرية شرطها البلاغي والفني في إنزياحها الكلي نحو التجريد،ترى هل تقطع الطريق على نفسها لتحقيق شرطها الثقافي، أي تؤسس لقطيعة اتصالية مع المتلقي،وبالتالي عزلتها عن محيطها القرائي،أي عدم موضعة فعلها التأثيري في الحيز الشعري ومشهده.
هنا يكون علي عيدان منقبٌ من طراز خاص، له ذاته العارفة حاملة إياها في بحثه الجاد نحو التخوم البعيدة،مفتتحاً كوىً أكثر اتساعاً للتداخل المعرفي عبر ماهو شعري.
23.8.2024
& وبعد …..شعر/ إصدارات آسيا سيل
اتحاد ادباء البصرة 2007
& بأنتظار طائرالكاغان / شعر
دار تموزللطباعة ــ دمشق / 2020