حاوره هادي الحسيني
الشاعر دائماً في المكان الخطأ !
يقول الشاعر العراقي جان دمو في إحدى قصائده التي كتبت في عمّان منتصف التسعينيات :
( لو تمتعتُ بقيلولةِ تمساح
لما واجهت الكوارث التي واجهتها
أين يكون المفتاح؟
في الرحيل الى الأمازون
المسعورون ايضاً معنيون بهذا السؤال ؟! .
هكذا يرى الشاعر جان دمو الآن الكوارث المتلاحقة ، وكما راى فم حبيبته مثل حمار كهربائي يوماً ما في اسماله . وفي أواسط الستينيات كان له زميل عرف بظرفه وكتاباته الفنتازية والتي يوقعها باسم ” جهين ” انه الدكتور جليل العطية الذي انصرف لتحقيق التراث في السنوات الأخيرة ، وكان أسم ” جان دمو ” لم يكن معروفاً آنذاك ، وقد فبرك الدكتور العطية نشر أسم جان دمو في جريدة ” صوت العرب ” في ظل خبر عن المستشرق الكندي المعروف ” جان دمو ” وفي حينها كان يقوم بزيارة أولى لبغداد . وقد أشتهر دمو الشاعر منذ ذلك الحين وأصبح ظاهرة شعرية فريدة في الشعر العراقي على الرغم من أنه لم ينجز سوى مجموعة ” أسمال ” عام 1993 وهذا لا يعني ليست له قصائد ومجاميع عديدة لكنه يرفض طبعها . إن شخصية جان تختلف عن كل الشخصيات كذلك تختلف عن شخصيتي أشهر صعلوكين في مجتمع الشعر العراقي الحديث وهم حسين مردان وعبد الأمير الحصيري وكل واحد من هذين الأسمين له خط يعكس الصعلكة التي تمثله والمرحلة التي يجاريها . وما بين كل جيل ثقافي عراقي تبرز عادة مجموعة من الصعاليك وهذه ميزة بالتاكيد تحسب لصالح الشعر العراقي لا ضده. ذلك أن القدرة على التمرد هي بحد ذاتها إبداع منقطع النظير . جان دمو كان كالثعلب في الإفلات من المآزق التي يقع فيها ، فهو يحمل اسماله ويتمنى أن يكون وجوده شاهداً على مرحلة ، فالخمرة التي يحتسيها في كل الأوقات والغفلة التي يفتعلها بإستمرار هي حصانة له ضد العقاب ، فهو يبصق دائماً في وجوه السلطة ويشتم من يريد ! ويود أن يكون حوله الشعراء الشباب ليحتسي معهم الخمرة حتى الصباح ، ومن هنا ينطلق دمو في مزاحه المستمر وقد خرج منذ البدء من سجون الذات ليعيش داخل شفافية الخيال . وحين تحدثه عن الشعر والفن ينفلق كالقنبلة ويتحدث بشراهة ، ولكن يحدث هذا في الشهر مرة واحدة ! عندما يكون في حالة ساكنة مستمتعاً بكل شيء . وقد انتهزتُ هذه الساعة أو أكثر من ساعة حتى تمكنت من سحبه للحديث وبشكل مطلق عن الشعر والأدب ، وهكذا بدأ الحوار مع الشاعر جان دمو :
• كيف تسير في رأيك حركة الشعر العراقي بعد الهجرات المتلاحقة للشعراء العراقيين وخصوصاً أن أغلب الرواد هم في المنفى وقد رحل أغلبهم عن الدنيا منذ سنوات ؟
– الحقيقة الثابتة في الشعر العراقي بما أن له ركائز قوية سيبقى حياً ومتدفقاً ، ولكن المشكلة ليست في الشعر أنها في أعماق المجتمع وأعماق السياسة ، فالشعر العراقي حقيقة واضحة لا تحتاج الى معرفة من أحد وعلى الرغم من كل الإنتكاسات التي أصابت المجتمع العراقي بقي الشعر حياً . لكن بالنسبة لي الشعر ليس هو العلاج لابد أن تندغم بتيارات أخرى وبحركة المجتمع ، الشعر وحده لا يكفي على الرغم من أنه الخبز اليومي للشاعر أما فاعليته وحركته أين الآن ؟ لقد أنثلمت . وهل من المعقول أن كبار شعراء العراق هم في المنفى يجب أن يتغذى الشاعر من طين وطنه والمشكلة تكمن هنا في النظام الذي يحاول بأن يمسخ كل شيء وتحديداً الشعراء . حتى يسخرهم من أجل الشعارات ، أنه يخنق تنفسهم ويجعلهم في قطيعة دائمة فلماذا البياتي وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وفؤاد التكرلي وآخرون من الكبار خارج العراق ؟ الكل يحاول أن يستنشق الأوكسجين بحرية . .
* ما هو تقيمك لشعر الستينيات في العراق كونك أحد أبناء هذا الجيل ، وكيف تراه في المراحل التي تلت ذلك ؟
– تعتبر فترة الستينيات فترة مزدهرة والسبب يعود الى إن السلطة آنذاك كانت متسامحة ببعض من حرية التعبير الثقافي وكان هناك هامش موجود في الستينيات ناهيك أنه كانت هناك مكتبات عديدة خاصة وعامة تستطيع من خلالها أن تتلامس مع اللغات الأجنبية وما هو عالمي وهذه المكتبات ألغيت كلياً أواخر السبعينيات ، كنا نقرأ جميع الروايات وما يترجم من شعر عالمي كان هناك انفتاح ، لقد عاشا السبعينيون كامتداد للستينين وبعدهم الثمانينين عاشوا في تعتيم ثقافي تام ، فقط وضعوهم في الحرب بكل أهوالها لقد كانوا أكثر معاناة من جميع الأجيال التي سبقتهم . .
• كيف تتبلور القصيدة في داخلك ؟
– لا تنسى أن القصيدة هي عبارة عن بحر متلاطم ، فكيف تخرج باللالىء من هذا البحر هي ليست لها علاقة في اللغة ، لها علاقة بالجسد والروح والأعضاء والحضارة . القصيدة ليست كيان لغوي ، انها كيان عقلي فقط . .
• هل تعتقد هناك تعتيم على حركة الحداثة في الشعر ؟
– مما لا شك فيه هناك تعتيم وتعتيم كبير جداً ليس في الشعر فقط انما في الثقافة عموماً وفي كل الأصعدة ، خذ مثلاً تأثير الأنظمة الدكتاتورية على الحداثة ، الى أين خنقتها لحد أن بعض الرموز الشعرية المهمة خلدت للصمت وأبسط مثال على ذلك ” محمود البريكان ” صمت وأنزوى بعزلته منذ أكثر من عقدين من الزمان ، وليس قليلاً تأثير الأنظمة الدكتاتورية فقد خنقت الثقافة تماماً ، والتعتيم لا يوّلد غير توقف كل شيء . .
• مجموعتك الشعرية اليتيمة ” اسمال ” طبعت في بغداد وكان لها صدى كبير ، هل أنت راض عنها ؟
– اسمال ككل لا تعدو مجموعة شعرية متكاملة كونها لا تمثلني ليس بسببي ، الطباعين والناشرين هم السبب الرئيسي لقد استعجلوا في الطبع . لا أعرف كيف تم طبعها كنت أود أن أشرف عليها بنفسي إلا أنهم مسخوها في الطباعة والغريب في الأمر في بغداد كتبت عنها العديد من الدراسات النقدية الايجابية وما زالت حتى هذه اللحظة يكتب عنها في الخارج ، والحقيقة لا أعرف ما السر في ذلك . .
* أعرف منذ زمن طويل بأنك يا جان تحلم بمشروع كتابة عمل روائي ، هل ما زالت فكرة المشروع قائمة ؟
– لا وقت الآن لتنفيذه ولهذا فشلت روائياً ومن ناحية أخرى أن العراق الآن غارق روائياً وأنا جزء من هذا الفراغ ، لا استطيع أن اكتب العمل الروائي الذي أحلم فيه ولي أسبابي الخاصة وسيبقى العراق ولأمد طويل جداً فراغاً روائياً بحتاً . والرواية هي عمل عقلي محض وذات مجال حضاري مطلق انها مسؤولة عن مجال حضاري كامل وعن هندسة وتركيب وتخطيط مجمل . .
* لماذا لا تتسع خارطة الأدب العراقي للروائيين ، فهم قلة بعكس الشعر ؟
– أولاً أن الروائي ينخلق في وضع حضاري متكامل ،. والرواية تنخلق بأزمة خاصة يمّر بها البلد وتستمر ، إنها ليست شعراً وليس مهمتها أن تقوم بمهام الشعر . هناك شعراء بالعشرات وهناك روائيون قليلون جداً ذلك أن مهمتهم صعبة ومعقدة جداً والشعر ممكن أن ينطلق من الفراغ !
* كيف ترى الخسارات المتتالية والفقدان والمنفى والهجرة التي كلها تضغط عليك كشاعر عراقي وجد نفسه خارج وطنه ؟
– هذا سؤال يبدو لي يحتاج الى تأمل . أرجو أن تمهلني قليلاً حتى يتسنى لي التفكير جيداً وذلك لأنني الآن في حالة سبات عميق مع الشرب !. وبعد لحظات طالت … قال جان : أولاً ما يسمى بالخسارات والفقدان الخ . لم تمارس عليّ فقط لقد مورست على جيلي قاطبة وعلى الأجيال التالية أما أنا فلا أهتم أو أتوقع بأن يمنحني الوطن شيئاً . أنا أصنع الوطن ، أنفيه وحتى قد يمنح هوية أخرى لا ينتظرها أو يتوقعها .. أنا الآن في العراء والشاعر لابد أن يكون في العراء شاء أم ابى أنه لا يحتاج الى مساند أياً تكن ، بالعكس هو يخلق مساند سياسية وأجتماعية وأقتصادية للآخرين وله حضارية مطلقة ليست له علاقة بكل هذه التفاصيل ومع ذلك أنه دائماً ” الشاعر ” في المكان الخطأ . وزمانه في أي تاريخ جاء في الوقت الخطأ ايضاً. .
* في حوار سريع أجريته معك قبل فترة قلت ليس ثمة رموز في الشعر بوجه عام ، السؤال الآن وثانية من هم في رأيك رموز الشعر العراقي ؟
– بالدرجة الأولى السياب والبياتي ونازك وسعدي يوسف ومحمود البريكان ، هذا أولاً وطبعاً باستثناء الجواهري فهذا حالة خاصة وفريدة وهناك انفجار كبير في عقد الستينيات بدءاً من حسب الشيخ جعفر وسركون بولص وصلاح فائق وآخرين . .
-
ماذا يقول جان دمو في الشعر بوجه عام ، وهل له دور في المجتمع والحياة ؟
– لو لم نمر بالظروف الإستثنائية لكان الشعر قد أخذ طابعاً آخر . وأن العمل السياسي ومجازر الحروب ألقت بثقلها على الشاعر العراقي بالذات ولربما اختلفت الإتجاهات والأدوار ولكن مع ذلك الشعر العراقي واجه هذه الأشياء مباشرة واستطاع ان يتحمل كل تبعات السياسة والحروب ومن جانب آخر الجميع يعرف أن الساحة العربية خالية من الشعر عدا العراق بإستثناء البعض هنا وهناك . . ومن المحتمل يكون هؤلاء قد تناصوا مع الشعر الغربي ، لهذا تجد أن الشعر العراقي هو الوحيد الذي تحمل كل هذا ، وهنا استثني من الشعراء العرب فقط لبنان . أما دور الشعر فهو حضاري بنائي وتغييري وهو أبعد من الجمال الآن وحتى أبعد من الفلسفة ، ناهيك أن أمام التطورات التكنلوجية فقط أصبح الشعر هامشي طالما الآن نعيش في ظل أنظمة تتفاوت بدكتاتورياتها ولا أعتقد أن الشعر يستطيع مواجهة الدكتاتورية ، يفترض ثمة سلاح آخر لأن الشعر لا يخيف الآن . . -
ماذا يعني اليك الوطن ؟
-الوطن لا يكون نقطة صفر ، أنه الوطن أي شخص يكون تجاه وطنه مسؤول عن حضارة وأرض وناس وأن الكل أحجار في زاوية مغلقة ، فما جدوى القصائد اذاً ؟…
الأردن -عمان .. 1997