سركون بولص من القلائل الذين استطاعوا نقل الذائقة العربية وبمهارة عالية من القصيدة الكلا سيكية إلى قصيدة النثر، هو شاعر شق طريقه بثقة عالية أهلته أن يحتل مكانة مرموقة في خارطة الشعر العربي. لم يكن يوماً من الأيام يحب الأضواء والاحتفاء به كبقية الشعراء، كان يقلقه الشعر عندما يقف بحضرته ولهذا ظل مواظباً على كتابة القصيدة وتطورها بطريقة المثقف البارع والشاعر المجدد الذي كلما كتب قصيدة جديدة أبدع في تكوينها وتجسيد ملامح صورها البارعة الأمر الذي جعله يتأنى كثيراً حتى يصدر مجموعته الأولى “الوصول الى مدينة أين” في عام 1985، انتظر الشاعر لأكثر من عقدين من الزمان وهو يجرب ويجدد في قصيدة النثر حتى رسى على الصورة الواضحة تماماً بعد قراءات وأشواط طويلة في معترك المعرفة الشعرية، فهو يمتلك ثقافة واسعة ذات مناخات مختلفة جعلته يصنع قصيدة مغايرة عاكسة لمرآة الشعر الحقيقي والذي من خلاله تمكن بولص أن يأتينا بخلاصة الشعر من أعماق البحر، ووظف سركون بولص الزمكانية داخل قصيدته التي شقت طريقها المغاير بأحسن توظيف، وقد تفوق الشاعر في قصيدته على الكثير من شعراء جيله والذين سبقوه، واستطاع منذ بداياته الأولى ان يتسلل خلسة إلى قلب المتلقي وان يحدث إنفلاقاً شعرياً في عقد الستينيات ينتبه إليه الجميع.
وقبل رحيله عام 2007 كان سركون بولص قد نشر مجموعة من قصائده الجديدة في أحد المواقع، وهو مقل جداً بالنشر، وحين قرأت القصائد، كنت كمن تلقى لكمات متتالية من الشعر ! لقوة النصوص التي نشرت، فكتبت إليه معرباً عن اعجابي الشديد بتلك القصائد وسائلاً عنه، وفي اليوم التالي جاء جوابه ليقول ” :عزيزي هادي، جميل أن أسمع منك وأشكرك على كلمتك بصدد القصائد في هذا الزمن، كما يبدو يا صديقي، لم يعد لنا نحن العراقيين سوى أن نعري قلوبنا ونحن ندري أن العراقي وحده، أينما كان، سيفهم،. يسعدني أنك اتصلت في هذا الوقت، إذ أنني مسافر الى أوربا بعد اسبوع، وقد أعبر الى اسكندنافيا، من يدري. على أية حال سأراك بالتأكيد فأنا باق لمدة طويلة بعيداً عن بلد الأوباش هذا، محبتي وتحياتي/ سركون.. 5/6/2007″. ومن خلال رسالته عرفت أنه يعيش العزلة على الرغم من أنه أحب سان فرانسسكو ومكث فيها سنوات طويلة جداً، كان حدسه في الموت
واضحاً وكأنه يعلم بقرب ساعته،.
\ بولص الذي رفد الشعرية العربية بتجربة غنية بابداعها وتصورها وموضوعها الإنساني الصافي. واحدة من قصائده الأخيرة التي كتبها كان اسمها “بستان الآشوري المتقاعد” والتي ظلت عالقة في ذاكرتي منذ سنوات طويلة ففي هذه القصيدة التي يتألق فيها الشاعر بولص وهو يصف ذلك الرجل الآشوري ومدينته كركوك التي تنطفيء فوق سقوفها النجوم وكيف تلقي بالأفلاك الى آبار النفط التي تشتعل في الهواء، ثم يذهب ليصف ذلك الكلب والمزراب والضفادع التي تجثم على أعراشها في بستان مهجور وكيف يقوم بقلع ضرسه بخيط مشمع يربطه عند الباب ويضرب الباب ويبقى يئن! قصيدة مكثفة المعنى وفي صورها التي تخرج مثل اللؤلؤ من قاع الشعر، متعالية فوق السماء وهي تقطف ثمارها من بستان ذلك الآشوري الجميل. نقرأ أدناه مأساة ذلك الآشوري الذي ظل يئن من قلع ضرسه على الطريقة البدائية عبر قصيدة الشاعر العراقي الراحل سركون بولص والتي هي بعنوان بستان الآشوري المتقاعد:
النجوم تنطفي فوق سقوف كركوك وتلقي
الأفلاك برماحها العمياء
الى آبار النفط المشتعلة في الهواء،
إلى كلب ينبح في الليل،
مقيداً إلى المزراب، حزناً أو رعباً أو ندماً،
وضفادع تجثم على أعراشها الآسنة، في بستان مهجور
عندما تشق حجاب الليل صرخة مقهورة،
إنه الآشوري المتقاعد ..