ا د هبة مهتدي
عندما شاهدت مسلسل “بالطو”، وهو مسلسل جميل أعتقد أنه مستوحى من وقائع حدثت بالفعل، شعرت بشفقة على البطل، الطبيب الشاب الذي اجتهد ودرس ليصبح طبيبًا، فقط ليجد نفسه في أول وظيفة يقود فريقًا طبيًا دون أن يكون مؤهلاً لذلك. كانت الصدمة الأكبر أن المهام المطلوبة منه لم تكن طبية فقط، بل إدارية وقيادية، وهي مجالات لم يُعد لها خلال دراسته. وعندما شاهدت وسمعت عن معاناة الأطباء في غزة، السودان، وأوكرانيا في إنقاذ مرضاهم وسط ظروف كارثية، ومع متابعتنا للأخبار اليومية عن الكوارث الطبيعية في أنحاء العالم وتغيرات المناخ المتسارعة التي تزيد من حدة تلك الكوارث، أدركت حجم التحديات التي تواجه المجال الطبي. “حيثما تُحب مهنة الطب، يوجد أيضًا حب للإنسانية.” — أبقراط. عالمنا اليوم يتغير بسرعة، وتلك التحديات تستدعي منا أن نتكيف سريعًا. لهذا، كان لابد من اتخاذ موقف علمي جاد. قمت بدراسة هذا الموضوع الهام من خلال جامعة جريفيث بأستراليا، وكجزء ممتد من أبحاثي في الدكتوراه، توصلت إلى أهمية القيادة التحويلية (Transformational leadership) في المجال الصحي والطبي. كما قمت بتطوير إطار لتنمية قدرات القادة التحويليين لمواجهة الكوارث وإدارة المخاطر بكفاءة وصلابة ذهنية أكبر. وقد نُشر هذا البحث مؤخرًا في إحدى المجلات العلمية الرائدة في مجال إدارة وتقليل مخاطر الكوارث (Q1). “الآن، أكثر من أي وقت مضى، يحتاج العالم إلى قادة تحويليين ليس من أجل التغيير بحد ذاته، بل لقيادة المجتمعات من خلال التحولات الحتمية في الأعمال والمجتمع الإنساني.” — هندريث فانلون سميث جونيور. خلال أبحاثي، أجريت تحليلًا شاملًا للمعارف، المهارات، والاتجاهات المطلوبة لتطوير تلك القدرات. فالطبيب والعاملون في المجال الطبي يجب أن يكتسبوا مهارات قيادية في إدارة الأزمات والكوارث منذ بداية دراستهم وحتى بعد تخرجهم. كما يجب أن تُحدث برامج التدريب على إدارة الأزمات والمهارات القيادية لتواكب تحديات العصر المتزايدة. لقد بدأت بالفعل جامعات عالمية رائدة في التركيز على هذا الجانب، كما أن مصر والعديدة من الدول العربية قد خطت خطوات جيدة في مجال تعليم وتدريب الأطباء، لكن في بعض البلدان النامية لا يزال الاهتمام محدودًا، وتكاد تخلو برامجها التعليمية من هذا النوع الحيوي من التدريب. التعليم الطبي ليس مجرد دراسة للتشريح، الفسيولوجيا، التخصصات العديدة لمختلف الأمراض وطرق تشخيصها وعلاجها؛ بل يجب أن يتعدى ذلك ليصبح تعليمًا لصناعة قادة المستقبل في إدارة الوحدات الصحية أو المستشفيات، أو حتى إدارة فريق العمل المحيط من سائر المهن الصحية. يجب أن يكون الإعداد شاملاً على جميع المستويات، وأبرز هذه المستويات هو إدارة الأزمات والكوارث والمسؤولية المجتمعية. كما يجب أن يكون قادة المستقبل واعين بأساليب توعية المجتمع للحد من المخاطر المناخية ومواجهتها في حال حدوثها. العلم لن يكون ذا قيمة إذا بقي على رفوف المكتبات أو مخزنًا في أجهزة الكمبيوتر لتتم مناقشته فقط بين الأكاديميين. بل يجب نشر نتائج الأبحاث بطرق مبسطة تصل إلى المجتمع وصناع القرار لتعم الفائدة. كباحثة اكاديمية انخرطت في تدريس الطب منذ أعوام طويلة حتى صرت استاذة، ذات وعملت في مجالات تدريب الأطباء والأكاديميين 15 عامًا، بالإضافة إلى رئاستي لقسم التعليم الطبي لعدة سنوات، وتأسيسي جمعية عربية للتدريب والتعليم لتسليط الضوء على مثل هذه الأولويات، أدرك تمامًا أهمية تطوير المهارات القيادية بصفة عامة والتحويلية بصفة خاصة لدى الأطباء، وأدعو إلى تبني هذا الاتجاه قبل فوات الأوان. علموا أبناءنا في المجالات الطبية والصحية كيف يمكنهم أن يكونوا قادة. علموهم تقييم المخاطر، إدارة الكوارث، وفهم تغيرات المناخ. فالمستقبل بحاجة إلى هذه القدرات الآن أكثر من أي وقت مضى..