حاوره هاني نديم
عدنان الصائغ: القصيدة أن تمشي في حديقةٍ سرمدية
ومن لا يعرف عدنان الصائغ؟ إنه أحد المعلمين الكبار في الشعر الحديث، قدم عبر مسيرته نماذج شعرية مضيئة حظيت بمئات الدراسات الأكاديمية والنقدية. جاورته وصادقته ورافقته في عدة مهرجانات شعرية، تعلمت منه الكثير وما زلت أتعلم.
ولد الشاعر عدنان الصائغ في مدينة الكوفة في العراق عام 1955. وأصدر اثنتي عشرة مجموعة شعرية، بما في ذلك “نشيد أوروك” (بـ 550 صفحة) ، و”نَرْد النَصِّ” (بـ 1380 صفحة). غادر العراق عام 1993، وعاش في عمان، وبيروت، ثم لجأ إلى السويد عام 1996. ومنذ عام 2004 يعيش في منفاه بلندن. حصل على العديد من الجوائز العالمية. من بينها: جائزة هيلمان هاميت العالمية للشعر (1996 نيويورك)، وجائزة مهرجان الشعر العالمي في روتردام (1997)، وجائزة اِتحاد الكتاب السويدين (2005). ودعي لقراءة قصائده في العديد من المهرجانات في أنحاء العالم. تُرجمتْ أشعاره إلى لغات عديدة.
عدنان الصائغ ومسيرة طويلة زادت عن الأربعين عاما..
حدثني عن البدايات والمنعطفات وكيف تبدلت وتحولت الطرق والطرائق، ما هي أهم منعطفات الصائغ التي صاغت تجربته؟
– أجدني وأنا سارح هذا الصباح اللندني بتموجات نهر التايمز، أتأمله وكأنني أتأمل تموّجات حياتي؛ من ذلك الصبي الذي كان يقف على جسر الكوفة، سارحاً مع ايقاعات ذلك النهر الأول – الفرات، وهو يمضي بي إلى آخر التخوم.
بين الصبي الكوفي وجسره الحالم، والشاب البغدادي بتوهجاته وانكساراته ورماد الحروب، والرجل السويدي متدثراً بالصقيع متأبطاً منفاه، والكهل اللندني لائذاً بنرده ونصه، مرَّتْ أنهارٌ وجسورٌ ومنافٍ وكتبٌ وصحب ومحطات وقطارات وقصائد وتحديات وخيبات “ومسرات وأوجاع”..
وذلك وغيره الكثير هو ما رسم – يا صديقي – شكل قصيدتي، وإيقاع حروفي، وملامح وروحي.
الانقلابات العسكرية المتتالية التي قلبت حياتنا رأساً على عقب منذ أن فتحتُ عيني على الدنيا، والحروب المتواصلة التي عشناها داخل الوطن وخارجه يميناً وجنوباً دفنتْ شبابنا وأحلامنا في بطون السواتر وشتّتتْ ما تبقى منا في صقيع المنافي.
ربما عمق الحيرة والمفارقة الذي رافقني في مشواري هذا، جعلني أتوقف طويلاً لأنغمس في نبش التاريخ والمسكوت عنه في تراثنا وحياتنا، مما زادني حيرة ومفارقةً أكثر، وزاد السهام والحرائق من حولي..
بين العمود والتفعيلة والنثر، تتنزه وكأنها مملكتك لا يهمك الشكل، كيف ترى موضوع الأشكال الإشكالي لحد هذه اللحظة؟ وكيف تنطلق إلى نصك؟
– المهم في القصيدة هو جوهر الشعر، ولا يهم بأي شكل كان، وبأي أيقاع، أو لون، أو حجم، أو معنىً، أو مبنى.
هو تماماً كما تمشي في حديقة سرمدية، قد تتدلّى أو تبرق أمامك ثمرةٌ (لحظة التلقي)، قد تقطفها صغيرة أو كبيرة (نوع النص)، فجة أو ناضجة (مذاق التلقي). قد تكون الشجرة التي تحملها عمودية القوام والتقاطيع (شكل النص) أو تكون متشابكة الأغصان والظلال (بنية النص وتأويلاته)، وإلخ، وإلخ…
هنا لكل شجرة شكلها وجذورها وظلالها وثمرتها، ومذاقها المختلف. وتكون لكل قصيدة لغتها وشكلها وايقاعها، ومدلولاتها المتنوعة، ويكون لكل إنسان طبعه وجنسه وشكله ولونه وثقافته ومزاجه، وأسلوبه الخاص.
واقترابك من هذه القصيدة، أو من هذا الصديق، يعتمد على مدى التقارب والتنافر والرؤى والهوى والمرجعيات والخ..
وأيضاً الحال والثيمة والمزاج والايقاع الداخلي هو ما يقودك إلى هذا النوع من الشعر، وهذا النوع من الأحباب.
لذلك تراني أتنقل بحرية وبدون تخطيط، مراتٍ كثيرةً، من شكل إلى آخر، وصولاً إلى ما يلمني ويحتويني، في التجربة والفكرة والصورة التي أنا فيها.
قصيدتي الطويلة “نشيد أوروك” أخذت شكل قصيدة التفعيلة (المدورة في كثير منها)، أما قصيدتي الأخيرة “نرد النص” فاتخذت شكل قصيدة النثر (النص المفتوح) يتخللها شعر التفعيلة وكذلك بعض من الشعر العمودي.
النرد ديوان واحد بـ 1380 صفحة.. لم تترك شيئاً إلا وقلته هنا دفعة واحدة! لقد أخافني وأنا أشتريه وأقرأه.. ماذا تريد من هذا العمل؟
– لقد عاش معي أكثر من ربع قرن، أقلّبه ويقلّبني في متون وهوامش الحياة والتاريخ والسياسة والجنس والدين والميثولوجيا والخ، على نار هادئةٍ حيناً، وعلى فوهة بركان حيناً آخر. يشظّيني، وأشظّيه، يقطّعني وأقطّعه، منقباً وفاحصاً ومحاججاً كل ما مرّ بنا ويمرُّ من أحداثٍ ونصوص إلهية وبشرية رسمتْ وجودنا على هذه الأرض.
وكل هذا الذي نعيشه اليوم ما هو إلا نتاج ما عاشه آبائنا وأجدادنا، وهم نتاج ما عاشه الذين سبقوهم، وهكذا دواليك، وصولاً إلى أول انسان سقط من أجل تفاحة، كانت رهاناً لا دخل له ولنا به، بين رب وملاكه، لمْ يُعلن المنتصرُ فيه للآن. ولو أعلنت النتيجة لانتهى هذا المارثون البشري وارتحنا وارتاح الكون منا.
لقد تساقطتْ على رؤوسنا وأمامنا تفاحات كثر، وتشعب الرهان وتعدّد وتعقّد أكثر، فاعتلتنا أطنان من الكتب والتفاسير، وتعالت معها الرايات والسيوف، ثم واشتعلت الحروب والأحزاب والأديان والأعراف والبنوك.
و”نرد النص” هذا، هو ببساطة شديدة صرخةُ تساؤلٍ لشاعر أمام ما يرى، كما صرخة التساؤل لذلك الطفل في حفلة “ملابس الأمبراطور الجديدة” للكاتب الدنماركي هانس كريستيان أندرسن (1805-1875). فالقصيدة – الصرخة – النرد هنا، محاولة لإعادة النظر بوعيٍّ وجرأةٍ في موروثنا وثقافتنا ومعتقداتنا التي تكلست حتى لمْ يعد في فضائنا فسحة لصرخةٍ أو نسمة. ومن جانبٍ آخر كسر القوالب الأدبية (والشعرية خاصة) التي كبّلت أفكارنا ومشاعرنا، للانفلات إلى النَظْم الحر والشكل الحر والبحث الحر والتفكير الحر والتساؤل الحر والصراخ الحر.
لقد عشتُ وقصائدي في العراق سنوات الخوف والحصار إلى أقصاهما، والآن في المنفى أعيش الحرية إلى أقصاها:
“في وطني
يَجمعُني الخوفُ ويَقسمُني:
رجلاً يَكتُبُ
والآخرَ – خلفَ ستائرِ نافذتي –
يرقبني”
لكن وأنا مع “نرد النص” كنتُ أشعرُ أنني لستُ الذي يكتبُ. كأن ثمة آخر يملي في الورقة التي أمامي غير عابيءٍ بشيءٍ. انفصال والتقاء، تصادم والتحام، في اللحظة نفسها وأنا أتابع جريان ذلك الحبر، كأنه جريان الدم والمَنيِّ على صفحات التاريخ.
كان النص أو النرد (أو كلاهما معاً) يمضي غير عابيءٍ بي وبحيرتي وترددي. يسطِّر نفسه فصولاً أو قطعاً متناثرةً وغير مترابطة أحياناً، ويتركني أمام ركام الأوراق والشظايا التي نثرها على طاولتي، ساخراً أو متوجعاً أو شامتاً أو مشفقاً.
– هناك تجارب مهمة منفلتة لامعة هنا وهناك، وسط فوضى عارمة من أشتات وطحالب ورقابات (سياسية ودينية واجتماعية) تتكاثر وتزحف على كل شيء.
ولأن الكثير من الشعر العربي اليوم خاضع ومكبل بتلك التابوهات الثلاثة، فقد ضاع وانطمس الكثير والمثير منه. والشعر هو صنو الحرية. وبالحرية تأخذ الأرواح والأفكار مدياتها الباهرة المتفردة للتعبير والتجريب، في الشعر وفي ميادين الابداع الأخرى.
نعم. ثمة تجارب مهمة تستوقفني بين فترة وأخرى، من أجيال مختلفة، في بلدي العراق، وفي عموم الوطن العربي والعالم. أهرع إليها بشغف مريد لشيخه. وأتابع بانبهار تدرجات الجمال والسحر فيها.