الأركيولوجيا وبراغماتية النوايا… وديع شامخ

شارك مع أصدقائك

Loading

مقالة في تقصي شمس لا أثر لها

………..

من أهم سمات الكائن البشري عبر تاريخه  الطويل ، هو التحرر من الذيلية ، بايولوجيا وفكريا وجماليا .

وحين تعددت زوايا هذا الموشور ، في الكشف والرواية  لتاريخ  انتصابنا في بريّة هذا الكون، جاءت الاقتراحات البشرية  كتمثُل لرغبة عارمة  في الكشف المعرفي ،  دون وصايا ،  في الانتصاب عبر سلسلة جبرية من التحولات  التي قادت  الخلية الاولى  ان تكون انت أو أنا .

وكما تفحص اي ظاهرة او نظرية او دعوى في حقلها ، سيكون للمختبر البشري  الحقل الارحب للتحقّق من الدخان الابيض  لتنصيب  القداسة عن هذه الظاهرة ، من تدنسيها  مع  دخانها الأسود .

هكذا  مضت وتمضي البشري والطبيعة في حوار مع  الأصل والعدم  .

….

في فرضية الظل والشمس ، لا معنى لوجود شبح بلا معنى ،  كما في ثنائية النوم والصحو ، لا يصح وجود سرير بلا أثر .

ولعل من اهم ثنائية الأثر والفاعل ، ما قاله بدوي  في ”  تقصي الأثر ”  بوجود بعرة تدل على البعير وشمس تدل على المسير ..

هنا تدخل الفطرة قبل العلم والكشف للتأشير الى الإطار العام للصورة الكلية .

….

نشوء الكون  ،  خلق الكائن البشري ،  خلق الطبيعة ،  اختياركوكب الأرض دون سواه ، لتطبيق فرضية  الخلق في بقعة  صغيرة لا تتعدى حجم نصف صفر من حجم الكون الأثير !!

السؤال  القلِق  ، لماذا اختارت  الصدفة ان تكون في ارضنا ، ولماذا توفرت لها كل هذه الإمكانيات  في النشوء والارتقاء؟

ولماذا كنّا نحن في كوكيب الأرض،   من يتحمل نتائج ”  الانفجار العظيم ”  لحمل أوزار الكون  ماديا وروحياً ، عنفاً وحربا ، وسلاما ومحبة ، لغات وافكار وديانات وعقائد مؤمنة وملحدة ، وسلوكيات معقدة في تنوعها وغناها ، ميول اجتماعية وثقافية وعلمية وفكرية متطرفة ومعتدلة ومحافظة؟؟ !!…،

وخلال ملايين السنين  الضوئية والزمنية ، تحقق حلم الانسان في وجوده  العاقل والعملي والفاعل والمتساءل ..

اي  ان الانسان بانتصابه كعلامة استفهام  ، كان له الدوي المثير ،  لنشر غسيل السماء والارض على  وجود العلّة الأولى ، وتمظهراتها …….

بعد كل  الفرضيات  في التحقق الواقعي من وجود كائن عاقل ، ميتافيزقي ، بعد ان كان ”  حيوانا اجتماعيا أو حيوانا عاقلا  أو كائنا ميتافيزقيا ” .

الانسان  الآن المُنتصب بعقله وسلوكه وجنونه  ووجوده كعلامة تعجب  أمام  ظاهرية  الطبيعة وجموحها  ،والبعد الآخر من الوجود  !!

………

خبرة البشرية في الحوارية الكبرى

في تقصي الفكر الفلسفي البشري  ، كان ثلاثي السؤال ”  سقراط ، افلاطون ، ارسطو ” قد شكلوا  البنيّة المثالية لفهم  التصور الفلسفي  لحضارة  الكائن البشري في مرحلتها العميقة  في اليونان  مكانا ،  وحين  يتبخر الألم الانساني خارج غابة الحياة ،  تتصاعد غيوم حلمه  لتمر اقتراحات وظنون واسئلة ونوايا ..

الانسان منذ كهفه الاول ، كان كائنا حواريا  مع آخر .. طبيعة ، ظاهرة ، إلله ،  كائنات مجهولة ،  سر !!!.

لم يكن الكائن البشري حنجرة قطيع ، ولا عبداً  سائداً  ومتاحاً .

في وحدته ، وضياعه ،  وحلمه ، كان مفكرا  في الانتصاب الواحدي أولا ، ومن ثم الانخراط  في محنة الجماعة ،

النسب، الوطن والقومية ،  واي تعريفات لهذا الرفيف والهاجس البشري .

………

في حواريات صائتة نستمع  الى ثلاث أصوات ، اداعاءات في مسألة غاية في التعقيد والتبسيط معا ، موضوعة تتعلق بتاريخ روحي   لنصف او اكثر من سكان هذه الأرض  ، التي جاءت بصدفة الانفجار الكوني العظيم ، وكأن من كارثة هذا الكوكب وعزاءه معا  ، ان يكون موضوع حمل المتضادات والمتناقضات ، ليس كطرفي حياة ، أو قطبين حواريين .

المائدة لم تعد لاستدارة  المتحاورين ، ولا الطاولة قادرة على فحص طروحات المتحدثين الاستاذة ، حول نشأة الديانات  ” التوحيدية ”  ،  فاذا ما كان هناك اتفاق شامل على نشوء الاسلام من جزيرة العرب ، ولكن الالتباس يمضي الى اليهودية  والمسيحية ، بكونها حملت البذرة الأولى للفكر الاسلامي ، لتواجدها الفاعل في الجزيرة قبل البعثة المحمدية ،  واختفاء أثرها  بعد أن أنجز الفاعل الإسلامي هدف رسالته في السيادة  الكاملة ، حتى أن الواحد أصبح المهيمن والمركزي ، فلا ” يجتمع دينان في جزيرة العرب ” .

…….

وبعد الاقرار بالواقعة التراجيدية التاريخية ، وشيوع  النمط الديني الواحد ،  وبعد انتهاء العصر الذهبي  للأحادية ، وجاء عصر الحواريات الكبرى ، والاسئلة الفلسفية  الجريئة  ، في مساءلة كل ما حمله التاريخ البشري  بعد الانفجار المعلوماتي والثورة الاتصالية ، وانتصار الكائن البشري على كل السجون المادية  والمعنوية ، واصبحت السبابة تُشهر بكل حرية أمام  كل رأي  وطروحات ، لاهوتية منها أو علمية وحتى الجمالية والفكرية ..

……

الاركيولوجيا خبرة براغماتية

بعد انتصاب الحواريات من معقلها الفلسفي وموقدها الشعري وحلمها الذهبي ، جاءت نتائج الاركيولوجيا بكل ثقلها ومصداقيتها لتُشكل محمكة  معرفية صارمة على وجود  الأثر ، وصار لهذه الكشوفات الحديثة حضوراً مهماً  إزاء عمر البشرية ، ووجودها الصفري والمختبري  أصلا ،  وبين تاريخها  الروحي .. ومن خلال المساري المثالي والمادي ، كان للفلسفة الحديثة  من ”  هيغل وفورباخ  وماركس ونيتشه  وديكارت وسبينوزا وكانت.. الخ   ” الدور المباشر لنقل الحوارية  الى فصائها الانساني ، وانزال الفلاسفة من علو ابراجهم العاجية ،  وبهذا تأسس السؤال الانساني  ، محايثاً للشك المعرفي بسلسلة من الفلاسفة  والمفكرين ،  حتى صار البحث عن الأثر الفكري القار ” دينيا تحديدا” يحتاج الى تزكية من  مختبرات العقل البشري ، للفحص والمعاينة ، بعد أ تجرأ الفيلسوف المجنون والأديب  ” فريديريك نيشه ” في تشييع الله ،  وكان الروائي الروسي العظيم  دوستوفسكي  يقول  ما معناه ”  لو لم يكن الله موجودا لكان العالم شكلا من العبث “.

بين التثبت العلمي واليقين الروحي ، جاءت الابحاث وكشوفات  الاركيولوجيا  لتشكل خارطة طريق لفحص الدعوة النظرية ،  كما كان الفحص الجيني انتصارا  علميا  لفحص الخارطة في أصل الإنسان  وثروته الوراثية   .

 ثلاث نتائج اركيولوجية لأصل روحي

….

في فضيلة العلم والتكنولوجيا  ، صار علينا ان نستمع دون القراءة ، ونؤمن دون تمحيص ، في طروحات حناجر  صائتة  عدتها البراهين الصادمة ، والحجة الدامغة ،  عبر رُقم،  وثائق ، حفريات  ، مخرجات اركيولوجيا ، وثائق ، تاريخ مقارن ..

ولكن للعجب أن هؤلاء الثلاثة  قدموا ثلاثة نظريات وفرضيات ، اجزموا  في قطع ثبوتية  وبرهانية ما أعلنوا عنه !!!

الأول حمل مشعل الجزيرة العربية بوصفها منشأ  هذه الديانة التأسيسة  الأولى” التوارة ” ومن بعدها ”  الإنجيل ”  ،  والثاني قد ذهب بها الى  اليمن السعيد ، وثالثهم قدّم  كشوفاته بأن فلسطين هي رحم هذه الديانة !

ومن هذه الفروض ” برأينا ” و”  النظريات القارّة بنظرهم”  نرى مثل هذا التنطيط ، التفخيخ ، الغموض ،؟؟

لنتصور ، ونحن في عصر الذكاء الإصطناعي وسيادة الوهم ، والجراحة القيصيرية للعقل البشري ، في انتاج معطيات خيالية  وكأنها واقعية جدا ، نرى أن  الدليل الاركيولوجي أصبح وكأنه ” ميزان بقال ”  مُطفف ” ويل للمطففين ” .. الذي يغشون في الميزان ،  رغم وجوده كمقياس عادل لوزن أشياء ووضعها في حجمها السعري  والتبادلي الواضح .

كيف لنا أن نثق بالكشف الاركيولوجي ونحن نعلم ، ان هناك فرعاً مختصاً بتزييف الوثائق والشواهد التاريخية بشتى  المعالجات  واستخدامها كدليل مضاد  لوجود اركيولوجي قار!!  فما بالنا في عصر تناسخ الارواح واللعب  في أوراق الكائنات عبر الخارطة الجينية ،  وتتمتها ”  الذكاء الإصطناعي “!!

أمام هؤلاء الثلاث فقط نرفع علامة استفهام كبرى وعلامات تعجب لا تحصى ، بوجة الأركيولوجيا ” الضحية ” كمفهوم تنقيبي علمي محايد ،  أما التوظيف ”  خارج  الوظفية الوثيقة التاريخية ” ، من قبل باحثين يصدحون  بحناجر يقينة مذهلة ،   فهو محض فروض  ؟؟؟

ونحن هنا نستبعد الأثر التوارتي والإنجيلي ككتاب مقدس  مكون من عهدين ” قديم وجديد” كدليل على أصل منشأ ووطن اليهودية والمسيحية في فلسطين تحديداً،  لكونها تمثل رسالة مقدسة غير معنيّة في الكشف الاركيولوجي بقدر هدفها الكشف الروحي والخبرات الايمانية الفردية بوصفهما  أداة فردية للكشف والبحث والاستدلال ،  مع تصويب نظرها ايضا للكشوفات البحثية والاركيولوجية ليس لتعزيز  قناعاتها الروحية ، وانما كدليل يضاف الى دفاعات المؤمنين بهذه الرسالة .

………….

شمس بلا أثر

لا اعتقد  ظنيّاً  أن اي مؤلف واقعي أم افتراضي ، يترك نفسه بلا شاهدة ، حتى لو كان  قبراً مثلا ..

الاركيولوجيا ، عصا ماضية لكسر الوصايا المقدسة والقناعات القارة ،  والبهيمية والقطيعية للعقل البشري ،

هي عموده المنتصب بقوة ،  وبالدليل والبرهان ،.ولكن العلم ماضٍ أيضاً في  ابطال وهم المخطوطات  والرقم والوثائق والاركيولوجية  المزيفة ، ,,, ومن هنا نشأ أيضاً  علم او مختبرات لفحص  الوثائق وتقديم البدائل من الطرف الآخر ، والغريب  في الأمر أن كلا الطرفين يتهم الآخر بتزييف الوثائق !!

…………

خاتمة  العقل

ومن الاخبار السارة جدا، ان كل  الكشوفات   العلمية والسحرية  الفيزيقية والمياتفيزيقة ، هي من صنع العقل البشري أولا ُ وأخيراً،

الانسان صنو الله ، الانسان الصادق مع براءته ،  المكتشف الشكّاك ،  المتسائل ، الملحد ،  المؤمن ، العاق ، العدمي ، .. الخ .

سيبقى حصيلة ونتاج عقل الإنسان ، وليس مجرد  متلقٍ سلبي لمعطيات قابلة للفحص والشك والمقارنة والمقاربة .

واظن عقليا ، ان العقل لبشري  المنتج ، الفاعل ، المبدع ، سيكون هو الفيصل الحكم وليس الوصي ،  سيقدم اقتراحات للحوار مع كل فرضيات الآخر ، تجاه وجوده والوجود الانساني طبيعة وكائنات .

في هذا المعيار ستكون  الفروض رغم حمولتها الصوتية الصائتة محض تجربة في المختبر فقط /  اذ  لا تسليم مطلق ،  لان العقل البشري صالح للفحص والجدل  اما كل الظواهر والمعطيات ، وليس العقل سبورة لمعلمين ” محو الأمية ”  ولا منصات لادعياء الحق المطلق ..

الكشف الاركيولجي ظاهرة متغيرة في المعطى العلمي التجريبي ، وان عدم وجود براهين لا ينفي وجود ظاهرة ما ، فالعلوم نسبية في مجمل اشتغالها .

العقل البشري المرتبط بقوة نقدية هائلة ، وتصور جمالي للتعايش مع الآخر ، لا يمكنه  ان يكون مأسوراً لقناعات مُعلّبة للتصدير ،  ونوايا مأجورة .

العقل البشري السليم بقوامه وفطرته وهيبته ، سيقارع  الشمس التي بلا أثر، الشمس موكولة بإذابة الشمع وقشع الغيوم  للوهم الأركيولوجي  والوهم اليقيني  معا ..

التاريخ مدونة من الفروض  والنظريات ،  ولا مقدس أمام البحث سوى القلق العقلي وخفقان الروح .. الايمان تجربة شخصية عرفانية خالصة ، وكل ما عداها فراشات تحوم  حول نارها ، ونحل  يتنقل على  الزهور دون مفاضلة  ..

الاركيولوجيا ليست  اليقين  القار ، ولا براهين زائفة لتصديق فروض  ونوايا مسبقة ..

الاركيولوجيا بحث عقلي نافر وقلق ماثل  ، ولكنها  وثيقة فقط  ، لا تدمغ الحقيقة بختمها وبمهرها ،  هي محاولات للكشف الأثري ، دوال ،  قلق .. لا يقين لها ..

وأما اليقين  فلا يقين

وإنما أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا

كما جاء من سيد  الشك  ”  ابو العلاء المعري ”

 

شارك مع أصدقائك