حاوره
عبد السادة البصري
مهاد
منذ الوهلة الأولى سكنه هاجس الرسم فظلّ يخطّط على الورقة أشكالاً ورسومات أوحت اليه بأن هناك عالماً من هواجس وابداعات شتى سيخوضها حتماً ، وبعد الخطوة الأولى كانت خطوات الدراسة والتحصيل العلمي الاكاديمي ليقف على درجة سلّم التدريس الجامعي والرسم بالكلمات ، فكانت رحلة توزّعت منجزاته فيها بين الرسم والخط العربي والزخرفة والنحت وغيرها من البنى المجاورة ، لهذا حملنا أوراقنا ونثرناها على طاولته فكان هذا الحوار مع الفنّان والناقد الدكتور جواد الزيدي ،،،
بين الرسم بالفرشاة والنقد بالقلم علاقة سكنتك..كيف تمزج بينهما في واقع كتابي واحد؟موهبتان تتساوقان مع بعضهما البعض، وهما أيضاً غوايتان لا يُمكن الخلاص منهما، لكن أحداهما تتقدم على الأخرى بفعل فرضيات المكان وحاجة الآخر وتوصيفاته التي تختلف بالتأكيد عن أولوياتنا، إذ أن الحاجة أحياناً تدعونا الى ممارسة النقد وقد تجعله يتوثّب الى الأمام بفعل المهرجانات والمسابقات وطلبات وسائل الإعلام، وبهذا تقدم على الممارسة الرسومية في السنوات الأخيرة من خلال الدرس الأكاديمي والمتطلبات التي تم ذكرها. وتبقى حاجة الرسم روحية قائمة للتعبير عن مفاصل الحياة التي يعجز الكلام عن التعبير عنها، فضلاً عن حاجات أُخرى تقترن بالمعرفة التفصيلية للنوع الفني إقتراناً بالممارسة النقدية التي تتوجب هذه المعرفة بتفاصيل العمل الفني ومشيداته الأسلوبية والتقنية. وإن عملية المزاوجة قائمة وتدفع بالتجربة الى الأمام وتنعتها بالإيجابية، أو خلاصة ذات عارفة تقيم موازينها بين كل البنى المجاورة وتحديد درجة الإقتراب من البنية الأساسية (الرسم).هل أن دراستك الأكاديمية هي التي فتحت أمامك نوافذ للنقد، أم أن اللوحة تمنحك مساراً آخراً لتأخذ المتلقّي في عالم أُخرى؟يُمكن أن تكون الفرضيتان صحيحة، حيث أن معرفة أسرار اللوحة من خلال الدراسة والتقصي وتأمل التجارب المتعددة يمنحها غنىً في ضوء التراكمات الجمالية التي تغذي تلك التجربة. ولذلك تتطور عبر الزمن رؤية العمل الفني والنظر إليه وإقتحام مغاليقه وأسرار صنعته على مستوى التقنية أو التشييد البصري المقرون بالمضامين. ولهذا فإن النظرة تتغير بشكل كبير على هذا المستوى وتكون أكثر استقراراً لتقترب من المنطقي إذا أردنا وضع هذه التجارب في موضعها الحقيقي. وهذا ينطبق على النقد أيضاً الذي يتشكل بمستواه الأولي في ضوء القراءات المعمّقة التي تمنحها دروب المشهد الثقافي أكثر من المتناولات الأكاديمية، بيد أن الأخيرة تمنح الناقد أو القارىء الكفء خصيصة تنظيم الرؤى والأفكار من خلال اختراق المنهج الأكاديمي ضمن تراتبية التأثر والتأثير ومجمل التناصات مع البنى المجاورة التي تُعد محركاً أساسياً في بنية العمل الفني، وإتخاذها السياق التاريخي منهجاً للكشف ومزاوجته مع المعطيات المعاصرة التي جاءت بها التحولات الكبرى على صعيد الانجاز الفني والفكري بمختلف إتجاهاته وأنماطه الفاعلة. وهنا تخضع التجربة النقدية الى سلطتي (الموضوع والذات). ولما كان للموضوعي الأثر الكبير على فعل الذات وتتويجها ذاتاً مبدعة فأن (سلطة الذات) لها حضورها الفاعل من خلال التوجه والبحث في المضمر والمسكوت عنه في التجربة النقدية وإتخاذها مسارات التطبيق في الحقل الفني الذي يعمل عليه الناقد، بما يُغني التجربة النقدية ويطورها. وبالإمكان الجمع بين الفلسفة الذاتية وآليات المنهج النقدي في خطاب موحد يتوسط الأثنين، ولعل المتلقي يستمكن حدود الممارسة النقدية ومجاوراتها التحليلية للعمل الفني وفضاءه الجمالي الذي يميز التجربة عن غيرها في النهاية.بين كتابك الأول (مدونة البصر..إرث الطين وذاكرة الزيت) وكتابك الرابع عشر(تضايف المشخصن والمجرد في النص البصري) رحلة كتابية ونقدية للعديد من التجارب التشكيلية. كيف أستقيت ذلك، وماهي أدواتك في هذا الجانب؟إنها رحلة حياة وتجربة شخصية أكثر ما هي تجربة كتابة فقط، بحث وانفعالات وحاجات ذاتية أحاطت ذلك العنوان الذي ندعوه الكتابة. إنها الكتابة في أصعب أنواع النقد من حيث ملاحقة خطاب قائم على خربشات وضربات لون وتكوين حروفي لا يستند الى نص ممكن أن ننفد من خلال فجواته الدلالية لإستثمارها في الوقوف على المعنى المراد. ما بين الكتاب الأول والرابع عشر عقدين من الزمن ستكون جلية في انجاز ما بينهما مع إختلاف ميدان التطبيق أيضاً، الأول تخصص في ملاحقة الأثر الجمالي في التشكيل العراقي، بينما كان الأخير هو الكتاب الفائز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي، بما يمكن أن يلتزم ببعض الإشتراطات التي تفرضها لجنة الجائزة وتحديد موضوعها العام الذي يتسع الى مناطق أكثر وعورة وعمقاً تشمل التجربة الرسومية العربية ضمن مفهوم محدد هو العلاقة بين (المشخصن والمجرد)، إنه حفريات على هيئة مباحث في عناوين تقترن بالموضوع نفسه وتأخذ مداها في الرسومية العربية، فضلاً عن هذا فأن ميادين البحث مختلفة من خلال التخصصات الدراسية، حيث توزعت منجزاتي النقدية بين الرسم والخط العربي والزخرفة والنحت وغيرها من البنى المجاورة، بالإضافة الى البحث في المرجعيات الإجتماعية والثقافية التي تنضوي تحت خيمة الخطاب النقدي المعاصر والتوصلات التي يتم اعتمادها بفعل المنهج النقدي المتعين، أو عند المزاوجة بين اتجاهات نقدية تتمظهر بجنس آخر يقترب من المنهج التكاملي.كيف تنظر الى التجارب الشبابية في مجال الفن التشكيلي، وهل هناك مواهب نحتية كما الكبار؟اعتقد إن التجربة التشكيلية العراقية واسعة بسعة العمق الحضاري وامتداداته وهي ولاّدة على الدوام، وإن ما يثريها وجود مؤسسات راعية سواء كانت مدنية مثل جمعية التشكيليين العراقيين وفروعها والاحتفاء بتجارب الشباب وتقديم العون لهم والجوائز مقرونة بجائزة عشتار للشباب، أو مؤسسات حكومية مثل معاهد وكليات الفنون الجميلة المنتشرة في عموم مدن الوطن. وإزاء ملاحقة سريعة نجد عشرات الفنانين ممن يرفدون المشهد التشكيلي العراقي بدماء جديدة على مستوى الرسم أو النحت والرسم وغيرها من الأجناس الإبداعية وإن مايُؤشر إزاء هذه الظاهرة سرعة تطور نتاج هؤلاء وخصوصيته الإبداعية، على الرغم من الظروف الموضوعية المحيطة بالفنان والمؤسسة على السواء، من خلال هجرة البعض في الداخل والخارج، بيد أن هذا لم يكن عائقاً للتجربة الإبداعية العراقية فهناك الكثير من الرسامين الشباب الذين صنعوا لهم شأناً كبيراً بعضهم داخل الوطن وخارجه، والأمر ينطبق على الخزافين، إذ يوجد جيل من الشباب توازي تجاربهم من حيث الصنعة والأفكار تجارب الكبار. وفي حقل النحت أرى إن ميدانه أكبر من حيث التقنية والرؤى الخلاقة المحيطة إنطلاقاً من الإمتدادات الحضارية التي تلامس مشهد النحت العراقي القديم، وقد خلق هذا الجيل الشبابي تجربة يمكن أن نقدم لها الإحترام الكبير تبعاً لهذه المواصفات والسمات فأن تجارب (فاضل مسير، طه وهيب، طلال محمود، ايهاب أحمد، عاتكة الخزرجي، عباس غريب، محمد جاسم، بيان ماني) وأسماء أخرى كبيرة العطاء قد تنظم الى هذا السرب المحلق في سماوات النحت لتخلق مشهداً جمالياً يوازي تجارب الكبار بمستواه الواقعي أو التجريبي، لكن الفريقين ينضويان تحت لحظة الإبداع العراقية التي تأتي بكامل محمولاتها الدلالية انطلاقاً من العمق الحضاري أو من خلال المعرفة الجمالية التي جاءت بها تجارب الآخر وعمّدتها في التجربة العراقية الحديثة والمعاصرة. س / العمل الأكاديمي كأستاذ في الجامعة، هل يمنحك حرية الخوض في مضمار النقد، أم أنه يجبر ذاتك على ذلك لإرضاء موهبتك؟ ج / الدرس الأكاديمي مهم بأهمية منطلقات الموهبة الفطرية التي تتحصن بالمعرفة داخل أسوار الجامعة. وفي السياق الأكاديمي فأن الحرية متاحة للتفكير النقدي وتعديل نسبة معينة من المنهج كل عام بما يتلاءم مع المتغيرات الخارجية والمعطى المعرفي والفكري، بيد أن هذا ليس كافياً إذا لم تكن هناك ذات عارفة ومثابرة ترتوي بالجديد والمفيد والمدهش والمفارق أيضاً، وهكذا تتكون الشخصية النقدية في ضوء مرآة الآخر الذي ينظر ويتأمل ويستطيع التقييم ووضع هذه الذات في موقعها الصحيح وعلى الناقد الأكاديمي الإستجابة السريعة للمتغيرات وتصحيح المسار بما يلائم المكانة لكي يكون الناقد مبدعاً من صنف آخر يتقدم المنجز في كثير من الأحيان في ضوء ما يصنعه وإضاءة عتمة الأشياء والظواهر والتجارب. وعند هذا تتماهى الموهبة مع الخبرة والمثابرة في فضاء واحد تحيله الموهبة بمختلف مسمياتها الى شيء متحقق يمكن النظر إليه باحترام من قبل الآخر.ألم تكن القصائد بشكلها الكتابي وايحاءاتها الصورية أشبه بلوحات تشكيلية، لماذا لم تشتغل نقدياً على الشعر وبقيت تدور في فلك النصوص البصرية؟طبعاً . هناك علاقة وطيدة بين الصورة الشعرية والصورة الرسومية، وبالإمكان الكتابة عنها طالما يمتلك الناقد آلياته النقدية. وقد كتبت مرات عدة عن القصائد المغنّاة لشعراء عراقيين وعرب منهم (مظفر النواب، وناظم السماوي، وعريان السيد خلف، وزامل سعيد فتاح، وجبار الغزي) وغيرهم من شعراء الأغنية، فضلاً عن ملاحقة مجاميع شعرية للشعراء (صقر عليشي، ومهدي القريشي، وعلي شبيب ورد) وغيرهم أيضاً وهي دراسات تحفل بالكثير من الإلتماعات الجمالية، كما فزت بجائزة النقد القصصي عند مشاركتي بالمسابقة التي أقامها الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2007مع نقاد وقصاصين مثل ( جميل جاسم الشبيبي، ومحمد سعدون السباهي) وبهذه الحصيلة فإن ترسيخ منهج لتفكيك الصورة الشعرية ممكنة، ولكن سعة الإشتغال وتعدد الاختصاصات والمهام الثقافية، حالت دون التواصل مع هذا الجنس الفني، وبالإمكان العودة إليه كل مرة إذا إقتضت الضرورة لذلك.قرأت وأشرفت وناقشت الكثير من الرسائل والأطاريح. ماذا أعطتك هذه الرحلة؟إن المناقشات والإشراف والقراءة كلها تصب في تكريس الثقافة الخاصة في ضوء الإخلاص للوظيفة الأكاديمية التي تنفتح بالتأكيد على الممارسة العملية في الرسم والانفتاح المعرفي أثناء القراءة سواء كنت مشرفاً أو تدريسياً أو مناقشاً لأنها تصب في تطوير تلك الحصيلة. وعبر هذه الرحلة ستضاف معارف أُخرى لأن كل مناقشة لها تبويبها المختلف وموضوعها المفارق أيضاً إذا ما أردت على الصعيد الشخصي استمكان مواضع القوة في هذه المدونات العلمية، فضلاً عن الحوارية القائمة بين الاستاذ المناقش والطالب بما يغني التجربة ويضيف إليها لتتطور عبر الزمن إزاء هذه التراكمات وتعد جزءاً من الخبرة على مستوى التقصي أو حتى على صعيد الأُسلوب للمناقش والطرح المنهجي والعلمي المحبب. ولذلك كانت بعض المناقشات درساً معرفياً بوصفه إضافة نوعية في ضوء هذا الجدل المفضي الى نتائج جديدة. ولعل بعض المعرفيات تصبح بديهية أمام الخبرة والتجربة التي يتلقاها من هذه الفعالية وتأكيد هيبة الدرس العلمي وشخصية الأستاذ. وبالتالي منحتني صحة التشخيص وصواب المعلومة لأنها ناتجة من كل هذه المتبنيات المعرفية التي تتحقق بنظرة المؤسسة والآخر الى جهود الأستاذ الذاتية ومحاولة فصلها عن المحاولات الأُخرى.أين تجد نفسك، في النقد أو في الرسم، ام التدريس والمتابعة الأكاديمية؟أعتقد هذه المهام جميعها تصب في مسار واحد وتؤدي النتيجة ذاتها، ولكل منها جماليته الخاصة ومرموزاته الروحية التي تتسق مع الإبداع إذا إرتبط بالفعالية المعرفية والإبداعية. فمن الممكن أن يكون الدرس الأكاديمي بمثابة درس نقدي إذا إمتلك التدريسي عدته النقدية وتطبيقاته على تخصصه الفني، فينتج عن الدرس مادة نقدية تلاحق تجربة أو ظاهرة فنية في الخط العربي أو الزخرفة أو الرسم، وقد حدث هذا كثيراً، كما الدرس العملي ممكن أن يتحول الى مختبر تجريبي وانتاج لوحات فنية أصبحت جزءاً من التجربة الجمالية، كما إن التعالق بين النظري والعملي قائم وممكن جداً، بحيث النظري يدفع بالجانب الشكلي والعملي الى الأمام في ضوء كشف الممكنات الجمالية داخل المتحقق الفني. ولذلك فإن هذا التداخل قائم ومتشاكل بشكل كبير ولا يمكن انفكاك أحدهم من الآخر. لكن بفعل الظروف المحيطة بنا في المشهد الثقافي أنا الآن أقرب للممارسة النقدية ومخلصاً لها، لأنها قائمة على كشف المسكوت عنه في التجربة الجمالية وحفظها من خلال التوثيق.
*- نشر الحوار في جريد الاتحاد الثقافي .. العراق – بغداد