كلمة رئيس التحرير
لعل من أهم المعضلات الجديّة التي تواجه صنّاع الفكر والثقافة والإعلام والصحافة ، هو البحث عن عنوان وما يحمله من تحديات ونوازع متناقضة تجعل البدائل المتاحة أشبه بلعنة الوصول إلى العنوان الأمثل .
العنوان ثريا النص حسب جاك دريدا، وهو أيقونة مهمة وكشّاف وفنار لهتك عذرية وأسرار المتون، لذا على المنتج أن يكون موفقاً جداً والى حد معقول في العثور على هذه الثريا، التي ربما تخضع إلى مستويات متعددة من التلقي للنص عموما والعنوان خصوصا .
إذا كان العنوان لنص فردي يحمل مثل هذا الأرق للمُنتج الإعلامي الثقافي والجمالي والفكري عموماً ، فما بالنا بعنوان مطبوع صحافي أو منصات إعلامية ،وفضائيات وسواها ؟؟
البحث عن عنوان لمجلة تتعلق بموضوعات فكرية، ثقافية، فنيّة، جمالية شاملة، يحتاج إلى قبول شكلي يتعلق بالاسم غير المكرّر من الجهة الرسمية التي تُعنى بقبول هذه المجلات لتعطيها الحق القانوني في حمل هذا العنوان ، وهنا تبدأ محنة التشابه الغريب في العناوين .. لكننا في مشروعنا الإعلامي الجديد غير مأسورين في لعبة التشابه الشكلي أو الصوتي أو الأبجدي مثلا ، كنّا نبحث عن أفق أعلى من الأبجدية والعناوين المتشابهة والمفارقة والغريبة ..
نحن أمعنا البحث في العنوان واستعنا بعدد من المقترحات التي أغرت ذائقتنا الخصبة في الاختلاف والمغايرة .. لذا كان القرار اختيار عنوان المجلة ” ألف ياء”، وهنا تعرضنا إلى جملة من التماهي في الذاكرة العراقية تحديداً بوصفه قريبا من عنوان مجلة عراقية مهمة كانت تصدر في العراق بعنوان ” ألف باء”، وهذا التقارب في المبنى الظاهري قد جعل البعض يحذرنا من الوقوع في فخ التشابه أو الفقر في اختيار عنوان يليق بمشروعنا التجديدي في حقل الصحافة والإعلام فكريا وثقافيا وفنيا وجماليا شاملا.
من أهم المعضلات التي رفعت عن كاهلنا في تجاوز الفرق بين عنوان ” ألف باء” كإشارة إلى الأبجدية، وبين ” ألف ياء ” بوصفه إشارة إلى آفاق لا حدود لها في العمق والشمول، وبما إني كتبت في جريدة ” الزمان ” العراقية الصادرة في لندن لسنوات أعمدة أسبوعية ومقالات ودراسات وسواها ، فقد ذكَّرني مشكورًا الدكتور الناقد حاتم الصكر إلى وجود ملحق في ثقافية الزمان بعنوان ” ألف ياء”.
هنا يبدو أن “الحافر وقع على الحافر “، ولا مناص من الخروج من جبة الصحافة اليومية وطروحتها وأهوائها في العنونة وحسب مزاج إدارة تحرير حقولها المختلفة، فقد اخترنا ” ألف ياء” عنوانا لمجلة ستكون أيقونة ماثلة وثريا لأفقٍ وعمق فكري شامل. ألف ياء.. ليست نزوة فقط في الدخول في مفهوم التناص كجراحة تجميلية للخروج بعنوان من معاطف سابقة لان “الخمرة الجديدة لا تحفظ في زق قديم” .
مجلة “ألف ياء” مشروع تنويري جمالي يتخطى التوصيف في المبنى والمعنى ، يتخطى التشابه الأبجدي ، يتخطى الموجهات الآيديولوجية والدوغما السائلة ، التي تنخر في العقول لنشر خطاب مهمين بغزارته كمفهوم “القطيع” ويبشر بحيازة “حناجر القطيع” لتصّدر مشهد “المواء” على حسب الموضة ودرجة مقبوليتها وفق سلّم المشهد المهيمن على دور الصحافة والإعلام في العماء الجمعي “.
مجلة ” ألف ياء” مشروع إعلامي طموح لا تختصره أبجدية ولا تكرره تناصات في مبنى مجلة سابقة أو ملاحق ثقافية لجريدة لا تتخطى الزمان بوصفه ” زمانية كبرى” ألف ياء مشروعنا الأثير، الذي يضمن للقارئ حقه في النقد والمشاركة الفاعلة في النقد البنّاء ، والقراءة الواعية لإنتاج مطبوع فكري وجمالي شامل، لا يهيمن فيه خطاب المؤلفين ولا إملاءات الممولين ولا الداعمين.
“ألف ياء” هي المشاركة الفاعلة والواعية لإنتاج خطاب إعلامي بعيد عن روح الهيمنة والنمطية والنسخ، خطاب يضع الكاتب والقارئ في حلقة للجدل وتبادل الآراء وليس بموقع الطالب والتلميذ ولا الشيخ والمريد.
“ألف ياء” مشروع يستمد مشروعيته وحيويته ومصداقيته ومهنيته من خلال التفاعل والمشاركة والمكاشفة بين أطراف المعادلة المهنية ” الكاتب ، القارئ ، إدارة المشروع إعلاميا وتقنياً، فضاء الاتصال “. لا وعود ولا شعارات ..
” ألف ياء” مشروع جمعي يأمل أن يكون وبقوة، إضافة نوعية لمسيرة الصحافة والإعلام والفكر في كل مكان حيث يوجد القارئ المنتج والكاتب الملتزم والمبدع.
نحن نسعى لخلق فضاءات للحوار الإنساني مع الآخر المختلف، وتجسير هوة التقاطع، وبناء أسس واضحة متينة وعادلة لضمان حرية الفكر في شتى الحقول الإنسانية ” فكرياً ، فنيّا ثقافيا ، ومجتمعياً”، صار لزاما علينا فتح منبرٍ حرٍ لتبني هذه المشاريع، وإثراء المكتبة العراقية العربية برافد جديد، ووليد يحمل صفات نضجه وتحرره وشجاعته في مناقشة أكثر القضايا حراجة بدءاً من السائد القار، وليس انتهاءً بأكثر المسائل خلافية وحرمة في أبواب الفكر والدين والثقافة والجنس والفن والآداب والعلوم والفلسفة والجمال في أعظم تجلياته الروحية والمادية. إن أهم مبادئنا المركزية الانتصار للحوارية الإنسانية، واحترام معطياتها الفكرية بآفاق مفتوحة للجدل المعرفي، إذ اننا سنخضع كل ظاهرة للبحث والمناقشة ولا نستثني أمرا، وليس لدينا خطوط حمر ولا تابوات، نناقش الطروحات بروح المسؤولية منطلقين من احترام الذات الإنسانية ونتاجها بغض النظر عن التوافق والاختلاف، لأن الحوارية الإنسانية تعني رسم صورة للثقافة بمفهومها العام وليس اجتزاء مشاهد مخصوصة للانتصار لهذه الفكرة أو تلك.
إن مجلة ” ألف ياء” مشروع إنساني، فكري، جمالي، ونافذة حيّة لكل العقول المبدعة دون تمييز أو انحيازات مسبقة، نعم إننا ننتصر للفكر الإنساني الحر الذي يدعو للمحبة والسلام والتعايش السلمي بين أبناء المجتمعات في أوطانهم المختلفة في كل المعمورة، وننبذ العنف ونثقف ليس لوأده بالقوة العسكرية بل بتجفيف منابعه الفكرية دينيا وفقهيا واجتماعيا وإنسانيا وقانونيا وأولا جمالياً .ً ندافع عن هذه الحرية بما يدفعنا للاتفاق مع مقولة ” أنا اختلف معك في الرأي ولكني مستعد للدفاع عن أفكارك حتى الموت “.
الإصرار على الحوار وتفهم الآخر لا يعني الوقوع في خانة الميوعة والتهادن والتخادم، بل سنكون بالمرصاد معرفيا وتاريخيا وجمالياً، لمناقشة الأفكار وردها إلى مرجعياتها مع إعطاء حرية الرد دون السماح للوقوع في دائرة التهريج والتشنج والهبوط في مستنقع الرطانة فكريا وأخلاقيا.
مجلة “ألف ياء” مشروع تنويري لا يكتسب مشروعيته إلا من خلال وجودكم الفاعل ومساهماتكم الجمالية والفكرية.
لسنا نباتات فطرية لا أصل لها ولا جذر، ولا نزعم هذا، لدينا خلفياتنا الفكرية التي تدعو إلى عالم بلا دماء، عالم بلا موت مجاني، بلا حروب دينية، بلا مجاعات، بلا اضطهادات، بلا مصادرات، بلا جفاف روحي، بلا انهيار قيمي وجمالي، بلا خنوع وعبودية، بلا تمييز عنصري، بلا تكامل مجتمعي بين الرجال والنساء، بلا تخريب بيئي منظم بلا خراب شامل. بلا تدجين في أفلاك ومدارات مركزية مهيمنة.
ألف ياء، مائدة لبحّارة يجوبون الكون بشهية المغامر وإيمان العاشق، ونحن مع كوجيتو ديكارت “أنا أشك .. إذن أنا موجود” الشك الطريق الشائك للوصول إلى ثمرة الحقيقة وليس إلى نهاية السؤال، الشك الموغل في الدهشة للإشارة، وأفقيا مع الأرض، هذا التشكل المتقاطع الذي تنتجه المعرفة ولا يتقاطع مع صوت الروح وجمال الحياة.
وحين الإمعان في السؤال عنا، فنحن قافلة الحياة بشكلها المتعايش المتلاقح المشترك في صياغة خطاب السؤال بكل براءة وشك ومعرفة معا. الجمال هويتنا ، والمعرفة مظلتنا ، والسؤال هيامنا الأكيد .. لا يقين في مزرعة الروح.