فاطمة المحسن
كلما عدت بذاكرتي إلى البصرة، يحضر أمامي محمود عبد الوهاب، هذا الرجل الذي يأسرك من أول لقاء،
فشخصية أدبية وإنسانية مثل شخصيته تبقى ساطعة الحضور في الذهن. ومن بين كل الأصدقاء بقيت بيني وبينه حوارات عبر التلفون إلى سنواته المتأخرة، فيمر الوقت وانا استمع إلى حكاياته عن جيله في العراق تتخللها لحظات من المرح حين ينثر قفشاته ونكاته عنهم وعن الحياة الأدبية وحتى عن نفسه.
ليس مثل محمود عبد الوهاب من حوّل الأدب إلى محض حياة تُعاش على نحو حضاري، فيها من النُبل والترّفع والمعرفة،
قدر ما فيها من التخفف من بهرجات السلوك الذي يحف بكثير من الذين دخلوا المعترك الأدبي.
لعله ما تبقّى من جمال وعزّ البصرة وصيتها الذي جاب الآفاق، بلد السندباد الذي تنطلق منه مراكب العراق إلى أصقاع الأرض،
وينتسب إليها التاريخ محض بداهة تبدأ بأخوان الصفا والمعتزلة والجاحظ، ولا تنتهي عند السياب وصحبه.
حاورت محمود عبد الوهاب مرة بين جمع من الأصدقاء، وكانت أصواتهم تتقاطع مع صوتينا، فكان الحوار أقرب إلى لعبة نتقاذف فيها كرات الأسئلة والأجوبة، حول الأدب وأدباء البصرة من جيله : السياب، البريكان، نجيب المانع، وسواهم. قلت هل أنشر هذا الكلام؟
قال لا فأنا لا أرغب في الحوارات المنشورة. ولكن أقواله منحتني فكرة عما يعنيه الذكاء والاعتدال في حياة البشر،
أن تكون شديد الحساسية كي تلتقط إشارات العالم وهي تنتظم في وجدانك وعقلك في برهة أو هنيهة، أن تملك الفطنة والدقة من خلال جملة واحدة كي يفهم المقابل تلك الظلال الخفية التي تكمن في شخصية او قضية تمر في قوله. ولم يكن هذا الحال بمنأى عن قصصه التي قرأت،
فهي تسجّل اختلافاً في مزاج القص وما يريد القاص قوله. لعله يهبك انطباعاً كما لو أنه لم يأخذ القضية، قضية نشر القصص،
مأخذاً كما الآخرين، فهو يغربل العالم كي ينزع عنه تخمة الأقوال. يرى موقعه كسارد في الزاوية البعيدة،
محض وصّاف ينظر إلى جزئيات المشهد كي تقول الأشياء نيابة عنه ما تشاء . ينتزع شخصياته من موقعها في دراما الحدث،
بل لا يرى الحبكة أو ما يسمى مصيدة القارىء، سوى شيء نافل. يرقب الشبابيك والجدران والصور،
وحركة العين وهي تتابع عالما لا تنتمي إليه، بل تكتشفه للتو وهو في ورطة وجوده. امرأة ورجل يعبران الشارع،
يرقبهما البطل من موقع بعيد كل يوم، يلتقيان ويتقاطعان في موعد أو بالصدفة، ولكنهما يختفيان مثلما ظهرا كما يحدث في الشارع كل يوم،
دون أن ينفعل المراقِب أو يرثي لهما أو يتعاطف معهما.
الانتظام الداخلي لعوالمه الوصفية يتكون من رابط تجتمع فيه الترديدات البعيدة للأشياء العادية والمألوفة،
وهي تكتسب القدرة على التفاعل داخل لوحته. تخطيطات عوالمه تشذّب العاطفة ولا تستبعدها،
بل تغربلها عبر حساسية ثقافية تنأى بنفسها عن فكرة المشاركة مع القارىء العادي،
على عكس ما يطمح إليه الكثير من القصاصين. فمحمود عبد الوهاب يبدو وكأنه يكتب لنفسه،
أو لنخبة تربطه معها شيفرات خاصة، محض تعالٍ يسجّل فيه المؤلف ابتعاده عن ملمحين تميز بهما أدباء جيله وحتى الجيل الذي لحقه: الاهتمام بالبعد الاجتماعي ، وبديباجة الأسلوب سواء كان كلاسيكياً أو رومانسياً او ما يسمى حداثياً.
” تراءى له الشارع من شرفته، في الطابق العاشر، بساطاً يزحف ببطء نحو الجهة الآخرى. كأن يداً لا مرئية متوجسة ومتئدة تسحبه إليها. حافلتان بلون برتقالي وثلاث سيارات أو أربع، ونساء ورجال وصبية مدارس ودراجة هوائية نزقة تخرق انتظام هذا السرب. يسحبهم البساط جميعا ليغيّبهم في مساحات محتشدة، في مساحات فارغة، في أزقة منفتحة على خرائب ” لماذا يصوغ لهذه القصة عنواناً غريبا « طقس العاشق» فبطله العجوز لا يرقب سوى الشارع أسفل البناية ليعود إلى غرفته، حيث « كان الكتاب وقدح الشاي ومضربة الذباب والمنديل الداكن في أماكنها أمامه “
لعل الوصف في الكثير من قصصه يقتنص الزمن في حركته وسكونه، وفي نقصان تحقق الفعل فيه. انه الوعي بالخديعة أو المفارقة التي يضمرها الإحساس بأفول محتوم ينتظر الخبرة الإنسانية ليمحقها..
في قصته « سيرة» يسترجع البطل حركة الزمن من خلال توقفه، فهو يتتبع مصائر من ظهروا في صورة تركها أخوه الأعمى وهو يغادر وصحبه عالماً ضاجاً بالحياة. يلتقط المآلات التي تسير عكس التوقعات، الأخ الذي تلتمع عيناه، والأصدقاء الذين انتهوا على غير ما كانوا عليه،
ولكن الزمن المتخيّل للصورة نفسها تجعلهم يتحركون خارجها : « يواصلون سيرهم مع المارة، يهزون رؤوسهم ويلوّحون بأيديهم، يعبرون الجسر،
يدخلون المخازن، يخرجون منها، يبتعدون حتى تبدو رؤوسهم كرؤوس الدبابس». لعله غير مكترث بما يكون للفعل من قرائن تدل على صاحبه،
قدر اكتراثه بمنطق التقاطع في الأزمنة الداخلية لسارده، زمن النظر المجرد وزمن الرؤيا، حيث يكمن فعل التخيل.
في المستشفى يرقب البطل المرضى، وبينهم من يمثل على مسرح الحكاية، ثلاث شخصيات : أحدب وامرأة وبدين يضلع بمشيته،
توزعوا على جثة قريبهم. يبدو الناظر في موقعه، السرير المقابل، وكأنه يستحضر وقتين، وقت المريض المرتحل،
ووقته هو كشاهد. ذلك الالتباس بين الموقعين، يعيد ترتيبه في مكان آخر، نوع من التقاطع بين حياته التي تومض مع ذاكرة حب يحاول استرجاعه عندما كان في بلد غربي، وبين حياته الأخرى التي انتهت إلى سرير بمستشفى في العراق. ولعل هذا النص من أجمل ما كتب محمود عبد الوهاب.
وسنجد في كل قصصه ان الحب هو النقصان الذي لا يتحقق، حتى ولو كمن في مكان بعيد، فأنثاه المعشوقة التقاها في كونسرتو أو مطعم أو باص في بلد ثلجي. غير أن استعادة صورتها لا تشعره بالخذلان، فهي شأنها شأن الحياة، ينبغي معاينة إيقاع التجربة المدركة من خلالها،
كي نمسك بزمنها النفسي او ايقاعها الداخلي.
الوصف كما في قصص محمود عبد الوهاب يعني البصيرة، هو إبلاغ يهيمن فيه حضور المكان،
فحاسة البصر تنقّب في تفاصيله لتصرف القارىء عن واقعية تحل بديلها رغبة تجريده من حكاياته التي درج القصاصون على تتبعها.
فالمكان الموصوف يبقى على مبعدة من سارده، حتى يخيل إليك كقارىء أن المؤلف لا يجعل فكرة الانتماء إليه من بين اهتمامه،
فهو محض موضوع يكتشفه كما يكتشف السائر على غير هدى موقع قدمه..
هل كان محمود عبد الوهاب مغتربا عن زمانه، أو هو جزء من ماض رحل برحيل أهله؟
فمحمود الشيوعي في الخمسينات،والأنيس وصاحب النكتة والقارىء الذكي والرجل المسالم والحييّ،
يمثّل زمناً يصعب الإجابة عن أسئلته، فقد شهد مثقف مثله، تحولات الأقدار في مدينته البصرة،
ولم يعد مكترثاً بما يأتي به الغد. عاش ليلعب بنرد الوقت، دون متسابقين ولا نظّارة ينتظر منهم تصفيقاً او هتافا .ً.