حوار مع  الكاتب اللبنانيّ الدّكتور عليّ عارف نسر

شارك مع أصدقائك

Loading

حاورته ميادة سليمان

 

 

 مقدمة

عليّ نسر من صور في لبنان

حائز على الدّكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها.

حائز على رتبة أستاذ بروفيسور من الجامعة اللبنانيّة بعد تصنيف عدّة أبحاث له.

لديه عدّة أبحاث ومقالات منشورة في صحف لبنانيّة وعربيّة.

مُشارك في العديد من المؤتمرات، والنّدوات، والأمسيات الشّعريّة، والمحاضرات الأدبيّة.

كُرّم في مصر عام ٢٠١٩.

لديه كتاب نقديّ حول الشّعر بعنوان:

(في شعريّة القصيدة العربيّة من الجاهليّة حتّى التّغريدات الفيسبوكيّة).

منحني الدّكتور عليّ نزهة أدبيّة جميلة بقراءة مؤلّفاته الأخرى، وهي:

ديوان(وطن تنهّد من ثقوب النّاي)، ورواية (وادي الغيوم)، وكتابه النّقديّ(الرّؤية إلى العالم في الرّواية العربيّة)، هذه المؤلّفات أثارت لديّ عدّة أسئلة، فاقترحتُ أن يكون هذا الحوار:

– (وطنٌ تنهّدَ من ثقوبِ نايٍ) عنوان جميل لمجموعتك الشّعريّة الأولى، لو قرأتَ الكتابَ كناقدٍ، وطُلبَ منك إعطاءُ رأيَينِ:

رأي إيجابيّ، وآخر سلبيّ، ماذا سيكون الرّأيانِ، وهل من مجموعة ثانية قريبًا؟

ـ مجموعة “وطن تنهّد من ثقوب النّاي” هي عملي الإبداعي الأوّل، وكانت قصائده منتقاة بتأنّ، إذ رفض جدول الكتاب العديد من القصائد الأخرى التي حاولت الاقتراب من ضفّتيه، لعدم قدرته على هضمها وخوفًا من عرقلة سير جريان الماء.

وهذا إن دلّ على شيء، فهو يدلّ على أنّني لم أستطع تنحية الناقد المتغلغل في داخلي، ولأنني ناقد، فإنّ رأيي في المجموعة، بعد مرور نحو تسع سنوات على ولادتها، ذو رأسين:

فمن الناحية الإيجابيّة، فإنّ الديوان استطاع أن يكون وعاء فاض بما اختزنته من مشاعر وأحاسيس كان لا بدّ من دلقها في مرجل إبداعي كي لا تقتلني، فشكّل الديوان مصدر حياة…

أمّا من الناحية السلبيّة، فإنّ هناك صورًا شعريّة والتزامًا ببعض قواعد العروض، سواء في القصيدة العمودية أم التفعيلية، سيّرتني أكثر ممّا سيّرتها فدخل فيها التصنّع أو الصناعة المبالغ فيها… وليس في الأفق من مجموعة جديدة، علمًا أنّ هناك العديد من القصائد كتبتها بعد إصدار الديوان، وهذا يعود إلى موقفي من الشعراء، إذ رأيتهم، عبر مقال كتبته في صحيفة، رأيتهم نرجسيين متعالين فوق واقع الناس الذين يتحدثون عنهم، وهذا لا يعني أنّهم يتحمّلون مسؤولية ذلك، بل ما فرض عليهم من لغة شعرية مترفعة، جعلهم يحلّقون عاليًا فوق المرتفعات ما أدّى إلى اتّساع الهوّة بينهم وبين المتلقّين، فيشترطون على اللفظة بأن تنسى أصولها إن أحبت أن تأتي إلى غرفهم الخاصة، فيجمّلونها ويلبسونها أجمل الأثواب، شريطة أن تعود عذراء وهذا ما عبّر عنه كبار الشعراء كأبي تمام ورشيد ايوب وتوفيق يوسف عواد في تجاربه الشعرية القليلة.

من المجموعة ذاتها تقول في قصيدة “على صهوة السّفر” الّتي لمستُ فيها نفَسَ محمود درويش:

لم تتركِ الأيّام في حقلي سوى تنهيدةِ الأغمار

يا دمعةَ الأقلامِ في شِعري أغيثيني

نغمة الحزن في القصيدة هل هي حزن العربيّ بسبب واقع متأزّم، أم هي امتزاج الهمّ الفرديّ -لرغبات لم تتحقّق- بالهمّ الجماعيّ؟

كما تقولين، فإنّ نفس “محمود درويش” كان حاضرًا في هذه القصيدة وغيرها، فهو من الشعراء الذين تأثرت بهم كثيرًا، قناعة منّي بأنّ الشاعر أو الكاتب عمومًا، يكتب ما يتلقّى ويقرأ، فهو القارئ الأول للنص قبل ولادته. أمّا بالنسبة إلى الحزن، فإنّ هناك عوامل عديدة تجعل عجينة القصائد مجبولة بصلصال من الوجع والهموم، وهذا يعود إلى الحقل المعرفي واللاوعي الجمعي الذي يحرّكنا شئنا أم أبينا. فنحن، ومنذ الأطلال، نتوكّأ على عصا الفراق والغربة والحنين والنفي والموت، ننتشي بالألم أكثر من الفرح، نبحث عن الهزيمة أكثر مما نشتهي الانتصارات، وكأنّ في دخيلتنا رغباتٍ نسعى إلى تحقيقها سيرًا على رؤوس الحراب وبين حديّ الخنجر.

تقول في حوار سابق لصحيفة البناء:

القصيدة لصاحبها أوّلاً، بينما الكتابة النّقديّة والبحثيّة للقارئ أوّلاً، وعليها مسؤوليّة الحفاظ على الأمانة الموجودة بين يدي الكاتب”، أوافقكَ من حيث أنّ النّقد للقارئ أولاً، ولكن القصيدة مكتوبة للآخَرين أيضًا، وكانت سابقًا “ديوان العرب”، فكيف يمكن أن نقول إنّها لصاحبها أوّلًا؟

القصيدة مكتوبة للآخرين، وهذا لا خلاف حوله، لكنّني في الحوار قلت:

إنّ القصيدة لصاحبها أولًا، ولكن هذا لا يعني أنّها ليست للمتلقّين المنتظرين خارج الدار ليروا سمات الحمل والولادة، ولكن هي لصاحبها أوّلا، لأنّه المتلقي الأوّل، والمترجم الأوّل، يفرغ ما يودّ قوله لنفسه كحالم لا رقيب على منامه، وبعدها يأتي القارئ العام، فالمادّة الخام يتلاعب الشاعر بها ليرضي نفسه بدايةً، ويستفيد الآخرون ثانيًا، كمن يقوم بعمل خير ليكسب ثواب الله أولا، والمستفيد من تلقّى عمل الخير يأتي بعد ذلك، فالأساس هو ضرب من ضروب العبادة التي تأتي بالمصلحة الذاتية ثمّ ينتفع بها الآخرون. في حين أنّ النصّ النقدي للآخرين أولّا لأنّ الناقد لا يتحدّث عن نفسه بل يتناول مواد بعيدة منه وإن كان من المحال تغييب الذات كليًّا في النّقد أيضًا.

،من روايتك (وادي الغيوم) أسألك

هل كلّ شخصيّات الرّواية من خيالك، شعرتُ أنّ (مرامًا ويوسفَ) لهما وجود حقيقيّ في الحياة على عكس باقي الشّخصيّات، وبالنّسبة لبطلَي روايتك المقاوِمَين:(يوسف غير المكترث بالنّواهي الدّينيّة، وصلاح المتشدّد دينيًّا)، لمَ انتابني شعور كقارئة أنّك متحيّز ليوسف على الرّغم من استشهاد صلاح في سبيل القضيّة؟

شخصيات رواية وادي الغيوم خياليّة، ولكن يكذب من يقول بأنّ أشباح شخصيات من الواقع لا ترافق قلم الروائي وهو يرسم أبطاله، بيد أنّ الشخصية الروائية الواحدة ينبغي أن تكون اختزالًا لعشرات الشخصيات في الواقع حتى لا نقع في منزلق السيرة أو التأريخ وعلم الاجتماع، وكذلك الحال بالنسبة إلى الزمن والمكان، إذ تتقلّص المسافات بين الأمكنة والشخصيات والأزمنة حتى الذوبان الذي نراه في مناماتنا.

يوسف وصلاح ومرام وشخصيات أخرى، كلّها تتصارع في داخلي، لذا حاولت توزيع الأدوار متواريًا خلف ستارة المسرح أحرّك الشخصيات بخيوط رفيعة، ووفّقت بنسبة عالية وإن كان معظم من يعرفني يتّهمني بأنني أقرب إلى يوسف، علمًا أنّني وفّرت لصلاح بفلسفته الدينية حيّزًا من المعلومات والحجج التي أسكت بها خصومه في الفكر والنقاشات. فيوسف جانب مني وصلاح كذلك، والاثنان مقاومان ويمكن أن نتّخذهما نموذجًا للعيش المشترك بعيدّا من التطرّف والإلغاء.

انتحار (صباح) في آخر الرّواية، ربّما يقول القارئ إنّه غير منطقيّ؛ فهي بعد انكشاف حمْلها طلبت المسدّس لتطلق على نفسها النّار كي لا تؤذي والدها الّذي سيقتلها بإلحاح من أخيه، كان بإمكانها الهروب- وهذا ما تمنّاه أهلُها- فلمَ لم تفعل، عدا عن ذلك لمَ يُفتح قبرُها بعد مضيّ ثلاثة شهور على وفاتها من أجل التّحقيق، فكلّنا يعلم أنّه في حالة الوفاة هناك تقرير طبيب شرعيّ، ولا سيّما أنّها وفاة ناجمة عن طلق ناريّ؟

انتحار صباح في الرواية ليس بعيدًا من المنطق، وإن ابتعد من المنطق العام فهذا يؤكّد فنيّة الحدث السردي، إذ ينبغي أن يكسر الروائي الواقع ويعمل على الانحراف عنه حتّى يُمنح العمل الروائي شهادة فنيّة. فكل حدث نحسبه بعيدًا من المنطق الواقعي يؤكّد الفنيّة، لأنّ نقل الواقع ينبغي أن يكون عبر انزياح كانزياح اللغة الشعرية عن معيارية القواعد الصنمية المقولبة. أمّا فتح القبر بعد أشهر، فهذا يعود إلى ما كان الناس يتناقلونه مقتنعين به، وهو أنّها لم تنتحر بل والدها هو الذي قتلها، فكان لا بدّ من إعادة التحقيق، والدليل أن أباها انتحر لحظة فتح القبر مرددًا أنه هو الذي قتلها فتغيرت نظرة الناس إلى الحدث، حتى أنّ أبا رياض لم يكن يعرف أنّها انتحرت بعد أن سمع أبا يوسف يقول أنا من قتلها قبل إطلاق النار على رأسه، وإن لم يكن هذا من المنطق الواقعي، فهو من المنطق الفنيّ السرديّ، لأنني من المؤمنين بأنّ النص ينبغي أن لا يكون انعكاسًا تعسّفيا للواقع بل عبر التلاعب بمنطقه وقواعده.

— (الرّؤية إلى العالم في الرّواية العربيّة)

عنوان كتابك النّقديّ، ما سبب اختياركَ الكاتبَين (حيدر حيدر، وجبرا إبراهيم جبرا) لتكون دراستك النّقديّة عنهما، هل لأنّهما كما ذكرتَ في مقدّمة كتابك:

؟من الأدباء النّاقمين في أدبهم على الواقع العربيّ… والمحاولَين إيجاد حلول له..”

اختيار جبرا ابراهيم جبرا وحيدر حيدر للدراسة في كتاب الرؤية إلى العالم في الرواية العربية، فرضته طبيعة المنهج الذي اعتمدت، وهو منهج البنيوية التكوينية لغولدمان، وهذا المنهج يحتّم أن نكون أمام رؤية مشتركة بين الكاتبين، كما فعل غولدمان حين أرجع باسكال وراسين إلى رؤية واحدة. فقرأت حيدر حيدر إبداعًا أوّلًا، وقرأت حول جبرا بعض الدراسات والمقالات فشعرت أنّهما متشابهان ولهما الرؤية نفسها، ولكن حين تعمّقت بقراءة أعمال جبرا الإبداعية، تبيّن لي العكس، إذ إنّ الكاتبين غاضبان على الواقع أو ما يعرف بالوعي القائم، لكنّ طريق الخلاص وما يعرف بالوعي الممكن، مختلفان حتى التناقض، فجبرا خلاصه لصالح الطبقات البورجوازية بينما حيدر لصالح الطبقات الشعبية، وأعتقد أنّ هذا الاستنتاج هو أبرز ما جاءت به الدراسة من جديد (والكتاب هو جزء من أطروحة الدكتوراه مع زيادة عشرات الصفحات بعد تسع سنوات من المناقشة).

 – “هل انتصار معظم أبطال (جبرا) في نهاية المطاف، وإخفاق أبطال(حيدر)” كما تقول له علاقة بطبيعة الكاتبَين من حيث (التّفاؤل، والتّشاؤم)، أم من حيث البيئة، أم هو نهج أدبيّ بحت اختارهُ كلًّا منهما ليتميّز به؟

إنّ الجواب عن هذا السؤال يمكن العثور عليه في الإجابة عن السؤال السابق. فانتصار شخصيات جبرا يمكن ردّها إلى ما استقاه الكاتب من رؤى غربيّة نتيجة إقامته في الغرب والتأثر بتلك الثقافة، في حين أنّ شخصيات حيدر شكّلت مرآة لأبطال مأزومين إشكاليين عكست مرحلة حساسة من واقع الأمّة العربية، مرحلة من الانكسارات وتحطيم الأحلام والانتكاسات دفع ثمنها المثقّف الحالم أوّلًا.

تقول عن رواية (السّفينة) لجبرا:

سرّ الوجود يُظهره جبرا على لسان (وديع وفايز)، الصّبيّين الصّغيرين عبر نشيد دينيّ ممّا يؤكّد أنّ هذا كلام الكاتب نفسه، إذ لا يمكن أن يخوض صبيّان لم يتجاوزا الرّابعة عشرة من العمر في فلسفة الوجود”، هل تقصد أنّ جبرا لم يأت بحوار يناسب عُمر الشّخصيّة، وهل تصلح الشّخصيّات في عمر صغير لإيصال رسائل فلسفيّة وجوديّة؟

إنّ الرواية عادة أقرب إلى البحث الإبداعي لما تحويه من معلومات وأحداث تاريخية وعلمية وفلسفية واجتماعية، ربّما لا نستسيغها ونطلع عليها من مصادرها، فنتقبّلها من خلال السرد الفني أكثر. والروائي، نظرًا إلى ما يتوافر له من فرص التعبير الحر أكثر من الشاعر، عبر التهجين والأسلبة، ينبغي أن يعطي كل ذي حقّ حقّه طالما أنه قادر على ذلك وإن وصل الأمر إلى استخدام جمل ركيكة قد تكون سببًا في شعرية النص بعكس الشعر الذي تكون الركاكة مقتلًا له. وهذا يستدعي أن تحمل الشخصية ما تستطيع حمله فقط، أمّا حين يحمّلها الكاتب ما لا طاقة على حمله فنكون أمام تخمة من عظات فلسفية وأيديولوجية أراد الكاتب تقديمها ففشل في ذلك فنيًّا إذ أقحم نفسه من خلال استغلاله أبطالا وشخصيات ينبغي أن تسيّره لا أن يسيّرها هو وإن كان كاتبًا.

يقول حيدر حيدر في رواية (مرايا النّار):

المرأة في بلادنا غالبًا ما تكون دمية من البلاستيك، والدّيكور المنزليّ، والثرثرة الخرقاء”، أوليسَ إجحافًا كبيرًا هذا الوصف بحقّ المرأة من قِبل الكاتب، وهل أوجد الحلّ في روايته كي لا تكون المرأة كذلك وفقًا لقولكَ السّابق بأنّه وجبرا من المحاولين إيجاد حلول للواقع البائس؟

صفات المرأة التي يذكرها الكاتب حيدر حيدر في رواية مرايا النار، لا يتبناها الكاتب، بل يطرح نظرة المجتمع الضيقة إلى المرأة، هكذا يتعامل معها المجتمع، وحيدر يستنكر ذلك ويحاول أن يخلّصها من هذه النظرة والقيود، وأن يجعلها حرّة منطلقة ذات طبيعة نديّة للرجل. وقد نجح في ذلك حين تمرّدت البطلة على زوجها المقعد، فكان الزوج رمزًا للحياة العربية الواقفة المعرقلة طريق التغيير، وكانت المرأة رمزًا لشريحة ممن ينبغي تخليصهم من الحبس الذي ولدت المرأة خلف جدرانه وأريد لها أن تتكيّف معه وتعترف بما يصفها المجتمع به.

 في رواية (شموس الغجر) يقول حيدر:

الزّمن القادم ليس لهم، حين نخرج من دم العائلة، دم الآلهة، ودم السّلطة الجائرة نولد من جديد تحت الشّمس

أيّة ولادة قصد الكاتب، الحريّة من محتلّ غاصب، أم من عبوديّة العادات والتّقاليد؟ وكونك كتبَت عن المقاومة، برأيك متى يكون الزّمن القادم لنا؟

هذا السؤال متعلّق بالسؤال السابق، إذ إنّ الخلاص الذي يهدف إليه حيدر هو خلاص مزدوج ذو خلفية ماركسية، حيث التحرر من التبعية للخارج المستعمر، والتحرر من العبودية الداخلية التي رسمت للأجيال طريقًا لم يكن لهم فيها خيار وأثقلت الأكتاف بأحمال قديمة وعتيقة من دون مراعاة للمتغيرات التي ينبغي أن تصدّع الثوابت والقوالب الجاهزة. والزمن سيكون للمناضلين حين ينتصرون على هذه الحواجز الداخلية أولًا والخارجية ثانيًا

شارك مع أصدقائك