حوار مع الأديب الجزائرى الدكتور عزالدين جلاوجي

شارك مع أصدقائك

Loading

حاوره 

أحمد طايل

على المبدع أن يكون رسولا لثلاثية “الخير والحب والجمال”
كل أدب لا يحمل روح الثورة والرفض والتمرد والتجاوز لا يعول عليه

 

الأديب الدكتور عزالدين جلاوجي واحد متعدد، يصعب اختزال تجربته الثرية المتنوعة كمّا ونوعا وجنسا، يكتب في النقد والرواية والمسرح والقصة، ويكتب للكبار كما يكتب للصغار، يسعى أن يؤسس لمشروعه الإبداعي على الفرادة والتميز وكسر أفق التلقي، يؤمن أن الأدب رسالة أشبه برسالة الأنبياء، رسالة فنية جمالية بالأساس للارتقاء بالذوق والمشاعر، ورسالة فكرية تسعى للبناء والترميم ومواجهة قحط الأسئلة، احتضن النقد العربي منجزه الإبداعي بكثير من الاحتفاء وقدمه كواحد من الأصوات المهمة في المشهد الأدبي العربي، محاولا البحث عن أسس هذا الشروع وخصائصه، وعن علاقته بالإنسان والتاريخ والتراث والأسطورة والواقع بكل تفرعاته وتشعباته، سنحت لنا الفرصة للالتقاء به، فكان الحوار التالي:

الدكتور عزالدين هل يمكن أن تلخص لنا في نقاط مسيرتك الإبداعية والعلمية، وهي لاشك مسيرة حافلة بالإنجارات الكبيرة؟
شكرا أستاذ، يتشعب مشروع الكتابة عندي إلى ميدانين كما تفضلتَ، ميدان البحث العلمي وقد قدمت فيه أحد عشر كتابا، تنوعت بين نقد الشعر والسرد والمسرح والأدب الشعبي… وكان النصيب الأكبر للمسرح بسبب أنني أحاول دوما أن أضيء على الجزر المعتمة، ويكفي أني قدمت ثلاثة كتب عن المسرح الشعري المغاربي، وهو موضوع لم يدرس قبلي، رغم كثرة ما كتب عن مثيله في المشرق العربي، فكنت رائدا في هذا الباب وقدمت جهدا أرجو أن يكون مفيدا للمتلقين في كل الوطن العربي، وأما الميدان الثاني فهو الإبداع وقد تشعب جداوله في تجربتي فكتبت القصة وأصدرت فيها ثلاث مجموعات منها “رحلة البنات إلى النار”، ولي في الرواية إحدي عشرة رواية منها “الرماد الذي غسل الماء”، و”حائط المبكى”، و”هاء، وأسفار عشتار”، و”علي بابا والأربعون حبيبة”، و”العشق المقدنس”، كما كتبت أربع عشرة مسردية وهو شكل جديد في كتابة النص المسرحي، وضعت له مصطلحه، وحاولت أن أؤسس له تنظيرا وإبداعا، وقدمت للأطفال أربعين مسرحية وسبع قصص، وهو جهد بقدر تنوعه وتعدده يحاول أن يكون عميقا ومختلفا.
فعلا هو مشروع إبداعي كبير ومتنوع ولا شك أنه عميق، هل يمكن أن نعرف أهم مرجعيات الكتابة لديك؟
الإنسان هو المرجع الأساس في مشروعي الإبداعي، انطلاقا من محيطي الأقرب، الإنسان الجزائري خصوصا والعربي عموما، لذلك كان التاريخ والدين والموروث والواقع الاجتماعي والتحولات الكبرى، والأسطورة وحتى الجغرافيا، وغيرها مما أسس له الإنسان وما يحلم به، وما انطلق منه وتأسس عليه، هي كلها مرجعياتي، لقد عدت مثلا إلى التاريخ الجزائري وإلي ذاكرة الإنسان فيه بكل أحلامه وانكساراته وبطولاته لأكتب “ثلاثية الأرض والريح” في 1800 صفحة من 1830 إلى 1962، وعرّت رواية “الرماد الذي غسل الماء” الانهيار الاجتماعي والسياسي في المجتمع، وتعمقت رواية “حائط المبكى” الذات الإنسانية، وفي “مملكة الغراب” و”أحلام الغول الكبير” تعرية للبؤس السياسي في الوطن العربي وهكذا.
تنوع كبير وامتداد في الأجناس وغزارة في الإنتاج ما الدوافع الكامنة وراء ذلك؟
حتما هذا السؤال لا يطلب من المبدع أن يجيب عنه، لأنه يجد في نفسه رغبة للكتابة فيكتب، ورغبة في التنوع فينوع في أشكال الكتابة، ولا شك أن الغزارة والتنوع قد يكون مزية لدى المبدع، الذي يحاول أن يصل إلى المتلقي بطرق مختلفة، لأن الإبداع في تصوري موقف من الحياة، ورسالة سماوية تسعى للارتقاء بالإنسان على المستوى الفني الجمالي وعلى مستوى الرؤية، إن ملكة الكتابة رسالة سماوية وعلى المبدع أن يكون رسولا لثلاثية “الخير والحب والجمال”، وكل إبداع يخلو من ذلك يجب أن يراجع نفسه، والمهم في ارتياد كل هذه الأجناس أن نؤسس لذواتنا حتى على مستوى الشكل، ونتمرد على المركزية الغربية في ذلك، نحن أمة لها حضارتها ولغتها وأمجادها الإبداعية، ويجب أن تكون لها خصوصياتها الإبداعية التي تميزها عن غيرها، يجب أن نسهم في صرح الإبداع العالمي، ولا نكون مجرد مجترين مقلدين، .
وأنت تجرب وتتمرد في الأنواع والأجناس وفي اللغة والبنية وهندسة النص، كيف كان رد المتلقي لذلك؟ بل ولماذا كل ذلك؟
كل أدب لا يحمل روح الثورة والرفض والتمرد والتجاوز لا يعول عليه، من قناعاتي أن المبدع لا يليق به أن يكون ظلا لغيره، ولا مجترا لتجارب سبقته، بل يجب أن يضيف لصرح الإبداع لمساته المختلفة، لقد حاولت جهدي في مشروعي الإبداعي أن أقدم إضافة مختلفة عن التجارب الأخرى، كما أحاول في كل جهد جديد أن لا أكرر نفسي، ارتقاء بالمتلقي واحتراما له، بل وإجلالا لمملكة الإبداع أيضا، في القصة مثلا أعلنت التمرد ابتداء من مجموعتي القصصية الثانية “صهيل الحيرة”، و أيضا كانت روايتي الثانية “سرادق الحلم والفجيعة” بداية التمرد على النمطية السائدة، وكان التمرد في المسرح وأنا أؤسس لشكل جديد فيه أطلقت عليه مصطلح “المسردية”، وبل وحتى أيضا في كتابي “مسرح اللحظة” وقد ضم خمس عشرة مسردية قصيرة جدا.
كيف تنظر دكتور إلى اللغة في العملية الإبداعية، خاصة وهي مجال لخلاف بين المبدعين؟
أؤمن أن الأدب اشتغال على اللغة بالأساس، كاشتغال الفن التشكيلي على الألوان واشتغال الأغنية على الإيقاع، وكل نص أدبي في رأي لا يشتغل على اللغة هو شجرة دون أوراق، اللغة وحدها هي التي تمنح النص بهاءه ودفئه، وهي التي تحيط النص بهالة من السحر، لذا أحرص مطلقا على العناية بها داخل نصوصي، ارتقاء بالنص، وارتقاء بذوق المتلقي، وقد لفت هذا نظر النقاد فاشتغلوا كثيرا في مقالات ورسائل جامعية على شعرية اللغة في نصوصي قصة ورواية ومسرحا، علما أن لكل جنس شعرية لغته التي تختلف عن غيره، فلغة الرواية مثلا يجب أن تظل لغة سردية حتى لو تضمخت بالشعرية، والأمر كذلك في القصة والمسرح، إني من المؤمنين أن للنص السردي دعامات يقوم عليها بنيانه، لكن اللغة هي التي تمنح هذا البناء ألقه ورونقه، وتضخ فيها روحا وريحانا.
احتفى النقد جزائريا وعربيا بجهودك الإبداعية وحفر فيها عميقا. هل تعتقد أن النقد قد قال الفصل في مشروعك الإبداعي؟
يقينا قدم النقد جهودا عميقة وهو يسائل نصوصي ويحفر فيها، ويقينا استفز فيها كثيرا من العوالم، وأنا شاكر جدا لمجهود هؤلاء العلماء والباحثين والنقاد، لأني أؤمن أن كل مشروع إبداعي كبير يجب أن يحتضنه مشروع نقدي كبير، يغوص بحثا عن جواهره، بل ويقوّمه أيضا ويحرجه بالأسئلة ليستقيم عوده، إن الإبداع والنقد وجهان لعملة واحدة لا تستقيم وجهة إلا باستقامة الوجهة الثانية، ولكن يقينا أيضا ما قال النقد كل شيء ولا يمكن أن يقول، لأن النص الجيد يحتمل دوما تعدد القراءات، ولأن من مهام النقد أن يستفز النص دوما، ويحرجه بالأسئلة.
يأتي هاجس السياسة والسياسي على رأس تيمات الكتابة لديك، هل تراه حقا بهذه الأهمية؟
بل تتعدد موضوعات الكتابة لدي، رغم أن الأصل في النص الواحد أن ينفتح على موضوعات عدة، وفي نصوصي موضوعات تاريخية صرفة، كما في “ملح وفرات”، أو اجتماعية كما في “الأقنعة المثقوبة”، و “راس المحنة 1+1=0” أو تراثية كما في “غنائية الحب والدم”، أو نفسية كما في “حائط المبكى”، أو أسطورية كما في “هاء، وأسفار عشتار”، غير أن السياسي يحضر بقوة، في جل أعمالي، بل ويكاد بعضها يرصد لهذه الموضوعة خصيصا كما في “النخلة وسلطان المدينة” و “مملكة الغراب” و “أحلام الغول الكبير” وغيرها، إيمانا مني بأن كل ما في الحياة له علاقته الوطيدة بالسياسي، وأن لا إصلاح في أي مجال من مجالات الحياة ما لم نبدأ بالإصلاح السياسي، وأتصور أن هذا هو سبب مآسي كثير من الشعوب، لقد وضعوا العربة للأسف الشديد أمام الحصان، مما عرقل مسيرة هذه الشعوب.
ما رأيك بالجوائز الأدبية، هل تذهب لمستحقيها، أم أن لغة المصالح والعلاقات والأبواب الخلفية تؤثر ثأثيرا كبير وتوجهاتها؟
لا أستطيع أن أحكم على هذه الجائزة أو تلك، ولكن عموما حتما هناك جوائز تشتغل بمصداقية عالية وهناك جوائز تتحكم فيها المصالح والعلاقات، إنها انعكاس لواقع عربي يعرفه الجميع سياسيا واجتماعيا، غير أن الجوائز الكبرى حتما ترصد تطبيقا لمعايير معينة تسعى الجهة المنظمة إلى دعمها، مما يعني أن الجائزة لا تكون صرفا لوجه الإبداع، ورغم ما لهذه الجوائز من أهمية كبيرة لتثمين الإبداع وتشجيعه، فإنها ليست عصا سحرية لتمنح للنص الفائز الخلود، ولصاحبه إمارة الإبداع، لأنها دوما محكومة بشروط الزمان والمكان والذوق والمضمار، فكم من أديب خالد لم ينل شيئا من عطاء الجوائز بل ولعله لم يهتم بها أصلا، وكم من أسماء توجت ثم نسيها التاريخ.
كيف يمكن لنا أن نوجد وحده ثقافية عربية تتيح للمنتج الإبداعي الوصول لكل العرب فى وقت واحد، وبالتالى نستطيع نقاش قضايانا بوعى كبير.
يمكن جدا حين يكون الإنسان من أهم أولويات السياسي، حين يؤمن بوجوب دعم المشاريع الكبرى التي تصنع الوعي، وتنهض بالإنسان لأنه الجوهر والأساس، وكل ما عداه تبع له وخادم، وأعتقد أن الأمر لا يحتاج إلى فطنة كبيرة ولا لتضحيات مادية كبيرة، بل تحتاج فقط إلى وعي، وعي بأن العالم يقوم على الصراع والتدافع، وأن لا مكان فيه للشعوب الضعيفة الإمّعة، وعي بأن في لغتنا وثقافتنا وعروبتنا ما ينهض بنا لنكون في مصاف الأمم القائدة، وما يوحد بيننا فنكون حصنا لا صدع فيه، وصفا لا يرقع بالدخلاء، وأعتقد أن أسلافنا في العصر الحديث قد ناضلوا كثيرا من أجل ذلك، وما زلنا نناضل انتصارا لعروبتنا وقيم حضارتنا، وأنا متفائل جدا بمستقبل شعوبنا.
كيف يمكن لنا أن نكون على قدم وساق مع الثقافات الغربية؟ وهل هناك دور مفتقد للترجمة من وإلى العربية واللغات الأخرى؟
الثقافة عندنا في كثير من محطاتها منكوبة، لابد من مشروع مجتمعي كبير يجعل الثقافة مطلبا اجتماعيا، كالطعام والشراب والعلاج، ولا يكون ذلك إلا بخطة نقذف بها بالثقافة في أوساط الناس، ونقربها منهم، ونعمل لارتقائهم إليها وبها، ونعيد سلم القيم إلى حقيقته، فنسمح للمثقف بأن يفكر ويخطط ويقود، ونلقى محبته وتقديره في نفوس الناس بمحبة وتقدير رجل السلطة له، ولا شك أن فعل الترجمة سيأتي جزءً من مشروع ثقافي كبير، نعم نحن بحاجة ماسة إلى أن نعرّف بأنفسنا وبثقافتنا، كما نحن بحاجة ماسة إلى أن ننفتح على ثقافات الآخر كل الآخر، إذ لا حياة لمن ينغلق على نفسه، لكن نحن أيضا بحاجة إلى أن نعرف أنفسنا أولا، فمن لا يعرف نفسه ليس جديرا بأن يعرف غيره.
ماذا ينتظر منك قراءك بعد صدور روايتك “هاء، وأسفار عشتار”؟
أصدرت “هاء، وأسفار عشتار” منذ ثلاثة أشهر تقريبا، ولي رواية جديدة تحت الطبع أرجو أن ترى النور بعد شهر أو شهرين بعنوان “علي بابا والأربعون حبيبة”، كما أكملت عملا مسرحيا منذ أيام ولي اشتغال على عمل نقدي، وبالمناسبة لا يسعني إلا أن أتوجه بكثير من التقدير والمحبة لكل قرائي وبالأخص الباحثين في مشروعي الإبداعي.

شارك مع أصدقائك