ثلاثة إلى اليمين

شارك مع أصدقائك

Loading

فوز  حمزة 

لم تكنْ الرحلة من صوفيا إلى إسطنبول هي التي جعلتني سعيدة ذلك اليوم، بل تفكيري في الساعات التي سأقضيها وأنا أقرأ لأجاثا كريستي هي التي بثت الحماس داخلي، فساعات عملي الطويلة المضنية كانت تَحوْل دون ممارسة الهواية التي أعشقها. لا أدري لِمَ اخترت السفرَ ليلاً على غير عادتي؟! كان عليّ التواجد في المحطة عند العاشرة والنصف مساءً حيث موعد انطلاق ” الباص” وبينما وجدت نفسي أتهيأ للصعود، شعرت بيد امتدت إلى كتفي… التفتُ، مرتْ لحظات .. كنت قد عرفته، زوج واحدة كانت من صديقاتي، رجل في الثلاثينات من عمره، يصغرها ببضعة أعوام. اغتنم فرصة انشغال زوجته بتقبيلي، فأخذ يحدق بيّ، لم يترك جزءاً مني إلا والتهمه بنظراته. ثمة ما أوجسني خيفة حين مد يده لمصافحتي وقد ترك أثرًا لضغطة شعرت بها قوية شيئًا ما، فسارعت لسحبِ يدي. فرحت لأن رقم مقعدي بعيدًا عنهم، ذلك لم يمنعه من البحث عن عذر ليلتفت صوبي كلما سنحت له الفرصة، لم ينقذني منه إلا سطور الرواية، فقد أبعدتْ التفكير عني ولو قليلاً بضيف الليلة الثقيل ثم انطلق الباص. كيف غفوت ومتى، لا أدري؟! ربما إحساس دفعني إلى ذلك لأبعد شبح الموت عن بطلتي، فاخترت بنومي منحها ساعات أخرى من الحياة، لكن الفزع الذي سيطر عليّ حين صحوت لأرى زوج الصديقة وهو يحاول إيقاظي، أنساني كل شيء طالبًا مني بضع الترجل من “الباص” لأننا أدركنا الحدود البلغارية التركية. وضعت جواز مروري داخل حقيبتي الصغيرة بعد حصولي على تأشيرة المرور وأسرعتُ الخطا في دخول الاستراحة ألوذ بها من البرد والصقيع. احتضنت فنجان القهوة الساخن وكأنني احتضن ماسةً ثمينةً، أما السيجارة فكانت فتيل الأمان الذي انتزع مني كل توتر حين لمحت الصديقة وزوجها قد خرجا مسرعين من باب الاستراحة دون أن يلحظاني. أشتد قلقي على بطلتي من ذلك الزوج الذي كان يخطط لقتلها طمعًا في ثروتها ثم يتزوج من صديقتها التي كان مرتبطاً بعلاقة حب معها. قلبي تزداد دقاته، جبيني يتفصد عرقًا،ها هي يد المجرم تمسك بمقبضِ الباب لينهي حياة تلك المسكينة و… ـ سيدتي، لقد غادر الجميع ! كلمات النادل بثت الفزع بيّ، أجبرتني على ترك بطلتي تواجه مصيرها لوحدها مع زوجها الخائن! صفير الريح وظلام الليل تعاونا على إثارة هلعي. غادر الجميع دون الانتباه لغيابي، المكان فارغ إلا من ظل شخصين كانا يصرخان بأعلى صوتهما وهما يحاولان اللحاق بالباص دون أمل. كيف للمشاعر التبدل بهذه السرعة، فيتحول من كنت تبغضه إلى ونيس وحبيب؟! لا أقدر على وصف فرحتي برؤيتهما مقبلين نحوي ليزفا الخبر السعيد إليّ، لقد أصبحنا ثلاثة منسيين. توزع الخوف على ثلاثة، لم أعد أشعر به، حلّ القلق بدلاً عنه. دموع صديقتي جراء الرعب الذي حل بها، جعلاني أتولى مهام القيادة واتخاذ القرار، فطلبت منهما قطع الغابة باتجاه اليمين حتى نصل إلى الحدود التركية، لكن إصرارهما على أن الباص اتجه شمالاً جعلني امتثل لهما خشية تعريض نفسي للملامة بعد ذلك. لم أدرك أن لليل وحشة وأن للصمت لغة لا يفهمها إلا من فقدَ القدرة على الكلام. خرجتْ كل جنيات الأرض اللواتي قرأت عنهن، تآمرت الأشجار وهي تُخبَّئ الأشباح خلفها، عواء الذئاب كان إيذانًا لموت محتم بعد تحولنا إلى أشلاء ممزقة، لم أكن قبل هذه المرة قد سمعت صوتَ الخفافيش، أشياء كانت تنذر بوقوع شيء ما! المسافة الطويلة التي قطعناها منحت الصديقة عذرًا لطلب الأستراحة. ثوانٍ وبدد شخيرها سكون الغابة، لكن انعكاس ضوء القمر بين الأشجار، منح زوجها الوقت الكافي ليطيل النظر إليّ. بحثتُ عن كلماتٍ تنسيني الخوف الذي كاد أن يقتلني وأنا أرى يده تمتد ببطء إلى جيبِ معطفه البني ليخرج شيء ما، عيناه توزعان النظر بيني وبين الزوجة المسكينة التي حلت نهايتها، قدرها أن تموت هنا، لم أعد اشعر بساقيّ، غرقت في عرقي رغم الصقيع، لم أعد أشعر إلا بصدري يعلو ويهبط . عواء ذئب جعل الزوجة تفيق فزعة لتلتصق بزوجها فمنحه ذلك الوقت ليعيد يده ثانية في جيبهِ. شعرت كأنني ريشةُ يراقصها النسيم، الحب الذي ولد فيّ تلك اللحظة لصديقتي جعل ضحكاتي مثار استغرابهما فاكتفوا بالصمت والنظر إليّ مستغربين! حثثتُ الخطا وابتعدت عنهما حين لاح لي ضوء منبعث من بناية بعيدة، اتبعت النور لأحفظ لبطلتي أقصد لصديقتي حياتها .. لعلي لم أكن أريد التصديق أو لعلي لم أسمع جيدًا، طلبت من الموظف أن يعيد عليّ كلامه، أنه يتكلم البلغارية، هذا يعني أننا في الأراضي البلغارية، ساعات من السير بالاتجاه المعاكس. التفتُ لأزف الخبر لهما، كانا ملتصقين ببعضهما يتحاشيان النظر إليّ. المفاجأة أسكتت الصديقة، أما زوجها فمد يده في جيب معطفه البني وأخرج منديلاً ليمسح جبينه ••

شارك مع أصدقائك