حواره
أحمد طايل، مصر.
..طموحى الأدبى هو زرع البعض من أفكاري فى حقل هذا الكون الفسيح وتركها تنمو وتعيش أطول مدة زمنية ممكنة.
………..
هو مبدع متعدد الزوايا الإبداعية ومتميز بها جميعا وهذا أمر فريد لا يمنحه الله إلّا لمن يستحق، هو قاص وروائي وناقد وكاتب مقال ومحاور أدبي، وفاعل كبير بعالم الثقافة التونسيّة، ولن أكون مبالغا إن قلت عالم الثقافة العربيّة، هو عضو الهيئة المديرة لمنتدى زغوان للثقافة والفكر والأدب، له في القصّة القصيرة مجموعتان: “الفتاة الإنسوب”، ويوم تبدلت الأرض”، وفي الرواية روايتان: “العوالق” و”كسر شرّ”، وفي الدراسات الأدبية كتابان: “في القصّ التونسي” و”دراسات وحوارات في الأدب والفكر”، مع الصديق المبدع المتميّز والنبيل فكرا وإبداعا وإنسانا الكاتب التونسي فتحي البوكاري.
===========
- رحلتكم الإنسانية والمهنيّة والإبداعيّة، نودّ أن تحكي لنا عن محطاتها المختلفة والمتعدّدة؟
ولنبدأ بالنشأة.
- يقال إنّ الأصل العرقي للبرابرة مزدوج، بطن من بطون أوربّا أعينهم خضراء، وبطن من بطون اليمن أعينهم في لون عينيّ، ونظرا لعدم وجود نسّابة ثِقَاةٍ يوكل لهم مهمّة اقتفاء آثار الأنساب فأنا أرجّح أن نسبي متّصل بالسلالة السّاميّة وأنّ جدّتي، من جهة الأب، بعد أن فقدت زوجها في أحد الأكواخ المنتصبة في أعالي سلسلة جبال خمير حملت أطفالها اليتامى وأسكنتهم كوخا في هنشير السّهيلي لا يختلف كثيرا في بساطته عن أغلب بيوت أبناء كوكة المحتمية بهم. تزوّج أبي أمّي وانفصل عن عائلته الكبرى، وعلى مبعدة يسيرة، في التلّة ذاتها، شيّد لأسرته الصغيرة كوخا علّقت والدتي على بابه حدوة حصان من معدن على عين الحسّاد، ثمّ أضافت إليها، حين هاجر أبي إلى فرنسا في ستّينات القرن الماضي، بصمة كفّ يدها المخضّبة بالحنّاء، طبعتها على جداره المغسول بماء الجير. في ذاك الكوخ ولدت وكانت نشأتي في بيئة ريفيّة، في عمق الشمال الغربي التونسي حيث يكدّ الناس أثناء الصيف ويستريحون أيّام الشّتاء.
- من المؤكّد أن المناخ الأسري والبيئة التي شهدت خطواتك الأولى منذ الميلاد لها تأثيرات كبيرة على مسارك الإبداعي، ماذا لديكم عنها؟
- والدي لم أشعر بوجوده معنا إلّا عندما كبر في السنّ وكبرت وانتسبت إلى الأكاديمية البحرية في مرحلة دراستي الجامعيّة، ووالدتي كانت أمّا عظيمة، فرغم أمّيتها وحاجتها، ككلّ الفلّاحين البسطاء، إلى من يعينها في رعي المواشي إلّا أنّها فضّلت أن تلقي بهذا الحمل الثقيل على عاتقها وحدها لتراكم بذلك الأشغال المنوط بعهدتها في غياب زوجها من أجل ألّا ينشغل أطفالها بشيء عن طلب العلم. كنّا خمسة أطفال أربعة أولاد وفتاة، في مملكة الطبيعة قضّيت طفولتي حرّا طليقا من كلّ قيود، أقفز مع الجراد والصّراصير والجداجد والسّحالي في سهول سيدي السهيلي وحقول الأفارق بريف باجة الممتدّة على وسع النظر، حقلا وراء حقل، أطارد الثعابين بنشّابي في غدران حمّام سيّالة ووديانها. في تلك الأجواء عُلّمت لغة الطير والضّفادع وخشخشة الحشيش والأعشاب، صوت الضفدع مميّز عندي حين يغوص في فم الثعبان، صوتٌ رقيق سرعان ما يسوقني إليه فأسحب نشّابي بحذر، أصوّبه إلى رأس الثعبان الغاصّ بلقمته وأطلقه عليه فلا يخطئه، وصرخة الطائر المدافع عن عشّه المعلّق في أطراف أغصان الزيتون حينما يوجه ثعبانا يزحف متسلّقا إليه، تحمل معنى له فرادة في الدلالة يختلف عن المعنى الذي يحمله صراخه وهو يجفل مفزوعا متوجّسا من طائر مغتصب من فصيلته. في رحاب الفضاء الفسيح الواسع ذاك، عشت صغري أسبح في نهر من عطر الأرض المبهج، أفعل بوقتي ما أشاء تحت مراقبة الأم ورعايتها، ألهو وأتعلّم من حيوانات الحقل وطيور غابات الزيتون ، من الديكة أتعلّم، ومن الدجاج والسمّان والحجل واليمام وطير الزرزور والوطاويط والبوم والقوبع (القبرة) تعلّمت الكثير. وكذلك تعلّمت من الذئاب والثّعالب والهوام، حين أصغي إلى أصواتها أفهم رغبتها، الكلاب السّائبة القذرة التي تغزو هذه الأيّام شوارع المدينة عرفتها منذ الصغر حارسة نظيفة، وكنت وقتها وأنا بحجم عقلة الإصبع، قبل دخولي إلى المدرسة، أسوق الأبقار إلى مورد الماء وأركب الحمير بلا بردعة. صوت واحد فقط لم يدقّ أذني في صغري، في تلك المرحلة العمريّة، هو صوت المؤدّب في الكتّاب، ذاك الصوت الذي عرفه أندادي في صحاري الجنوب التونسي وزوايا الدّراويش والمجذوبين، وتندّر به البعض من الذين لم يحتفظ بذكريات سعيدة عن طفولته في الكتاتيب، صوّره بغيضا خانقا لمّا شبّ وصار أديبا، واتّخذه هزؤا في نصوصه ومذكّراته، واعتبره هراءً ليس له أهمّية، ذاك الصوت المفقود في أوتار معزوفة تكويني كان أمنيتي التي لم تتحقّق، فما من كتّاب ولا من مؤدّب ثمّة في ذاك المكان الذي حفرت اسمه في قلبي وأسكنته جوارحي، ونحتّ منه اسمي المستعار الذي بدأت به الكتابة النشر في الصحف والمجلّات، وكذلك وقّعت به كتابي الأول “الحلّاج يموت مرّتين” (2007)، “فؤاد سيّالة”، والمعنى قلب حمّام سيّالة مسقط رأسي. كان ذلك أولى بداياتي المبكّرة في محيط التّعلّم وعلى مشارف أجوائه، في مرحلة ما قبل تهجّي الحروف، وأنا ممتنّ للغاية لذاك المخزون الوافر الذي شكّل ذاكرتي وتكويني وانعكس على ما استوطن أوراقي فيما بعد. أمّي العظيمة وقريتي السّعيدة هما منبعا إلهامي وهويتي الكاملة وجذوري.
- ما دور المراحل التعليمية بتعدد مسمّياتها في صقلك إنسانيا وفكريا، وهل كانت لك نشاطات معيّنة أسارت إلى أنّكم بكم بدايات للكتابة؟
- حين بلغت السادسة من عمري إلّا قليلا، صاحبتني أمّي رفقة أختي وأخي الأكبر إلى المدرسة الابتدائية بالقرية وسلّمتني إلى مربّيهما، معلّم ومدير في الآن نفسه، وطلبت منه أن يحاسبها بجلدي إن لم أسمع كلامه وأطعه. أومأ المربّي برأسه معربا عن فهمه ولم ينطق بشيء إذ أنّ، أيّامها، جميع أولياء التلاميذ يقولون ذاك الكلام في مثل تلك الحالات. دفعني المعلم المدير برفق نحو إحدى القاعات وقفت فيها على دنيا القراءة والحفظ، هناك بدأت أتلقّى أولى المعارف نقلا وعقلا، إلى أن تمكّنت من الكتابة والقراءة والجمع والطرح وحل المسائل الحسابيّة، ثمّ إنّه لدى بلوغي سنّ العاشرة، وفي الفترة التي شرعت فيها الدولة في تنفيذ مخطّط يقضي بتجميع سكّان الأرياف في مبان سكنيّة متلاصقة تيسّر إمداد المنطقة بالماء الصالح للشرب وضروريات العيش الكريم، عاد أبي المهاجر نهائيا من المهجر فانتقلنا للعيش بإحدى ضواحي العاصمة. لم يعثر أبي على مقعد لي في المدارس القريبة من مسكننا فوقع تسجيلي بعيدا بالمدرسة المحاذية لملعب “البقلاوة” بباردو، مقابل عمارة “توتة” حاليا، من تلك المدرسة تحصّلت على شهادة ختم التعليم الابتدائي ووجّهت إلى معهد خزندار العريق.
- متى شعرت أن بك شغف للقراءة ومن ثمّ الكتابة؟
- في السنوات الثلاث التي قضّيتها في ثانويّة خزندار نمت لديّ رغبة جامحة في المطالعة لم تتوقّف إلى الآن، لقد كان إغواء نصوص الكتب المدرسيّة المقتطفة من قصص التراث العربي عظيما، والأشدّ منها وأعظم هو ذاك الطعم الذي مُدّ إليّ بشصّ سلسلة بوليسية مشوّقة أبطالها خمسة أبطال مغامرين تتراوح أعمارهم ما بين التاسعة والرّابعة عشرة للكاتب المصري محمود سالم، وهي سلسلة مطابقة لسلسلة بوليسية أنجليزيّة تحمل عنوان “كاشفو الأسرار الخمسة (Five Find-Outers) للكاتبة إينيد ماري بلايتون (Enid Mary Blyton). ، لقد صرت مدمنا عليها أيّما إدمان، ولست أدري كيف حدث ذلك. كنّا، أنا وبعض الأصدقاء، من بينهم الباحث المختصّ في التاريخ العسكري الحديث فيصل الشريف مؤلّف كتاب تاريخ جيش الإستقلال التونسي: النشأة والتكوين 1956-1960 (Histoire de l’armée tunisienne de l’indépendance : la genèse 1956-1960)، نستفزّ بعضنا بحثا عن السبق لحيازة الأعداد الأولى النادرة أو للحصول على العدد الأخير وقت صدوره. كان الحائز منّا على العدد المفقود قبل غيره كأنّه حاز غنما كبيرا يمكن أن يقايض به الأصدقاء ببعض الكتب القيّمة التي يفوق ثمنها ثمن العدد بعشرات المرّات، أو يعيره بمقابل ماليّ مع الالتزام بقراءته وقوفا جنب صاحبه حتّى النهاية. بعدها تطوّرت الحالة عندي فأغرمت بمطالعة القصص البوليسيّة الأكثر إثارة ورواجا في تلك الفترة مثل مغامرات اللص الظريف أرسين لوبين (Arsène Lupin, gentleman-cambrioleur) لموريس لوبلان (Maurice Leblanc)، وروايات الجرائم لأجاثا كريستي (Agatha Christie)، ثمّ توسّعت أكثر فأكثر فدرت ألتهم قصص ألف ليلة وليلة، وحكايات كليلة ودمنة، ومعلّقات الشعر العربي.
- مَنْ أوّل المؤمنين بموهبتك الذي وقف مساندا لك ومؤمنا بما تكتب وما تحلم؟
- ساعد ولوجي عالم الخيال واطّلاعي على مدوّنة التراث العربي القديم والروايات العالميّة على إجادة مواضيع الإنشاء بالمعهد وكان أستاذي سي الدبّابي، أفضل أساتذة العربية بمعهد خزندار، يشيد بموضوعي ويقرأه على التلامذة في قاعة الدرس، وقد تألّم كثيرا حين لم يتمّ توجيهي إلى شعبة الآداب، أخبرني بأنّ الأساتذة تنازعوا أمري بخصوص التوجيه، وأنّ نتائجي الجيّدة في المواد العلميّة وقلّة عدد المتأهلين لشعبة الرياضيات والتقنية رجّحتا كفّة أساتذة العلوم. قال لي سي الدبّابي بكلّ حسرة إنّه استمات في الدفاع عن خياري الأول في المسلك الأدبي إلّا أنّه لم يفلح، وقد تمّ توجيهي إلى المعهد الفنّي بتونس ومنه استطعت، من الدورة الأولى، الحصول على شهادة الباكالوريا بمعدل مقبول مكّنني من الالتحاق بالأكاديمية البحرية بعد سلسلة من الاختبارات البدنية والعلمية.
- ماذا خطّ قلمك لأوّل مرّة؟ وعلى من قرأت ما كتبت وردّ الفعل اللحظي وحينها؟
- أستطيع القول إنّ بداية تجربتي الفعلية في الكتابة قد انطلقت خلال فترة تواجدي بالمعهد الفنّي بتونس عندما كنت مكلّفا مع بعض زملائي بتحبير مواد المجلّة الحائطيّة للمعهد، في تلك المرحلة كنت متأثّرا بالشعر العمودي وقد نشرت، باسمي المستعار قصيدة عن الوطن في صفحة مصابيح المدينة الشبابية لجريدة الأنوار التونسيّة. أسعدني ظهور اسمي بالصحيفة وإن كان مستعارا وانتفخ صدري قليلا، أعدت المحاولة فكتبت قصيدة ثانية موزونة وأرسلتها هذه المرة إلى الصفحة الأدبية لجريدة الصدى التي يشرف عليها الصحفي الناقد محمد بن رجب )رحمه الله( مؤسس مهرجان الصدى قبل أن تتغيّر التسمية إلى “مهرجان الأدباء الشبّان” بحي الزهور، لكن المشرف تجاهلها، كانت جلّ النصوص الشعرية وقتها المنشورةفي تلك الصفحات تتبع موجة واحدة قصيد النشر أو التفعيلة، ماعدى قصائد الجيلاني أولاد نهار وهزليات محمد العزيز بن زاكور التي وقع نشرها في فترة لاحقة، لذا حاولت أن أجاري تلك الظاهرة الشبيهة بقصائد غربية مترجمة، فكتبت “قصيدة” نثرية استحسنها سي محمد وشجّعني على المثابرة بنش بعض المقاطع منها.
- معظم المبدعين ابتدأوا بكتابة الشعر فهو الباب الواسع للعبور إلى الأجناس الإبداعية الأخرى.
- صحيح، فأنا ذات مرّة، كنت قد اعتليت منصّة الإلقاء في تظاهرة طلّابيّة بالمركّب الجامعي بالعمران، مع قامات شعرية سامقة منهم البحري العرفاوي، والشاعر الفلسطيني أحمد دحبور، فيما أتذكّر، وأمام حشد كبير من الطلبة وبخيال مريض بمرض الإثارة والتحريض ودغدغة مشاعر الطلبة بهجاء السلطة، وبإحساس من انتحل شكل الآخر الغريب وهو يفرّ من قيود القواعد الجمود و”الركاكة” توقا إلى التطوّر والعالميّة، قلت لغوا ركيكا خال من كل جمالية وإيقاع، وعلى إثر تلك المشاركة، وكعادتي دائما بعد كلّ لقاء، بدأت في التقييم والمراجعة على وقع حوافر تأنيب الضمير، إذا كانت الرغبة حقّا هو مخالفة السائد والتحرّر من القواعد فَلِمَ نفضّل استيراد الجاهز من العناصر المكوّنة لهويّة الآخر على ترميم معمار العنصر المكوّن لهويتنا أو إضافة ملحقات داخل المعمار نفسه تستجيب لرغبتنا؟ أو في أقصى الحالات تطرّفا إهمال الشكل المعماري القديم وإنتاج شكل جديد مبتكر؟ وإذا كان وجع الرأس هو أوزان الخليل والقوالب الشكليّة في نظم الشعر، فلِمَاذا لا يكون تحرّرنا كاملا فنكتب النصوص ولا نسمّيها شعرا؟ وهكذا فارقت الشعر واحتضنت جنسا أدبيا آخر.
- عملك الأول الذي نشر صحفيا، ماذا عنه، وكيف كان استقباله من جمهور القرّاء والمثقفين والنقّاد والإعلام الثقافي؟
- كتبت نصوصا وقصص قصيرة وفصولا من رواية ومقالات أدبيّة وتغطيات صحفيّة لملتقيات أدبيّة نشرت في جريدة الصدى والأنوار التونسية والصباح والأيّام والفجر وفسيفساء الثقافيّة ومجلة قصص والملاحظ والإتحاف. جمعت بعضها في ما بعد في مجموعة قصصيّة نشرها صديقي الكاتب الصحفي فتحي التليلي باسم فؤاد سيّالة وأهملت بعضها، بصراحة لم أكن التفت كثيرا إلى انطباع النقّاد وما كانت تغويني آراء جمهور المثقّفين/القرّاء في ما أكتب لسببين: أوّلا، أنّ نهجي في الكتابة يمرّ عبر الالتزام، فأنا أكتب النصّ الأدبي لأضمّنه رسالتي الأخلاقية والتربوية، وهذا النهج قد لا يعجب الكتّاب الذين يحملون رؤية فكرية مغايرة، أذكر أنّ الناقد الصحفي محمد بن رجب كتب لي يوما في عموده الأسبوعي بالصدى: “تعجبني كتاباتك يا فؤاد رغم أنّي أجد فيها ما أكره”. السبب الثاني هو أنّ من وقّع على تلك النصوص في بداية مشواري الأدبي هو فؤاد سيّالة وليس أنا، وهذا ما جعلني محصنا من كلّ هزّات نفسيّة ترسلها الآراء المختلفة حول نصوصي.
- كتبت في العديد من المناحي الفكرية والإبداعيّة، أي الأجناس الأدبية قربا إليك؟
- رغم أنّي كتبت في جنس الرواية والدراسات الأدبية وأصدرت فيهما كتبا إلّا أنّ القصّة القصيرة هي التي تستهويني أكثر وأجد فيها متعتي.
- لمن تكتب؟ عنك أم عن الآخر أم للآخر؟
- يحدث أن أكتب عن نفسي لهدف التوثيق والتسجيل، تجد ذلك بكثافة في روايتيّ: “العوالق” و”كسر شرّ”، ولكن لست حبيس هذا النوع السردي، السيرة الذاتية في مضمون الرواية التسجيلية، فقد انفلتّ بعيدا لأتحدّث عن الآخر وللآخر، بهدف التواصل مع الآخرين ومشاركتهم أفكاري ومشاعري تجاه مختلف القضايا والمواقف. تعني الكتابة عن الآخر القدرة على وصف الشخص الذي نكتب عنه بشكل دقيق وواضح، فعندما أكتب عن الآخر أحاول أن أوضح سماته الجسدية والشخصية وأصف تجاربه وآراءه كما يجب، وآخذ في الاعتبار الثقافة والخلفية الاجتماعية للشخص وكيفية طرح الموضوعات المتعلقة بالآخرين بشكل محترم وموضوعي، ولا يمكن أن أفعل ذلك إذا لم أكن قادرا على فهم واحترام وجهات نظره.
- حالما تكتب ما الأهداف والاتكاءات التي توضع أمام ناظريك؟ وهل ترى أنّك حققت أهداف الكتابة؟
- كما أشرت سابقا أستخدم الكتابة الإبداعية للتعبير عن أفكاري ومشاعري وبث رسالة إلى القارئ بشكل مميز، وهي أيضا وسيلة للتعبير عن ذاتي وخلق عوالم خيالية وشخصيات فريدة وأحداث مثيرة غير تقليدية لجذب القارئ والوصول إلى عواطفه والتأثير فيه، أقول القارئ الذي يمثل شريحتي المستهدفة وليست النخبة من النقّاد فأنا لا أسعى لإرضائها مطلقا ولا أطلب تأشيرة العبور إليها. هذه الأهداف متجددة ومستمرة لا أظنني أصل إلى تحقيقها يوما ما ولو حرصت، غير أنّي قد أسهمت في إضافة شيء ما إلى المدوّنة السردية العربية والنقد وهذا يكفي.
- لكل كاتب عادات وطقوس بالكتابة، حدّثنا عن طقوسك؟
- طقوس الكتابة المتعلقة بي بسيطة للغاية، أطالع كثيرا وأكتب قليلا، إذا خيرت بين الكتابة والقراءة أختار القراءة، ولا أكتب إلا إذا أحسست بالوجع.
- على من تقرأ كتاباتك قبل تقديمها للنشر؟
- النسخة صفر من كتاباتي أنزلها كلّيا أو جزئيا على صفحتى لإبداء الرأي، ثم أرفع النسخة المحيّنة إلى الموقع المخصص لي بالحوار المتمدن، وعرضها أحيانا على الأصدقاء من النقّاد وأصحاب الصنعة. النصّ عندي متحوّل متجدد لا يستقرّ على حال إلّا إذا نشر في كتاب.
- ما رأيك بالمشهد الثقافي التونسي والعربي والعالمي؟ وهل توجد ثمّة مقارنة بين المشهدين العربي والغربي؟
- في فترة التسعينات شهدت مساحات التعبير حرية الرأي تراجعا غير مسبوق، انعكس ذلك سلبا وإيجابا، من باب ربّ ضارة نافعة، على أقسام الصحف ومحتواها وعلى مضامين الكتابة الأدبيّة في حدّ ذاتها، فإلى جانب اللغو الذي عرفه قسم المنوعات، والإسهال في أخبار كرة القدم والرياضة بصفة عامة، أنشئت منابر أدبيّة انشغلت بإبداعات الشبّان في الشعر والقصّة القصيرة والمقال الأدبي تتغذّى منها وتغذيها، أشرف على إدارتها كتّاب من ذوي الإختصاص رعوا الأقلام المبدعة الشابة وصقلوها وكشفوا المواهب ودفعوها إلى منفذ البروز والانتشار والشهرة، ساهمت تلك الإطر والمهرجانات التي أحدثت في حراك ثقافي فريد، وتفاعل فيما بين الأدباء الشبّان أنفسهم، وقد حازت صفحات الصدى ومهرجانها شهرة ومصداقيّة بسبب نشرها لمساهمات وإبداعات الشبّان وتشجيعها لهم على الكتابة، وكذلك نتيجة التصفية وإنتقاء الكتابات الجيّدة. معظم الأسماء التي تتصدّر الآن عرش القصّة والشعر هي وليدة تلك المرحلة المبهرة. بعد الثورة، ورغم طفرة ما بات يعرف بأدب السجون نتيجة للحرية غير المعهودة في السابق، إلّا أنّ عدد المجلّات والملاحق الثقافية بدأت في التراجع والتقلّص أمام تمدّد فضاءات النشر المخصّصة للسياسة والسياسيين. وقد قامت التكنولوجيا الرقمية والمواقع الاجنماعية بتعويض هذا النقص، وأظنّ أنّ العالم العربي كلّه يعاني مثل هذه المشاكل ويسير رأسا نحو التقارب بفضل قاطرة العولمة.
- الشللية والدوائر المغلقة ومدى تأثيرها على الثقافة والإبداع، وهل هي تمنع ظهور روافد إبداعية جديرة بأن تكون متواجدة على الساحة الثقافية؟
· اللوبيات أو المافيوزيّة الثقافيّة في تونس، سواء كانت مجموعة أفراد منغلقة على نفسها ومحصنة، أو شركات ذات صلة بالمجال الأدبي، هي لوثة الوسط الثقافي التونسي وعارها، تعمل كأخطبوط للهيمنة على مفاصل المؤسسات والهياكل الثقافيّة والسيطرة عليها من أجل تقاسم المال العام والامتيازات الاجتماعيّة حسب الولاءات والمحسوبية، وترويج ثقافة هزيلة، فهي تعمل كحواجز على تحديد السلوك والتصورات الثقافية التافهة، مما يمنع التجديد الثقافي والإبداعي والتجريب والتفكير المبتكر وإحداث التغيير في الثقافة، وتفرض تصنيفات وتوجهات ثقافية محددة.
- كيف ترى تأثيرات المتغيّرات العالمية المتصاعدة على الثقافة عامة والعربية خاصّة؟
- شهد العالم في العقود الأخيرة تطوّرا مهما في تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال المتطوّرة والنقل، سهّلت حياة الناس وأثّرت في ثقافات الشعوب المختلفة التي مكّنت وسائل التواصل الاجتماعي من عبورها للحدود، ومن سرعة انتشارها، أدّى ذلك إلى تغيّرات في الثقافة العربيّة بشكل كبير، في قيم المجتمعات العربية وعاداتها وتقاليدها التي امتزجت من خلال الاحتكاك والتفاعل الثقافي بقيم جديدة، واصطدمت بتحديات كبرى طرحتها العولمة على مستوى العائلة والدين والتقاليد، وعلى بعض الكتّاب أيضا، فالتأثّر السلبي غير الحميد واضح في عناوين رواياتهم الأعجميّة بالخطّ العربي، حتّى أصبح أمرا مألوفا عندنا في تونس يجيزها النقّاد ويمنحونها تقديرهم.
- كيف من وجهة نظرك نعيد الوعي إلى التراث الثقافي والفكري والتاريخي والعقائدي؟ وهل تشاركني الرأي أنّ الهوية الثقافيّة هي الأمن القومي الفكري الأهم، وأنّنا نعاني أزمة كبيرة في الوقت الراهن للحفاظ على هويتنا الثقافيّة؟
- بالتأكيد هويتنا الثقافيّة هي هوية أمّتنا وأمننا القومي الفكري، فالتراث الثقافي والفكري هو من تاريخ الشعوب وصانع هويتها الوطنية والمعبّر عن قيمها ومعتقداتها، ووعينا بالتراث الثقافي يشعرنا بعراقة أمّتنا، هذا الإحساس هو كالحبل المتين يعزّز انسجامنا الاجتماعي ويقوّي روابطنا وتكافلنا في مواجهة التحدّيات، ويسهم في بناء مجتمع قوي ومزدهر. واليوم، هويتنا الثقافية تعاني أزمة وتدميرا، فهي مهدّدة بالتحلل في الوسط الثقافي العالمي بفعل تأثيرات التكنولوجيا الحديثة والهجرة والتبعيّة الثقافيّة. الموازنة مطلوبة بين الحفاظ على الهوية الثقافية العربية والانفتاح على العالم والتجاوب مع التغيّرات الحاصلة، وذلك بتوفير الدعم للغة العربية وآدابها.
- كيف ترى المشهد النقدي حاليا؟
- يتميز المشهد النقدي في تونس بتعدد مدارسه وطرقه الفنية، بعض النقّاد يعتمدون في تقييمهم وتحليلهم للنصوص الأدبية على منهجية وقواعد ومعايير أدبيّة دقيقة، ومنهم الذين يعتمدون فقط على الإحساس والتأمّل العاطفي، وجميع المقاربات النقدية تساهم في تطوير الأدب وترفع من مستواه وتوسّع المعرفة الأدبيّة للقرّاء وتعمّق فهمهم للنصوص السردية. وهذا هو المهم.
- من من المفترض أن يكون قائد الدفة، الثقافة أم السياسة وما تأثير كل منهما على الآخر؟
- في تقديري قائد الدفّة هو السياسي المثقّف أو المثقّف السياسي، لا تنازع بينهما ولا خصام.
- هل تشعر أحيانا بغربة إبداعية؟ وهل الكاتب يحتاج لهذه الغربة؟
- نحن نعيش حالة من الغربة، غربة في الزمان وغربة في المجتمع لأننا نفكّر خارج الصندوق.
- ماذا عن الزمان والمكان بكتاباتك؟
- تلعب الأمكنة دورا حاسما في تشكيل اللغة في العمل الأدبي، ويتأثّر الأسلوب والشخصيات بنغماتها لنقل معاني ذات مغزى ولإنشاء صور بصرية في خيال القارئ. وشخصيا أستخدم الزمان والمكان كأدوات سردية لإضفاء جمالية على نصوصي القصصية. وفي عملي المعنون بيوم تبدلت الأرض خلقت أزمنة جديدة وأنشأت أماكن وأحداث خيالية وذلك من أجل تسليط الضوء على قضيّة تغيّر المناخ وأثاره المدمّرة.
- الجوائز الأدبيّة هل لها معايير منطقية وتوجّه لمستحقيها أم أنّ بها جانب مسيّس ،في بلدي، فقدت تلك الجوائز الأدبيّة القليلة كجوائز كومار وجوائز معرض الكتاب، وميضها وإشراقتها المميّزة ومصداقيتها في تطوير الأدب وتنوّعه بعد أن استحوذ على إسنادها لجان تحكيم مؤدلجة تعمل كشبكة دوائر مغلقة على فرض مبادئها الثقافيّة المحدّدة ورؤيتها الضيقة على الأفكار والآراء المتعلقة بالثقافة، وتشكيل سلوكيات إخوانيّة فاسدة تعزّز النمطيّة ويبقى الابداع عالقًا ومحصورًا في إطار ضيق ومتشابه، وتعرض أصوات المبدعين الذين يخالفونهم للتهميش، أو إجبارهم على الانسجام مع الأنماط والقيم المفروضة بدلاً من التفكير الحر.
- ما هو طموحك الأدبي؟
- طموحي الأدبي هو زرع البعض من أفكاري في حقل هذا الكون الفسيح وتركها تنمو وتعيش أطول مدّة زمنيّة ممكنة.
- ما هو مشروعك القادم؟
- مشروعي القادم بدأت في نسج خيوطه حول حكايات السفن التي غيّرت مجرى التاريخ لارتباطها الوثيق باختصاصي العلمي.
- متى تتوقف عن الكتابة، وهل للكاتب عمر معيّن لاعتزال الكتابة؟
- ليس هناك عمر محدد للاعتزال عن الكتابة، يعتمد ذلك على عدّة عوامل، منها عامل السنّ وتراجع قدرات الكاتب الجسديّة والذهنيّة، وقدرته على تقديم أعمال ذات جودة، وعلى مواكبة التحولات الجديدة في صناعة الكتاب مثل التكنولوجيا الرقميّة الحديثة والنشر الإلكتروني المؤدي إلى تغيّر طرق توزيع واستهلاك الكتب، وفقدان الحماس والالهام والدعم والتشجيع، وانعدام المتعة والشغف في الكتابة، والاحتياجات المالية والمهنية، وتحويل وجهة الاهتمام إلى أمور أخرى، ومن جانبي، سوف أتوقّف عن الكتابة عندما أتوقف عن المطالعة.
————
فتحي البوكاري، من مواليد 13 نوفمبر 1964 بحمّام سيّالة ، ولاية باجة.
زاول تعليمه الابتدائي بمسقط رأسه في مرحلة أولى وبباردو في مرحلة ثانية. والثانوي بمعهد خزندار في مرحلة أولى ثمّ بالمعهد الفنّي بتونس (معهد 9 أفريل 1938) ومنها تحصّل سنة 1985 على شهادة الباكالوريا شعبة رياضيات تقنية.
تابع دراسته الجامعية بالأكاديمية البحرية ومنها أحرز، سنة 1989 دورة طارق بن زياد، على شهادتي ضابط ومهندس بحري( بحرية تجارية)
عضو نادي القصّة وعضو هيئتها المديرة (2014-2017).
عضو مؤسس لمنتدى زغوان للثقافة والفكر والأدب.
صدر له:- الحلاّج يموت مرّتين ، مجموعة قصصية 2007،
– العوالق، رواية 2009،.
– كسر شرّ، رواية 2020.
– فتاة الإنسوب، مجموعة قصصيّة 2022،
– في القصّ التونسي، مطارحات أدبيّة 2022،
– دراسات وحوارات، مطارحات أدبية 2023
– يوم تبدلت الأرض، مجموعة قصصية 2024.