منى الصرّاف
أكبر لعنّة ممكن أن تصيبها هو الخوف حين تلتزم الصمت في ضجيج الزحام، وهي تنزوي تحت ظلال عالم الأمس، حتّى الشجاعة أصبحت عبئاً ثقيلاً على كاهلها. حياة طويلة مضنية وطرق امتلأت بالعثرات، بحكمتها جعلتها درب نور لعوالم نسجتها مخيّلتها. كانت تؤمن أنّ قلباً واحداً يعشقها، يكفيها لتستمرّ في العيش، والدنيا دائمة الدوران، فكلّ شيء –أخيراً- سيعود إليها. جسدها قريب من التيبّس، وذاكرة قويّة مريرة تشعرها أنها أشقى مَنْ في الأرض، اما سعادتها الكبرى هو حديثها مع الوسادة. لم يكن من السهل إقناعها أنْ تترك دارها وتنتقل للعيش مع ابنتها الصغرى، اخذ العمر منها مأخذه، أصابها الضعف في كلّ شيء حتّى أنّها بدت أقصر في قامتها لدرجة أنّها بدأت تتلمّس الأشياء إنْ أرادت اكتشاف ماهيّتها قالت لها ابنتها : – ما بكِ يا أمّي.. حتّى الناس بدؤوا يثرثرون.. يتصوّرون أنّنا لسنا راغبين أنْ تعيشي معنا.. أرجوك.. تعالي لداري هناك حيث أحفادك الذين يحبّونك وتحبّينهم. (كانت تتحدّث إلى والدتها بتوسّل، وبصوت يكاد تشعر معه بسقوط الدموع من العين) – أأترك ذكرياتي؟!.. داري؟!.. مازالت صوركم معلّقة حفظتها العيون بذكريات تكدّست في هذه الدار.. جدرانها تكتب سطوراً جميلة رحلت دون عودة.. وأخرى تعيسة تشبّثت بالذاكرة.. أسِرّتكم مازالت تحوي دفء حكاياتكم.. وهو بيتي وتاريخي وقدري ومقامي.. هو أمجادي.. هنا كبرتم ومن هنا رحلتم. – آهٍ.. ياأمي حين كنت صغيرة كم تمنّيت أنْ أكبر لأعرف أكثر عن هذه الحياة.. وحين كبرت تمنّيت العودة صغيرة بين جدران هذه الدار.. دخلت سوق الحياة فوجدت أشياء عجيبة ورهيبة.. حتّى ذكرياتي أصبحت تأتي على هيأة وجع.. أصبحت لا أعرف أيّ الطرق سأسلك.. لذلك.. تعالي معي .. لا يهمّني أيّ طريق سنسلكه ما دمنا معاً.. تعالي نفتّش عن حنايا ضحكات وسعادة سرقناها معاً أنا وأنتِ من الزمن.. يا أمّي.. سأجعل من صدري لك وسادة.ردّت عليها .. – في صدرك أحلام ليست كما هي أحلامي!.. وسادتك لن تدعني أنام!.. آهٍ.. تذكّرت.. لن أخرج من هذه الدار إن لم تكن معي وسادتي!. – صدّقيني.. جلبت لك وسادة جميلة وأفضل من تلك القديمة التي معك صرخت بصوت عالٍ.. وسادتي أريدها ولا أريد هذه الجديدة.. حين أفتقد الأمان خارج داري سأحتضنها. – نعم.. نعم يا أمّي.. هذه هي قد جلبتها معي.. هل تعلمين يا أمي؟.. بأحضانك ودّعت كلّ همومي.. أنيستي أنتِ.. جليستي.. وسادتي وفراشي.. نسمة بين مدّي وجزري.. وأوّل عشق بحياتي.. حتّى حين أنظر في عينيك أشعر باكتمال أنوثتي.. كنتِ صبراً وإيثاراً وتسامحاً وقوّتي لحظة ضعفي.. ما لي أراكِ تريدين الآن التخلّي عنّي؟!!!.. فأجابتها بصوت جهوريّ غاضب: – من قال ذلك؟!.. كلّ ما طلبته أن ترافقني وسادتي!.. أنا ووالدك -رحمه الله- كنّا نضع عليها رأسينا.. هل تعلمين يا ابنتي كم من شعر أسود ورماديّ والآن أبيض حملت تلك الوسادة؟.. كم من حكايات لا تعرفها سواها.. هي عالم أسراري.. حملتني سنوات طويلة وأنا منخورة بالوجع . – أجل يا أمّي.. والله جلبتها معي.. تلمّسيها جيّداً.. هيّا فلنذهب حيث عصافيرك تنتظر بشوق لتعيشي بينهم – نعم هي عصافيري التي تغنّي شيخوختي ضحكت البنت بصوت عالٍ وقالت لأمّها: – ما زلتِ شابّة يا حبيبتي – هه شابّة!!.. أنا الآن في الثمانين من عمري. فرح الأحفاد لتواجد جدّتهم معهم، وحكاياتها التي لا تنتهي، رحلات ساحرة لبلاد العجائب، رحلات بين نور ونار، وأكثرها سحراً كانت عن الوسادة!، كانت تخبرهم: إنّ الوسائد تحمل رسائل كثيرة.. وكلّ الذي لا تستطيعون البوح به أسِرّوا به إلى الوسادة.. فهي كاتمة الأسرار.. ولن تملّ منكم.. إنّها تحكي أجمل الحكايات.. وتحت الوسادة تتنهّد الأمنيات.. وأحلام لا يرويها سوى القمر. كان الأحفاد يصغون إلى جدّتهم بشغف كبير لكنّهم أيضاً كانوا يلاحظون أنّ الجدّة لا تفارق وسادتها أينما ذهبت! أخذوا ينسجون حولها حكايات كحكايات جدّتهم، أخبرهم الحفيد الأكبر.. إنّ في الوسادة سرّاً كبيراً علينا أنْ نكتشفه.. لعلّ جدتي تخبّئ كنزها هناك!.. ماذا لو باغتناها وفتحنا تلك الوسادة لنعرف ما هو هذا الكنز. سألوا جدتهم يوماً: ما هو سرّ وسادتك جدّتي؟! – لن تفهموا هذا السرّ إلّا حين تكبرون.. إنها -يا أولادي- وطني وأمّي.. مع كلّ حكاية ألم وحكاية جديدة ألوذ إليها .. كنت شابّة في العشرين من عمري حين احتضنتها لأوّل مرّة… شابّة تحلم بفارس وفستان أبيض.. كم مِن أسماء طرّزتُها على هذه الوسادة.. يا أحفادي.. هل تشكرون وساداتكم حين تنهضون في الصباح؟ – لا يا جدّتي لم نفعل – عليكم أن تشكروها فهي تجلب لكم أجمل الأحلام.. وتغنّي لكم وقت المنام – حسناً يا جدتي.. سنشكرها كلّ صباح. سألها حفيدها الأكبر -وكان رقيقاً وسيماً ولم يتجاوز الخامسة عشر من عمره، وكان يعشق ابنة الجيران، وبين لحظة وأخرى يغادرهم إلى سطح الدار لعلّه يحظى بلقاء من يحبّ-.. – جدّتي.. اسألي وسادتك.. ما هو الصعب في العشق؟ – حبيبي.. إنّ الصعوبة والشقاء تكمن في الغيرة – جدّتي.. وما هو الأصعب؟ – الأصعب ألّا يغار عليك من تعشق!.. لأنّه –ببساطة- لا يعشقك. خطّط الأحفاد لخطّة مُحكمة فجدّتهم لديها طقوس غريبة حين تريد الاستحمام!، تاخذ أغراض حمّامها الغريبة، كأوراق الشجر اليابس، وصابون أخضر، وليفة غزلتها بيدها، وحجر أسود مخرّم، ومشط من الخشب، ومكحلة من الفضّة، وقارورة عطر من ماء الورد. ما أن دخلت الحمّام حتّى اقتنصوا فرصتهم وذهبوا مسرعين إلى الوسادة، جلبوا معهم المقصّ ليقصّوا خيوطها العتيقة، فتحوها مسرعين، تطاير الريش منها وهم يغوصون داخلها فهي كبيرة الحجم ليست كما هي وساداتهم الصغيرة، تطاير الريش في أرجاء الغرفة وهم لم يشاهدوا من قبل وسادة من ريش، قال أحدهم: كم دجاجة تتصوّرون في هذه الوسادة؟، ردّ عليه أخوه الأصغر: لعلّه حقل دواجن!، أخذ الكلّ يضحك وهم يتلمّسون كلّ جزء فيها دون جدوى، وفي غفلة منهم وجدوا جدّتهم تقف فوق رؤوسهم، تسمّر الأولاد رعباً حينما شاهدوا الجدّة قد اصفرّ لون بشرتها وأصبح كلوْن ثمرة الليمون، وضعت الجدّة يدها على قلبها وهي تتمتم.. – لم أكن أخشى الموت يوماً.. سرّ حياتي كان في هذه الوسادة فهي تاريخي وعنواني. سقطت الجدّة على أرض الغرفة، أخذ الأولاد يتباكون ويصرخون، خاطبها حفيدها الأصغر.. جدّتي.. أرجوك.. سنجمعها لكِ.. سنعيد كلّ ريشة سقطت إلى مكانها.. أرجوك جدّتي عودي إلينا. فتحت الجدّة عينيها ونظرت إليهم بغضب.. إن فعلتموها مرّة أخرى ضعوها في قبري.. بين جسدي وكفني.. أمّا الآن.. دعونا نلملمها سويّاً ونجمع الريشات ونصنع لنا وسادة جديدة بحكايات تجمعنا معاً.