وديع  سعادة  الشاعر القرويّ يتوهّج براءةً ….ومارسيل خليفة يترجم الأمومة سحراً موسيقيّاً

شارك مع أصدقائك

Loading

 وديع شامخ 

 

 

 

أظنّ أن الثّقافة العربيّة تحتاج إلى إعادة صياغة توصيف حقيقيّ  لتقويم الشعراء وإطلاق ألقابٍ واقعيٍة تليق بمنجزهم الإبداعيّ الجماليّ والإنسانيّ .. فقد سئمنا من ألقاب ” أمير الشعراء ،  وشاعر العرب الأوحد ، و الشاعر المفكّر وآيات من الأوصاف  والألقاب، التي  تشير إلى رغبة في تكريس  صنم وظلّ   تيجان  الملوك على الشعراء كواجهات برّاقة ، ولكنّي في محضر نصوص  وديع سعادة ، سوف أذهب إلى الرحم الأول ، الأرض  البكر، من شاعر قرويّ حقيقيّ عربيّ  يقاسم الشاعر الروسيّ الكبير ” يسنين”  اللقب ،  وينازعه بشغف كبيرعلى   قرويّته  المرتبطة بالبراءة والهمّ الإنسانيّ والعمق معاً .

…..

الأمّ طرساً كونيّاً

تحفل الميثولوجيا الكونيّة  والذاكرة الإنسانيّة بموقع مميّز ومركزيّ لدور الأمّ  في الحياة البشريّة ، فالمرأة آلهة الدنيا وواهبة الحياة ، ورمزٌ للخصب والحبّ والعشق والنّماء  والمكر والسّحر ، عبر تمثّلات متنوّعة عبرت فيها الشعوب وفقاً لثقافتها برموز متنوّعة – ليس موضوع مقالتنا هنا –

والأمّ في الثقافة الشرقيّة  تحديداً ، هي  درسٌ في الوفاء وبحر من دموع   متبادلة للوفاء أو الجفاء ،

الأمّ الشرقيّة ، والعربيّة حصريّاً تمتلك تاريخاً من  اختزال  الوجع والحبّ والشّجن والعاطفة السّاخنة ، بخزين من القهر المجتمعيّ الأبويّ ، فهي ضحيّة مرتين ، مرة من ذكوريّة المجتمع وقسوته وأخرى  من أمومة جارفة لا مرافىء لها تجاه خلقها وخصب رحمها وعقوقهم أيضا .

….

  

الأم نصّا شعرياً

……

أمي

وضعَتْ آخرَ نقطةِ ماءٍ في دَلْوِها على الحَبَقَة

ونامت قُرْبَها

عبَرَ القمرُ وجاءتِ الشمس

وظلَّتْ نائمةً

الذين كانوا يسمعونَ صوتَها كُلَّ صباح

لفنجانِ قهوةٍ

لم يسمعوا صوتَها

نادوها من سُطَيْحاتِهِمْ، نادوها من الحقولِ

لم يسمعوا صوتَها

وحينَ جاؤوا

كانت نقطةُ ماءٍ لا تزالُ

تَرْشَحُ من يدِها وتزحفُ

إلى الحبقة

……

 هذا النص  المٌثقل   بالعويل، المداف بطين الفطرة الأولى وعبق الحقل  ونقاء الفطرة الأولى ..

في نصّ سعادة  امتثال غير مشروط لنموذج النصّ النثريّ وفق ” سوزان برنار ” في الإيجازو التوهّج والمجّانيّة ”

السرديّات الحكائيّة  مثل  ألف ليلة وليلة  وسواها قدّمت روح  الأنثى الشهيدة والشاهدة  في وجودها الجسديّ – السريريّ – ، وفي انتمائها لرحم الفطرة ، ومحاولة إبطال فعل السّحر السمّي في ليلة السرير .

وديع سعادة أعاد لنا في نصٍّ قصير / مثخن بالشعر ، حكاية  أمّ .

نصّ لا ينتمي إلى الملاحم ولا إلى السّير الجمعية..

نصّ ذاتيّ قرويّ ، يُشبه نوح مثكول ، نصّ عفويّ ، ومضة شعريّة وجوديّة عميقة .

لقد خاط وديع  لبوس النص بدموعه  قبل حروفه ، وكان هو الأم الغائبة .

بنصّ نثريّ له موسيقاه الخالصة ، بلا  وزن ولا قافية ..

نص ينتمي إلى الحياة بكلّ فصولها .

. وديع سعادة الشّاعر القرويّ  له محاولات  في استعادة ذاته مرّة كأب محترق ، ومرة كإنسان ذائب ،  وهذا النصّ  يستيعد سعادة أمومته . فطرته ،  قرويّته

 …….

كيف ترجم النص   لحنيّا ” موسيقى وأداء” ؟

مارسيل خليفة والنص النثريّ

يحتلّ  خليفة  ذاكرتنا  الجمعيّة  العربيّة  بروائعه النضالية ، في فترة عصر الجماهير  واليسار العربي ، ولا شك أن  قضية فلسطين كانت مركزيّة في الحلم العربيّ ، فصار قدراً هذا التزاوج والعشق بين  ريشة مارسيل  وحروف درويش وسميح القاسم كأيقونة   لحنجرة صائتة  ..

من رحم ” أحن إلى خبز أمّي وقهوة أمّي “

انطلق مارسيل ألى نصّ أمي  بطريقة مذهلة، ولديه خبرة في التلقّي اللّحني  بين نصّ محمدود دوريش ونصّ وديع سعادة ..كلاهما يخاطب الأم ،

درويش خاطب الأم كحاجة وحنين /، سعادة تناغم مع الفطرة الأولى لكينونة الأم  كمركز كونيّ

كصوت جمعيّ صمتت آذان القطيع عن سماعها.

وديع يصرخ لها وعنها،  تناول الرّمز والمرمز ،  باستعارة عالية .. خلق للأم جوقة إنصات ، وليس معادلة لحاجة  وعادة يوميّة ، كما عند درويش.. حنين إلى عادات يوميّة ،  بينما تعملق سعادة في أنسنة الحبق وتشيّوء الأم .

الأم نائمة  والحبق يتدلى ويتذكر ، وآخرون  جاؤوا   شهوداً  للرؤيا

 عن  حبقة نازفة

 وأم نائمة إذ كلّت الدّعاء لهم ؟

….

كيف نجح مارسيل خليفة في عبور النّفق ؟

 اللحنيّة في أداء المبدع مارسيل تمثّلت في تطويع النصّ الدرويشيّ وسعادة  في المفهوم العام للأمومة ..

كان مفتتح الأم  قريبا روحيا  بين النصين ..

ولكنّ مارسيل أدرك المفارقة  الشعريّة في النوع ،فعاد إلى حنين درويش وعبّرها بتنويعات مقاميّة وموسيقيّة مبهرة ، أولها التناغم الهارمونيّ بين آلة العود الشرقيّة والبيانو الغربيّة ..

أظنّه فهماً نوعيّاً  للتحليق بنصّ  تمتدّ  جذروه للذّائقة والمرعى الغربي في التحرر من التنميط السماعيّ القارّ في الذائقة العربيّة لأكثر من 1400 سنة!

فكان لمارسيل أن يكتشف معادلاُ موضوعيّا حسب ” إليوت “،ويبتكر حواريّة موسيقيّة بين العود والبيانو  لتأسيس قطعة لحنيّة موسيقيّة   يسندها  الأداء  الصوتي  المثقّف  لمارسيل .

….

في فنّ المويسقى هناك سحر وأداء وهناك أداء ساحر ، وفي  أداء رامي خليفةعلى البيانو ،  سحر عميق  ذهب بحواسّنا إلى تأمّل أنامله وهي تتكامل في هارموني  مع نغمات العود الشرقيّ  لأداء نصّ شعريّ مغاير ..

لقد نقلنا خليفة الى لحنيّة غير مألوفة ” برأيي الشخصيّ ”  عبر تاريخه اللّحني في التعامل مع نصّ نثريّ لا يمتلك طاقة صائتة،  وهنا لابد من الإشارة الى تجربة خليفة مع سعادة في نص سابق بعنوان ”  الهجرة” ، أزعم أن خليفة تجاوزها كثيراً في الطيران مع تأمّلات سعادة في نصّه الأمومي الجديد .

هنا ينتصر الشعر الوجدانيّ على النزعة الصائتة،و يكمن سحر الموسيقى حين تتناغم مع مستوى عرفانيّ وجوديّ من الشعر الإنسانيّ الخالص .

أنا لست ناقداً موسيقيّا ، ولكنّ خبرتي الكبيرة مع تجربة مارسيل خليفة منذ منتصف سبعينات القرن العشرين ولحدّ اللّحظة ، تجعلني أجاهر برأيٍ شعريّ وجماليّ ، بأن مقطوعة ” أمي ” قد وظّف لها خليفة موسيقى   تتناغم مع حروفها وليس إلى كلماتها وجملها  ، لقد استبطن مارسيل الجو النفسي للنص ، فكما أتحفنا في بداية موسيقيّة من عازف البيانو الكبير رامي خليفة بإشعارنا بقطرات الماء ، ذهب إلى استخدام البيانو كإيقاع  مصاحب لأدائه في الغناء ، بعد أن استراح العود قليلا ، كان البيانو يؤدي جملاّ موسيقية تتساوق مع أداء خليفة، وربّما تبدو متكرّره ، ولكنّها كانت تشترك مع دندنات مارسيل على العود وغنائه  لرسم صورة كليّة لترجمة موسيقيّة   للبناء التاملّي للنصّ .

ولعلّ ما يدعم فكرتنا حول  التناغم والحلول بالمعنى الصوفيّ بين الكلام والموسيقى والأداء ، هو تلك الخاتمة الذكيّة التي أمعن مارسيل في استخدام تكرار كلمة ” أمّي ” ليشاكل مراثي الأم الكبرى ، بتكرار موسيقي  بياني يجاري التكرار البلاغي في  سحر الشعر العربي ، ” أمي .. أمي .. أمي أمي .. أمي أمي ”

كأنه يستعيد الماء قطرة قطرة وينهض بالحبق الذي أنسنه وديع سعادة   إلى استعادة الأم  إلى  الحياة، عبر دورة الماء في جماليات الحياة وليس بالطبيعة فقط  .

دورة موسيقيّة كاملة فيها تبخّرت الأرواح شعراً ، و رسمت  الموسيقى غيومها وبروقها  وتبللّت أمزجتنا   بمطر الأداء صوتاً .

 

شارك مع أصدقائك