مانترات الهياكل المضيئة.. قراءة في نص الشاعر طالب عبد العزيز

شارك مع أصدقائك

Loading

( الهياكل المضيئة) قراءة مختلفة.

عادل مردان
أكتبُ عن قصيدة {الهياكل المضيئة} لأنها تضعني في ذكرى ألفة الأشياء، مقارنة بتلك التي لا استجيب لها خاصة، ذلك الإلحاح، على خلق لغة تراثيّة رتبية ليس هذا ذماً، بل إن {الهياكل المضيئة} تنتمي إلى الكلام، الذي يفتت اللغة، حسب رأي “رولان بارت” لقد فكك الكلامُ، لغةَ طالب عبد العزيز التي يريدها جزلة، إلى لغة شفافة محببة، إن ما يراد به من إضاءة {الهياكل} هو حاجة حياتية للبيئة المخرَّبة، التي يسكنها الشاعر، حيث أفنى فتوة الحالم.
وهو من العنوان يريد من خرائبنا جنائن، يكللها السفرجل والنخل، بعذوق ذائبة، مزيلاً خراب المكان، بنوع مصمم بمعمارية الضوء، لهياكل مشعّة، يفترضها، كي يجد “أبو الخصيب” وضَّاءً، مضيئاً، ضوءًا مثلما كان النخل باسقاً في اكماته. وباستغراق الذاهب إلى الثكنة، يوبِّخ معاتباً الأفقَ الأبيض، بأنَّ الذي يحثُّ الخطى إلى مدرسة الحروب العقيمة هو أكثرُ استحقاقاً بالتمتع، والاستحواذ من إضاعة الوقت، وهدره، بعكس مبادئ الشعر السامية. لا أعتقد أنَّ النداءَ إلى الأفق بل للوقت الجائر، الذي عشناه، حيث لا التفاتة خيال تجعلُ من اللحظات ما نستغرق في ذواتها.
***
تأخذ اللازمة، ذات الإيقاع المؤثر معظم جسد النص، وهو إيقاع ألم الشاعر الخاص الذي يحرج منظومة الوزن التقليدية، التي لم تعد تساير عذابات البشر المتجددة. تكررت الجملة الاسمية اللازمة “معني أنا” كثيراً في النص، أثبتها هنا، مع اختلاف التراكيب:
“معنى أكثر منك بهذا
معنيٌّ بهذه
معني أكثر منك بـ
معنيٌّ أنا أكثر منك بـ
أكثر من معنيٍّ أنا بـ
معنيٌّ أنا بـــ
معنيٌّ أنا أكثر منك أيها
معنيٌّ أنا أيها
معني أنا بـ
معني أنا بأكثر منك
معني أنا أيها
معني أنا بـ
معني أنا بأكثر من
معني أنا ايها
معني أنا بــ
أكثر منك أيها، معني انا
معني أنا بـ
معني أنا بـ
معني أنا / أكثر “.
من هذه التموسقات يأخذ النصُّ انساقه الخاصة، سأعود لاحقا إلى المقاطع أذ اثير مفهوم المانترات والمانترا “مقطوعة من الشعر الهندي” تستخدم للعلاج النفسي في مراكز “التأمل” المنتشرة في العالم، تستخدم النصوص القصيرة في إثارة التأمل، بأوقات مختلفة في الصباح مثلاً، والأكثر قبل النوع. المانترا هنا مجموعة من الترنيمات البدائية حيث تمثل الحيز الموفور للصحة والعافية كما تصور “نيتشه” يتم من خلالها علاج المتضجرين بأرقى مشغل روحي، يسميه المسحور به بـ “السحر الشافي”. سابدا بتقسيمها واسميها “مانترات” وساطلق على عبارة “معنيٌّ أنا” بالترنيمة البدائية، مسلسلة حسب ترتيبها.
المانترا الأولى
يخرج الشاعر ضجراً، تعساً بعد سكرة البارحة، مرتدياً البدلة القبيحة “الشاعر يقول.. والقارئ يتخيل ” أخرج من جيبي “أنا القارئ المعنى بالأشياء أيضاً” تلك القصيدة، واسلي نفسي، من الاكتئاب العام، حال أبناء وطني، لا تشتموا الضجر، “الضجر مرض الوعي الجليل”. في الباص الخشب الذي يترجرج “كالمركب السكران” أبدا بتلاوة علاجي:
“معنى أنا أكثر منك بهذا الصباح
أيها الأفق الابيض
معنى بهذه الشموس
التي تنطفئ على رملك كل مساء
معني أكثر منك
بقطيع السحب هذا
باوزك وشياهك ورعاتك
بالمرأة الحليبية على الشرفة
تكوّر شعرها إلى الخلف
أو تمسح عن وجنتيها القبل
معنيٌّ أنا أكثر منك بهذا – :
معنيٌّ بهذه -: معنيٌّ أنا منك بــ”.
تتكون المانترا من ثلاث ترنيمات بدائية، الأولى وهي الأطول على اسم فاعل، اسم تفضيل، والضمير الشخصي واسم الإشارة للمذكر بحرف جر، إما الثانية فقد اكتفى اسمُ الفاعل بالاقتران باسم الإشارة المؤنث، والثالثة اسقط منها الضمير (أنا) واتصال بحرف الجر (بـ).
المانترا الثانية
الترنيمة البدائية، أنقي واشف، مما يسمى “بالغنائية” أي أن الذين يهتمون بتصنيف مقصودتنا الشعرية بذلك لم يحظوا الآن بالترنيمة الفلكلورية. لم تكن مقصودتنا “ونحن ملاكها القراء” إلا مجموعة من ترنيمات منعشة:
“أكثر منك أيها/ معني أنا أكثر منك بالنارنج الأصفر
أيها الفلاح الذي غرسته ذات يوم/ أكثر من محياك الكالح
معنيٌّ أنا بالفرامل تغرغر باردة على الاسفلت
بالمركبات المسرعات
بالجالس النحيل قرب النافذة
وهو يومئ دون أن تراه حبيبته
معنيٌّ أنا به
بكفِّه التي عادت خالية
معني أنا
اكثر منك أيها الحوذي بخيولك البيض”.
احتوت المانترا الثانية، على أربع ترنيمات بدائية. معني أنا أكثر منك بـ “أكثر من معنى أنا بـ” : “معني أنا به/ معنى أنا أكثر منك أيها بـ”.
في الترنيمة الثانية، تقديم اسم التفضيل “أكثر” على اسم الفاعل. من الضمير وهو مركز أنا = أكثر من أنا التموسق معني أما محياك الكالح، معني أنا أما الترنيمة الثالثة فارتبط اسم الفاعل، بحرف الجر والضمير أما في الرابعة، يدخل النداء “أيها” في التركيب. أن لغة طالب عبد العزيز عذبة، سيالة بسيطة، ينتقي فيها أفعاله بدقة والمعجم النهري الذي يعمل عليه توضحه كلمات تترجم البيئة المعاشة “سفرجل سفن – نهر – قوارب طافية، سواحل في جسدي، سلال ملای بالاسماك، الأشرعة المحطمة، السفن الراسية، النوارس الميتة على ألواحها. الخ” حيث ديوان “تاريخ الأسى” تحفة شاعرنا الخصيبي حتى الأن مثال لهذا المعجم الشخصي. وهو معجم يهمس به عن جنوبه المتنوع الحزين.
المانترا الثالثة
بعد تاريخ الاسى أخذ شاعرنا يهتم اهتماما زائدا باللغة التراثية مما جعلها في الديوانين الأخيرين جزلةً، بعيدة عن الكلام.. الذي يزيح تراكيب اللغة البالية، ولكن في الهياكل المضيئة فأنَّ اللغة حديثة مقارنة بما كتبه بعد:
“معنيٌّ أنا أيها الصياد بشباكك وصبرك
تفرحني أكثر منم الصباحات
وكما سلالك ملأى بالاسماك
مليئة روحي بالحب
معني أنا بالسفن الراسية
بالخشب المنخور على الشطآن
بالاشرعة المحطمة
بالكواسج الجائعة
بالنوارس الميتة على الواحها
معني أنا
أيها البحار الشيخ
وترجف السواحل في جسدي
وتفزعني القوارب الطافية وتلويحة الغرقى”.
ثلاث ترنيمات : اثنان يدخل في تركيبهما النداء أيها، وواحدة حرف الجر بــ
معني أنا ايها – الصياد- أيها : معني أنا – البحار الشيخ – أيها
معني أنا – السفن الطافية – بـــ
يتضح ما سميته بالمعجم النهري في هذه المانترا أكثر بكل ما يتعلق بالنهر، الصياد الشباك، سلال الأسماك – الخشب المنخور، الشطان – الكواسح الجائعة، وتلويحة الغرقى.. يهتم شاعرنا بالأفعال، ويُسحرُ بها ولاني مجايله ، فأنه يفاجئني دائماً بفعل حركي على الدوام “تنطفئ، تكور – تمسح – تغرغر – يومي ترجف – تفزعني – جالت – القيته- يطاردني- تقصدين”.
هذه الافعال تجعل النص متحركاً “فيزيائياً” فالنص الميت هو نص غير متحرك، يكون الشاعر وصَّافاً، فيه، لا أكثر، فما أكثر النصوص الميتة في الجرائد الصفر!
في المانترا صورتان متناقضتان تمنحان الحيوية “ترجف السواحل في جسدي” و” تفزعني القوراب الطاقية” الأولى تحيل إلى نبض الحياة، والثانية إلى الموت، في تلويحه الغرقى غير المجدية.
المانترا الرابعة
يستمر المشهد البحري امتداداً لما هو نهري، فشاعر الأنهار يحلم بالبحار دائماً. أحبذ إن ننسى إن صاحبنا يكتب ترنيماته البدائية، في الباص الخشب، هذا حسن جداً لأنه يحيلنا إلى العام “أكثر الأحيان تنجز الصياغات الأخيرة في غرفة بيضاء”:
“معنيٌّ أنا
بالبحارة الهنود أكثر من ذويهم
واخشى على أفئدتهم من الغرق
معنيٌّ أنا بالخناجر
أكثر منك أيها القتيل
وكما جالت في خاصرتك
معني أنا أيها القاتل بيدك الصَّماء
بالدم الأبيض على ثوبك
بخنجرك الذي القيته في النهر
وكما تطاردك الأشباح
يطاردني خيالك الأحمر
معنى أنا أيها السجان الذاهب القلعة
بمفاتيحك الألف وغرفاتك المظلمة
معنى انا
أكثر منك أيها الجندي
بزوجتك التي تركتها في السرير
بشعرها الذي سقط الثلج عليه
بخطواتها آخر الليل
وقد تأخرت كثيراً ..
معني أنا
بيكائها المر على الأريكة”.
ترنيمات المانترا الرابعة والأولى والثانية مربوطة بحرف الجر بـ “بالبحارة الهنود بالخناجر” والثالثة ارتبطت بالنداء “أيها” كذلك الرابعة “أيها السجَّان” والخامسة “أيّها الجندي” والسادسة جاءت كاملة “معنی أنا أكثر منك ايها بـ” والسابعة اكتفت الجر “معني أنا بـــ”.
يبرز هنا مفهوم “الحذف” المقطع الآتي “(بخنجرك الذي القيته في النهر” إذ يكون عمل الحذف معاكساً لعمل التكرار موسيقياً، فيجعل الشعر، في الاختصار والعام). اسمى هذه المانترا (مانترا القتل والأشباح ويقوم فعل -جال- بمركبة للمقطع خاصرتك)، و(كما جالت في خاصرتك جالت في خاصرتي) وبعد أن ينتهي البكاء على القتيل يبدأ البكاء على القاتل، لأنه مشوه روحيا يجهل بشاعته.
ينجح الشاعر في انجاز استعارة “الدم الأبيض” وهي دلالة على اللامبالاة، أما استعارة “خيالك الأحمر” فتدل على عمى “الضمير” كذلك تعطى دلالة على الخوف، ففي أرضنا سجون كثيرة، ويأتي نداء الترنيمة هنا للسجان الذاهب إلى قلعتنا المخيفة بأنواع القتل الوطني. مظلمة هي تلك الغرف ، لقد جاء الجمع غرفات، وذلك يخصُّ نفس السجان المشوهة. مولع طالب عبد العزيز بالتسميات البلاغية: الشيب – الثلج، شعرها الذي سقط الثلج عليه الشيب مبكراً. أما الفعل “سقط” فهو يحقق غرض الانتظار، فلو كان “تساقط” لذهب المراد الأنجع ثم يأتي انزياح آخر “البكاء المر”.
المانترا الخامسة
معني أنا أكثر منك أيها العصفور
بالشجرة المحشوة بالغروب
بأغصانها الطاهرة
با جنتحك المليئة بالرفيف
أكثر منك أيها المطر
تغسل الأرصفة والتماثيل
الجنائب المطلية بالقار
تغسل الأشرعة
الشواطئ البعيدة
الفنارات المعتمة
معنى أنا أيها الشمعدان
بنورك الذابل على الرخام
بتاجك الأصيل
بالعصا المركونة تحت المنضدة
بالعبد الساحر على محظياتك
أيها الأمير معني أنا
معني أنا
بأكمامك المطرزة بالنصر.
الترنيمة الأولى كاملة، والحذف يأتي، بعد نداء العصفور، أي معني أنا أكثر منك بالشجرة – بأغصانها – بأجنحتها المليئة بالرفيف. وفي الثانية حذف اسم الفاعل والضمير “معنيٌّ أنا” واقتصر على اسم التفضيل أكثر منك، أما لفظة “الجنائب” فهي موحية والترنيمة الثالثة “معني أنا” مرتبطة بالنداء -أيها- أما الرابعة والخامسة فجاء الازدواج مجرداً الا من حرف الجر “معنيٌّ أنا معني أنا” وهو موسيقياً بدء الختام سمفونياً، بواسطة التكرار في المانترا تتنوع الصور “الشجرة المحشوة بالغروب، والمغيب هنا انجح لفعالية المصدر الميمي”، “بالعصا المركونة تحت المنضدة” وهي” آلة الوعيد للأب الشرقي” باجنحتك المليئة بالرفيف، العلاقة الحميمة بين الشجرة والطير، “بنورك الذابل على الرخام”، “بأكمامك المطرزة بالنصر” وهنا إحالة إلى اللون الأرجواني وهو اللون الملوكي أيضاً نلاحظ الالتفات البلاغي في تغير الضمير، “بأغصانها – باجنحتك” في مقطع الشجرة.
المانترا الأخيرة
أكثر منك ايها الماء
معني أنا
بوعائك الزجاجي اللاصف
بذبالة النور على شعرك أيهـ
الصبي، بصليبك أيها القديس
معنى أنا
بالغائب أكثر منك أيهـ
الحاضر
أيتها الطبيعة الخرساء
بحفنة العشب على قبور قتلا
المجهولين
معني أنا
معني أنا
أكثر مما تقصدين .
في الترنيمة الأولى تأخير “معنىٌّ بـ” وتقديم “أكثر منك أيها” وفي الثانية يظهر مفهوم الحذف، وبنفس التاخير، أكثر منك معني – بوعـائك الزجاجي- بذبالة النور – بصليبك ثم الترنيمة الثالثة مقرونة بحرف الجر “معني انا بـ” بعدها يشرع بنداء الطبيعة الخرساء “أيتها” ليختم بالترنيمة الرابعة الخامسة بمجاورة “أكثر” ومما والفعل المضارع. “اسم فاعل + ضمير الشخص+ اسم فاعل +ضمير الشخص + أسم التفضيل + مما +فعل مضارع” أكثر من أن تريدين لقتلاك، يزدادون بلا “قرص هوية” معنى أنا أكثر من هذا القصد والذي هو تكرار، لطموح الطبيعة، الممل لحب الفقد.
الإنارة هامة جداً، في المتن فقد حققتها الاتصالات الكثيرة:”الصباح- الأفق الأبيض- الشموس- المرأة الحليبية (إنزياح حاذق) التاريخ الأصفر – خيولك البيض الصباحات- الدم الأبيض- خيالك الأحمر – سقط الثلج –الشمعدان- النور الذابل على الرخام -التاج الأصيل (بالذهبي) الأكمام المطرزة الأرجواني” الوعاء اللاصف- ذبالة النور هذه الاتصالات تحقق إنارة مباشرة للنص، وهناك اتصالات غير مباشرة تزيد إنارة النص من خلال عكس المعنى، ومنها الشموس التي تنطفئ على رملك كل مساء = المغيب عكس الشروق، بقطيع السحب هذا = الجو الغائم عكسه الصحو، الفنارات المعتمة عكسها المضيئة. هل أغفلت شيئاً، نعم أشياء كثيرة منها مقطع “تكور شعرها إلى الخلف” وهذا ما يسمى بـ “الكعكة الفرنسية”.
تكون فيه المرأة أكثر جمالاً، تحملاً للانتظار في الشرفة. لا أنسى انطباع الرائي محمود البريكان طيب الذكر وميله لهذا النص، فهو يسميها قصيدة غنائية لكني أدعوها “تأملية” وهي عبارة عن “مانترات”، “تحتوي على ترنيمات بدائية، وبين هذا وذاك، فرق واسع فكرياً، فكلما اقترب الشعر إلى بدائية الأشياء، أزداد الانجذاب إليه، فيحقق سحرنا به.
تلكم المانترات المصنفة تصلح للتأمل الحر، لرواد الحزن المزمن الهبة الضوئية التي تكشف لنا أسرار الحياة والوجود. أحببت من القارئ الكريم، أن يحاول رسم ست خطاطات للتسلية، حسب محتويات التراكيب الكثير منا يعتبر القصيدة “ويتمانية” والحق يقال إن طالب عبد العزيز من عشاق ذي اللحية التي تطرزها الفراشات الملونة. مذكراً بالتأثير الفعال للفريد روبرت فروست الذي يعرّف القصيدة الحديثة “حديقة دون سياج”، أي الأكثر تأملاً.
شارك مع أصدقائك