هنري ميلر.. حين تصبح الحياة رواية كاظم حسوني

شارك مع أصدقائك

Loading

هنري ميلر.. حين تصبح الحياة رواية
كاظم حسوني

تُمثِّلُ كُتُبُ هنري ميلر ورواياتُه سيرتَهُ الشخصيَّة؛ إذ تناول حياتَه وسجَّلها في جميع أعماله، خاصَّةً في (مدار السرطان) و*(مدار الجدي)* و*(عملاق ماروسي)* و*(ربيع أسود)*، وسائر كُتُبِه. وكان محقًّا حين أبدى اعتراضَه أوَّلَ مرةٍ لكاتب سيرته وصديقه برادلي سِمِث حينما اقترح عليه عزمه القيام بكتابة سيرته، لأنَّه يرى حياتَه في كُتُبِه. ولمَّا قَبِلَ العرضَ أخيرًا على مضض، أوضح قائلًا: “إنِّي كتبتُ قصَّةَ حياتي في كُتُبي، أكثرَ من أيِّ كاتبٍ آخر.”
وأشار كاتبُ سيرته برادلي سِمِث: “أمضينا مدَّةَ ثمانيةَ عشرَ شهرًا، تحدَّثنا عن حياة هنري، وكانت الأيَّام الأولى في (بيغ سور) و*(باريس)* و*(نيويورك)*، وكانت حواراتُنا تتضمَّن أسئلةً وأجوبةً عن الكتابة والرَّسم، والحياة والموت”.
ويمضي برادلي في القول: “إنَّ هنري ميلر كان أحيانًا يُبدي اعتراضَه مجدَّدًا على محاولتي للكتابة عنه، قائلًا: إنَّه ليُذهلني، محاولةُ الوصول إلى إعدادٍ كاملٍ ونهائيٍّ لحياةِ المرء أمرٌ غيرُ ممكنٍ أبدًا، سواءٌ بواسطة الكلام، أم الكتابة، أم الصور، أم التحليل؛ فكلُّها محاولاتٌ لا تستطيع أيةُ طريقة، أو الطرقُ كلُّها مجتمعةً، أن تُلِمَّ به، أيْ بالسِّرِّ المُراوِغ الكامن في حياةِ كلِّ شخص.”
ثم يعلِّق: “حين انزلقتِ السَّنَة، غدوتُ أعرف هنري معرفةً أفضل؛ إذ تنامى لديَّ حنانٌ واهتمامٌ كبيران.”
لذا، جاء كتابُ برادلي سِمِث، كاتبِ سيرة هنري ميلر وصديقِه، مشتمِلًا على سبعةِ أبواب، وهي: (الكاتب، بيغ سور، الرسم، باريس، الطفولة، تاريخ زمني).
وممَّا يجدر قولُه، أنَّ ميلر كان أحد الذين احترفوا الكتابة في زمنٍ متأخِّر نسبيًّا، وكان قد عانى كثيرًا قبل ذلك من شظف العيش؛ حيث بقي لفتراتٍ في فقرٍ مدقع.
قال: “إنَّني جرَّبتُ كلَّ شيءٍ وأخفقتُ، إذن، فلأجرِّبِ الكتابة. الحقُّ أنَّني كنتُ خائفًا من أن أغدو كاتبًا، لم أكن أظنُّ أنَّ لديَّ القدرة. كانت الكتابة أمرًا كبيرًا، مَن أكون أنا حتى أقول: أنا كاتب؟ وأعني كاتبًا مثل دوستويفسكي، وجيمس، ولورنس، ومَن إليهم.”
ولعلَّ حياتَهُ الصاخبةَ، التي أغنتها التجاربُ المتنوِّعةُ، والانعطافاتُ الحادَّةُ، والتشرُّدُ، والزواجُ لعدَّة مرَّاتٍ، واتِّخاذُ العشيقات، ثم التنقُّلُ الدائمُ عبر المدنِ الكبرى لبلدانِ أوروبا، وممارستُه لشتى الأعمال والمِهَن، قد دفعته لاحقًا إلى أن يصفَ كلَّ ما لقيَهُ وما عاشهُ، كاشفًا إيَّاهُ بجرأةٍ فضائحيَّةٍ، هدفت إلى إدانةِ الفسادِ وانهيارِ القِيَمِ في المجتمع الأمريكي، ناشرًا فضائحَه، مُعَرِّيًا إيَّاه، كما في رواياته (ربيع أسود) و*(مدار السرطان)* و*(مدار الجدي)*.
وكان هذا مدعاةً لمنعِ كُتُبِه في نيويورك وباقي الولايات المتحدة لفترةٍ طويلة، حتَّى دُعِي بـالكاتب الفضائحي، والمُشاكسِ غيرِ الاعتياديّ.
والقائمة طويلة بكلماتِه الفاحشة، ولعلَّه في ذلك كان يَحذو حذو مَن سبقه من كُتَّابِ الغرب الذين نَبَذَهُم المجتمع، أمثال: بودلير، وإدغار آلن بو، وأوسكار وايلد، وفيرلين، وغيرهم.
هذا ما يُؤكِّدُه برادلي سمث، مشيرًا إلى أنَّ “بو” كان سيِّئَ السُّمعة إلى حدٍّ كبير، وبودلير كانت سمعته أكثر سوءًا، ثم بليك، ونيتشه، ومجنونٌ مثل سترندبرغ.
أيُّ تمرُّدٍ؟ أيُّ عقابٍ للمجتمع؟ هؤلاء الأشخاص كشفوا انهيارَ العالمِ الحديث. لقد تنبَّؤوا، ورأَوا ما يحصلُ للعلم والإنسان، وبلغوا صُلبَ معضلاته.
ثم ينتقل برادلي ليُحدِّثنا في فصلٍ آخرَ عن صداقاتِ ميلر المتعدِّدة، وعلاقاتِه الحميمة والممتعة بالألوانِ المائيَّة؛ حيث عُرِضَت لوحاتُه وانتشرت في مدنٍ أوربيَّة عدَّة. وكان للرسم شأنٌ لا يقلُّ أهمِّيَّةً عن الكتابة.
أمَّا صداقتُه للمرأة فيقول: “إنَّها تُضفي شيئًا على الجوِّ، تجعل الحياةَ أكثرَ جمالًا، وأفضلَ دومًا، أن تكونَ النساءُ حولي، لا الرجال.”
ويأتي بعد ذلك اهتمامُه وولعُه بالسينما والكُتُب؛ إنَّه مدمنُ فيلم، ومدمنُ كتاب. لكنَّهما ليسا سواءً في التأثير؛ فالفيلم لا يظلُّ معك كما يظلُّ الكتاب، “الكتاب لحمٌ حقيقيٌّ وجوهر، وأنت تعيش معه وتغتذي به، أمَّا الفيلم، إنْ كان جيِّدًا، فيمنحك لحظاتٍ مُدهشة.”
كما عُرِف عنه شغفُه بالسَّفر والتنقُّل؛ إذ طافَ أوروبا أكثر من مرَّة، وتشرَّدَ في شوارعها لأيام، وكان يمضي لياليه في الأماكن العامَّة.
إلا أنَّ ثمَّة مكانًا واحدًا استأثر به لنفسه وارتبط به بقوَّة، اتخذه كـفردوس ليمكث فيه ردحًا من الزمن دام سبعة عشر عامًا، هو (بيغ سور).
في هذه المدينة الصغيرة، تزوَّج مجددًا من حانيتا مارثا، التي أنجبت له توني وفال.
فماذا كانت (بيغ سور)؟
“جبالٌ وسماءٌ وبحرٌ، وأُناسٌ قليلون. كانت عزلتُها رائعةً لي، كان لنا بُستانٌ، ونحصل على الرَّخويات والسَّمك من البحر. وبعد أن تركتني زوجتي، بقي الطفلانِ معي. اعتدتُ أن أستيقظ ليلًا لأُطعمهما، والأكثر من ذلك، أنني كنت أُغيِّر حِضائنهما. وكان عليَّ أن آخذ الحَضائنَ في حقيبة، حقيبةِ غسيلٍ كبيرة، وأمشي ستَّةَ أميالٍ لأبلغَ الينابيع الساخنة، وأغسلها في الماء، ثم أعود بها إلى البيت… ستَّة أميال… في (بيغ سور) هدوء.”
ويواصل ميلر:
“كنتُ أنام مبكرًا، فلا تلفاز، ولا مذياع. أكون في الفراش مبكرًا، وأستيقظ مبكرًا، وأرى الشمسَ تطلع، وبعد الفطور أذهب مباشرةً للعمل، وأظلُّ أكتب حتى الظهر. ثم، ما بعد الظهر، إنْ وجدت لديَّ قوَّة، أخذتُ أرسم. وفي هذا كلِّه، كنتُ أجد وقتًا لألعب مع الطفلين، وأصطحبَهما معي إلى التلال والغابات.”
ثم يعود برادلي كاتبُ السيرة، ليُضيف شيئًا مهمًّا عن ميلر الرسام، مُبيِّنًا حبَّه العظيم والمبكر للفن؛ إذ كان يقضي أوقاتًا طويلة يتفحَّص الكُتُب الفنية، يدرس اللوحات والتخطيطات، يُناقش الأساليب والتقنيات والفترات.
وعن هذه البدايات، يقول ميلر:
“كانت تسليتي الوحيدة الحصول على ورقٍ أرسُمُ عليه، أيِّ نوعٍ من الورق؛ ورقِ التَّغليف، ورقِ الجزار… كانت فترةً شاقَّة، لكني بالرغم من ذلك لم أفعل شيئًا. أحسستُ بأنني لا أملك موهبةَ التخطيط أو الرسم. إلا أن التغيير حدث فجأة بعد مدَّة، حين كنت أتأمَّل أحد ألبومات (جورج جروز) بالألوان المائية. كانت على الغلاف صورةُ رجل، استنسختُ صورتَه، وكان استنساخي جيِّدًا، قلتُ: وهكذا بدأتُ، وباتت كلُّ صورةٍ عندي بمَنزلة مغامرة جديدة، كما هو شأني في الكتابة. إنني لا أُجهِّز أيَّ شيء في ذهني قبل العمل، مُطلَقًا!”
وكان لا يُطيق تلقِّي دروس الفن أو تعلُّمها في الجامعة. يضيف برادلي: “فميلر مُتمرِّد، وقف حتى في شيخوخته ضدَّ التعلُّم في المدارس، ومن قبلُ، كان قد هجرَ الدراسة في إحدى جامعات نيويورك بعد أربعة أشهر، معترضًا على المناهج الدراسية، ولم يعد بعدها. قال: (أؤمن بأن كلَّ المدارس فَخَرِيَّة، إنَّها تَقتُلُ التطلُّعَ والرغبةَ في التعلُّم. الفنَّانون كلُّهم قتلتهم المدرسة! وحالما يخرج الأطفال من الروضة يبدأ غَسلُ الدماغ. حين تكون خارج المدرسة تتعرَّف على حاجاتك بنفسك. الذهاب إليها يعطي وَهْمًا بأنَّ المعرفة تصنع فنانًا.)
ثم ينتقل مؤلِّفُ السيرة موضِّحًا ما لباريس من مكانةٍ مهمَّة في حياة هنري ميلر؛ إذ ارتبطت هذه المدينةُ الكبيرةُ بتكوينه. وقد وصفَ كلَّ ذلك في رواياته:
“رَوَيْتُ كلَّ شيءٍ في (مدار السرطان) عن طبيعةِ حياتي بباريس، وأماكن سكناي. عشتُ من شارعٍ إلى شارع، من فندقٍ إلى فندق، من استوديو إلى آخر، لم يكن عندي عنوانٌ محدَّد. باريس هي المدينةُ التي منحتني الشعورَ بالحرية العُظمى.”
وعلى مدى صفحات الكتاب، يسجِّل برادلي الكثير عن ميلر، بعد أن ظلَّ ملازمًا له لسنةٍ ونصف السنة، تنقَّل خلالها معه إلى عدَّة مدنٍ وأماكن.
ويروي: “لقد وجدتُ، بعد أن أمضينا قليلًا من العمل، أنَّنا متآلفان، وأنَّ أحاديثَنا كانت مثل استكشافاتٍ مستمرَّةٍ في حقيقة الماضي. وكم كانت ساعات الحديث ممتعة، بينما كان هنري يروي قصَّةَ حياتِه، ويُسجَّل كلُّ شيءٍ على الشريط…”

 

شارك مع أصدقائك