د. نجمة خليل حبيب
سدني أستراليا
29/02/2024
تقديم
قديماً تأسس الشعر على مبدأ المحاكاة، ولكن الفلاسفة، (أرسطو على وجه التحديد)، أدركوا أن الشعر لا ينقل الواقع كما هو، بل يحوله إلى واقع جمالي. فعمل الشاعر ليس رواية ما وقع، بل ما يجوز وقوعه. بيد أن البلاغين وضعوا معياراً محدوداً لهذا “الانحراف” عن الواقع، ووضعوا ضوابط يتحرك الخيال في حدودها توضح ما هو مسموح به وما هو مرفوض في العملية الانحرافية. وحديثاً، تغيّر هذا المبدأ، وأصبح الشعر “يقول شيئاً ويعني شيئاً آخر”[1]، وأن من يبحث عن هذا العالم داخل الشعر يكون واهماً ولا علم له[2]. وفي سياق هذا التحول جاءت دراسة أبو اليزيد الشرقاوي (شعرية غياب المرجع- تفجير اللغة)، لتبحث في السياق التاريخي لرحلة فك الارتباط بين الدال والمدلول[3] من خلال الاحتفاء بفكرة المرجع، لا على أساس حيوية المرجعية في الكلام، بل كمحاولة للإجهاز على الدلالة المرجعية للغة[4]، وهذا ما استدعى وقفة تاريخية إزاء مفهوم المرجع، وبيان تعامل الدارسين معه، تمهيداً لتناول الدال بعيداً عن مدلوله.
أعطى أبو اليزيد الشرقاوي لمحة عن السياق التاريخي لنشوء هذه الفكرة موضحاً أن لها إرهاصات عربية تراثية لم يحسن باحثونا استغلالها وانتظروا حتى جاءتهم الإشارة من الغرب على يدي المفكر السويسري فرديناد دي سوسير والإشارات اليه وما ترتب على هذه المحاولة في التراث الأوروبي من أحلام شعرية قدمها شعراء يطمحون بالوصول في الشعر إلى حد “النقاء” والخلو من المرجع، فتتحول القصيدة بذلك إلى لغة تتحدث عن نفسها، وهذه هي أدبية الأدب. وكلما نجحت اللغة في أن تكون إحالتها داخلية، كان نجاحها في منظور النقاد، وهذه هي الوظيفة الشعرية عند جاكوبسون، و”سمطقة القصيدة”[5] عند ريفاتير هو التشكيل الفني للحداثة
والمرجع كما عرّفه اللغويون هو العلاقة الموجودة بين الكلمات والأشياء. وهذه الفكرة تعني أن الكلمات تشير إلى أشياء. وبعدها يختلف اللغويون في هذا الشيء فقد جعله بوجراند “العلاقة بين العبارة من جهة وبين الأشياء والمواقف في العالم يتم فيه التبادل اللغوي، فقال: “لكي تكون المرسلة فاعلة فإنها تتطلب سياقاً ترجع أليه، (وهذا ما يسمى كذلك في مصطلح يشوبه بعض الغموض، “المرجع”). وهو سياق يمكن فهمه من قبل المرسل إليه، إنه كلاميًاً أو قابلاً أن يكون كلامياً”. وجعل “فرجيه Fredge ” القضية ثلاثية الأبعاد: الرمز والمعنى والمرجع، فقال: إن العلاقة الثابتة بين الرمز ومعناه ومرجعه، لهي من النظام بحيث أن كل رمز يقابله معنى معين، وكل مرجع يقابله مرجع معروف ومحدد بينما يكون مرجع واحد (شيء واحد مشار إليه) له ما شئنا من الرموز. وعلاوة على ذلك فإن معنى واحداً قد يكون له في لغات كثيرة، وأحياناً في لغة واحدة، عبارات متعددة[6].
أما تفجير اللغة فمصطلح عربي ظهر في سبعينيات القرن العشرين، وهو واحد من عدة بدائل لغوية منها التمرد التشظي، الهدم والتشذير وهي كلها تدور حول فكرة تأسيس لغة جديدة، وتبنت هذه الفكرة مجلة “إضاءة”، فحمل شعراؤها في عددها الأول يناير 1977، على التراث العربي، القديم منه والحديث واعتبروا الثورة الشعرية التي بدأتها نازك الملائكة في منتصف القرن العشرين غير كافية، لأنها لم تنسف الشعر من أساسه، وكانت ثورتها راديكالية فقط بينما أصرّ الشعراء على اعتبار الشعر جهد لغوي فقط[7]. وأطلق عليها كمال أبو ديب لقب “لغة الغياب” واعتقد جبرا إبراهيم جبرا، أن المقصود بتفجير اللغة هو إعادة تشكيل القرائن بين المفردات[8]. ونفى حسن طلب، “جوهرجي اللغة ومهندس القصيدة”،[9] وجود مقياس محدد نحكم به على هذه القصيدة أو تلك إذ أنه لكل قصيدة مقياسها ومعيارها الخاص
* * * * *
وقد وقع اختيارنا على ديوان غسان منجد[10] (قنديل لسفر الخريف) كونه يمثل أنموذجاً ناجحاً “لشعرية غياب المرجع” و”تفجير اللغة”. ولأننا من ناحية ثانية، لم نعثر على أي قراءة جادة في أدب الشاعر، اللهم إلا كلمة الياس العشي في حفل توقيع ديوانه الثامن بالنيابة عنه في النادي الثقافي، طرابلس- لبنان. واللافت، أن العشّي لم يكتب عن الديوان، بل عن صاحبه:
“اسمه غسان م منجد أتعبته الغربة وأضناه الحنين لأيام ملاح قضاها متنقلا على رؤوس أصابعه بين شوارع طرابلس وحاراتها القديمة ومدارسها العتيقة وبساتين الليمون المالئة بماء زهرها كل البيوت غير عابئة بانتمائها الطائفي ولا السياسي ولا الطبقي.
لقد تحول هذا الغسان الهادئ جدا الى عاصفة تحمل كل رياح التغيير وكل قواعد الثورة: ثوره على الجسد، ثوره على العمر، ثورة على الشعر. يقول أُمي رائحةً الحياةً ومائدة زيتون وخبز وزيت وياسمين أُمي نبيذ عمر وظل رغيف”. (من مقتنيات الشاعر)
لذا ستحاول هذه الورقة الإضاءة على أدب غسان منجِّد من خلال قراءة في ديوانه الأخير المذكور أعلاه، علّها تسهم في لفت انتباه النقاد والدارسين العرب إلى هذه الطاقة الإبداعية الخلاقة التي لم تأخذ حظّها الوافي من الانتشار.
وإذ نبدأ فبالعنوان، عتبة الديوان الرئيسية القادرة على أن تمدنا “بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته . . . [حيث] أنه يقدم لنا معرفة كبرى لضبط انسجام النص وفهم غموضه”[11] . “قنديل لسفر الخريف”، صورة شعرية هي تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا[12]. هي انتقال باللغة من كونها شيئاً محدداً ثابتاً إلى كونها طاقة إيحائية وبؤرة دلالية تحمل المعنى الرئيسي للجملة فتشيع في جسد النص إمكانات متعددة[13]. لقد أنسن الشاعر الخريف، فخرج باللغة عن معناها القاموسي ونسب إليه فعل لا يكون إلا لعاقل، فهو يسافر ويحتاج في سفره إلى قنديل. ولم يخبرنا النص لماذا تحتاج الأنا المسافرة إلى قنديل، فغرق المعنى بالغياب، وبقي النص مفتوحاً على عدة تأويلات، كأن يرى فيها المتلقي العادى صورة بسيطة لشخص مسافر ليلاً بحاجة إلى إضاءة، ويرى فيه الناقد/ة الأدبيّ دستوراً تنويرياً يرشد الأُمّة إلى ما فيه خيرها وتقدمها، ويقرأه فيلسوف أو مفكر على أنه نزعة شوبنهاورية (نسبة إلى شوبنهاور) إلى ما هنالك من قراءات. وبذلك يكون الشاعر قد خلق للقارئ/ة شبكة من الترابطات والدلالات لا يمكن أن تقلّص إلى دلالة قاموسية واحدة.
انتهج غسان منجِّد في ديوانه (قنديل لسفر الخريف) لغة الغياب، ويتجلى ذلك في عدة “إشارات إشهارية دالة على مستوى الشكل والتكثيف”. وستتخذ هذه الورقة نماذج من هذا الديوان على أمل أن تقدم رؤية نقدية حول ملمح جوهري من ملامح الشعر الحداثي.
وإذ نبدأ فبقصيدة “الخريف الهارب” لنستدل بها على منهجية غسان منجِّد في تناوله الشعري، ومدى نجاحه في تحقيق شعرية نصوصه تجنب إبراز التفاصيل الجزئية لموضوعه والاكتفاء ب”توجيه ضوء خفيف ظلي باتجاهه لكن بقدر كبير من الانحراف عنه بحيث أن اللغة تمس المرئي عن بعد بلمسات رقيقة مواربة وتغيبه بطرق مختلفة بحيث يبدو أقرب إلى مرئي يكفِّنه الظل أو الضباب الناعم”[14]:
– الخريف الهارب
أجيء وكأنني خريف هارب
أصطحب سمائي
ونجومي العابرة
ليس أمامي وقت
لأهرب من مأتم العاصفة
أنقش على رصيف الليل خيبتي
ليقرأ شتائي المعزوفة
على تشلّو الوقت الضائع
تتداخل في بنفسجتي
أحلام كواكبه
على دفاتر انتحاري
وتصورني كصورة مبهمة
آتية من طلاسم
هي أصغر من حقيقة
وأكبر من خيال… (ص. 9)
ينبئنا عنوان القصيدة أننا أمام لغة انزياحيه خرجت عن كونها علامة ثابتة الدلالة إلى كونها طاقة إيحائية خالقة حول نفسها شبكة من الترابطات والدلالات. فالخريف الهارب هنا، قد يكون كناية عن إنسان كهل، يقلقه ما يحمله له خريف عمره. أو هو ببساطة الفصل الزمني (الفصل الثاني من السنة الشمسية) فيكون سبب هروبه هو كآبته وحزنه على أشجاره التي تعرت وتحوّلت إلى عيدان منتصبة في الفضاء كالأشباح بعد أن كانت مزهوة بالأخضر الناضر في الفصل السابق (الربيع).
تبدأ القصيدة بجملة فعلية شُبِّه بها ضمير المتكلم المفرد (الشاعر) بخريف هارب، ويؤلف الفاعل البؤرة الدلالية في الجملة، فهو الذي يقوم بكل أفعال القصيدة (أجئ، أصطحب، أهرب، أنقش….) بحيث بدت القصيدة لوهلة أنها تقليدية كلاسيكية، ثم ما لبثت أن انحرفت نحو الغياب، ففي البيتين الثاني والثالث (أصطحب سمائي ونجومي العابرة) دخلت اللغة في الغياب “عن طريق الخارق، والمحال واللامعقول العصي على التصور والتخييل. ومثله البيتان التاليان (ليس أمامي وقت/ لأهرب من مأتم العاصفة). أما فيما يلي ذلك: (أنقش على رصيف الليل خيبتي/ ليقرأ شتائي المعزوفة/ على تشلّو الوقت الضائع…. حتى على دفاتر انتحاري) فقد تمثل الغياب في كسر هارمونية النص، حيث انتقل الشاعر فجأة من التشكي من ضيق الوقت، ومن النقش على الرصيف، إلى قراءة الشتاء، ومن الهرب من المأتم إلى الانتحار.
والجدير بالذكر أن هذه القصيدة إلى جانب غيبتها حققت تفجيراً باللغة تمثل في “عملية انزياح مستمرة لمعنى الالفاظ وإرجاء معرفة دلالتها التي تتغيّر مع كل تقدم في القراءة، فهي تبدأ بمجاز مرسل (حلمي نيزك) لتغرق بعدها بصور حسية تُستخدَم لخدمة غاية إنسانية هي لفت النظر إلى معاناة الطبقة المهمشة من المشردين الجائعين، وتكمن إبداعية القصيدة في جمالية التخييل التي حولت الموضوع العادي إلى نص يمتع ويلذ عن طريق جُملة من الصور البلاغية المبتكرة من مجاز واستعارة وتشبيه كمثل: (حلمي نيزك)، (ثرثرة الشوارع)، (كيس الشقاء)، وغيرها:
حلمي نيزك
يمر مرور الكرام
في ثرثرة الشوارع
وفي ظل حدائق المطر…
أمدّ يدي
لأتلقى عنوان التشرد
فتتبعني أرغفة الخريف
وتملأني برائحة السراب…
تقبلني وتعيدني
إلى جمرة ليست جمرتي
وإلى ميناء مصلوب
في كيس شقاء
لفقراء الخريف الهارب (ص. 10)
وهكذا يستحضر غسان منجِّد فصلاً مغيباً من فصول الطبيعة، ليجعل منه موضوعاً للتأمل الفيزيائي في الوعي واللغة، وينتصب أمامنا على الورقة حاضراً حضوراً ناصعاً دقيق التكوين، وما يبقى منه، أو ما يبرز منه، هو بؤرة إشعاعية تمتزج فيه الدلالات المألوفة بالترابطات والرؤية الشخصية بالذات المعاينة وعالمها (أي يمتزج فيها العالم الخارجي بالعالم الداخلي)[15]: حلمي نيزك/ يمر مرور الكرام/ في ثرثرة الشوارع/ وفي ظل حدائق المطر…/أمدّ يدي/ لأتلقى عنوان التشرد/ فتتبعني أرغفة الخريف.
* * * * *
لا تقتصر قيمة ديوان (قنديل لسفر الخريف) على جماليات وحداثة اللغة فقط، بل هو أيضاً حداثي في مواضيعه، فهو لا يتبع الأنواع القديمة الكلاسيكية من هجاء ومدح وفخر، وإنما ينحو منحىً تأملياً ذاتيا، وقد يجنح أحياناً صوب الاجتماعي، والسياسي، والوطني، وعلى رأسها جميعاً الحب والمرأة.
سؤال الذات- المنحى التأملي في الديوان
سؤال الذات تعبير اصطلاحي يطلق للدلالة على اتجاه شعري حديث جعل من الذات الفردية سؤاله الإبداعي وهاجسه الأساسي، فالذات تحضر في بعديها العاطفي الوجداني، والفكري التأملي. ومن خصائصه، استبدال أغراض الشعر القديمة بأغراض الشعر الرومانسي المتمركزة على الذات. والانفصال عن عالم الجماعة والناس والثورة على قوانينه، والتقوقع داخل عالم الأنا والذات والإنصات إلى عذاباتها، أو اللجوء إلى عالم الطبيعة او الغاب باعتباره العالم الأمثل الذي يرمز إلى الصفاء والعفوية والكمال، والحرية، والانطلاق.. والنزوع إلى التشاؤم والبكاء، والخزن، والقلق، والإحساس بالغربة والضياع، فضلاً عن التأمل الفلسفي الوجودي.. وتوظيف معجم لين رقيق، وصور شعرية تحتل فيها الذات والطبيعة مركز القول الشعري، واعتماد أسلوب سردي انفعالي، مع تبني نظام المقاطع أحياناً[16].
يتبع الشاعر في ديوانه هذا، المنهجية ذاتها التي اتبعها د. عبد المحسن طه بدر في الفقرة أعلاه، فابتعد عن كل أغراض الشعر القديمة من مدح وفخر وهجاء، واستعاض عنها بالشعر التأملي والغزلي. وقسّم قصائده إلى مقاطع في مواضع كثيرة، واعتمد أسلوب السرد الانفعالي. وفي أكثر من قصيدة تقوقعت الذات في عالم الأنا. يقول في مطلع قصيدة “الدخول في الذات”.
أنا شاعر الوهم الجميل
وعشاقي مؤقتون
وطباعي فينيقية
ليس لها وطن
إلا في قصائدي
وفي قصيدة القيد:
أنا حديقة العمر
أنا نافذة الأمل
دروبي صبوات لحدسي
وسفر في شكوك…
ذاك السفر…
ونقرأ في قصيدة “الموت العابر” نزعة تشاؤمية ترى الوجود مجرّد عبثٍ، الموت فيه فطرة، ومساءلة طقوسه غامضة حائرة ما بين “شعاع توهج” و”غموض شمس حجبتها ظلال السماء”. وتذكرنا القصيدة بنص تهكّمي لوديع سعادة يقول فيه: “الذين يكتبون عن البشر يرفسهم البشر لكني لم أسمع أن حماراً رفس واحداً لأنه كتب عنه. . . فهل يعني هذا أن الرفس، بسبب وبغير سبب، هو صفة ملازمة للبشر ؟ “[17]
حدّق
ترَ الموت يدنو بفطرته
إلى ضفاف أبدية
أتأمله واقفاً قرب حياتي
لا تحركه ظلالي
ولا هو يغيّر وشمها
. . . . .
حدق…
يولد الموت من نزيفي
إلى عتمتي
وأحلم بالضوء
ينبئني بغياب موتي المشاع
يودعونني بكلمات صاخبة
وبشفاه مزمومة
ويعودون حفاة عراة
بلا أقنعة
ونقرأ في قصيدة “في البال” مشاعر الحزن واليأس والقلق. وفيها يتبع الشاعر الأسلوب الحداثي فيعتمد الألفاظ اللينة السهلة، ويستخدم، لقول رؤيته، المحسنات البلاغية المستجدة غير المسبوقة. ويقفز من فكرة لأخرى دونما اعتبار لتسلسل الأفكار، ثم يقفز من الجملة الإخبارية إلى الأخرى الاستفهامية ليسائل تفاهة أبناء البشرية الذين يجاهرون بالعفّة وهم عراة:
ليس في الرأس المهزوم
إلا النوافذ الفارغة
على شرفة الحزن
يتعرى الليل وينزف
كيف يخلع الغروب ثوبه
والنهار مبلل بالرحيل
لم أكن أدري
ان الأجنحة التي لا تعبر القمة
لا يحق لها أن تنام
* * * * *
لغسان منجد باع طويلة في الحب والمرأة، فقد خصّص لهما العديد من الدواوين، وحتى في هذا الديوان (قنديل لسفر الخريف) المصنّف على أنه من باب الشعر التأملي الذاتي، حضرت المرأة الحبيبة موضوعاً اساسياً في أكثر من قصيدة، وجزءاً من كل، في العديد منها. حتى أن الشاعر ابتدأ ديوانه بغزلية بعنوان “أغنية مطر” يخاطب بها حبيبةً انتظرها على رصيف بارد مرة، وفي خيمة مرة أخرى. انتظرها ليفهم لغة الأمواج من على صدرها؛ وحملها في صدره علَّ حضورها يلهمه شعراً:
انتظرتك لأعطيك كلماتي
من على صفحة ماء
ذكّرتني بعيون…
انتظرتك على رصيف بارد
ومن حولي صورة المجرّة
جرت العادة أن يختار الشاعر/ة عنواناً لقصيدة يستدل منها على مضمونها أو رؤيتها، ولكننا هنا لا نقرأ للوهلة الأولى علاقة بين العنوان وجسد النص الذي يتكلم عن حبيبة من أوله إلى منتهاه، ولكننا لو أمعنّا القراءة لرأينا العلاقة التي أتت تلميحاً من خلال جمل ومفردات كمثل: الماء، الغرق، الإبحار، الينابيع، الجداول ومن الجمل (انتظرتك لأعطيكِ كلماتي من على صفحة ماء ذكرتني بعيون ..)، (حملتك في صدري كغناء الينابيع)، (ليرتب من الجداول عبرات)، (الأوسع من أغنيات المطر). ولنا في غموض العنوان من حيث هو شبه جملة مكونٌ من اسمين نكرتين دلالة على جدة القصيدة وحداثتها
* * * * *
سعت هذه الورقة المتواضعة إلى التعريف بطاقة إبداعية لشاعر لبناني يعيش في أستراليا شذًّ عن السرب الذي غرّد فيه الشعراء المهجريّون، فتميّز بالانفصال عن عالم الجماعة والناس والثورة، وتقوقع داخل عالم الذات والإنصات إلى عذاباتها. كما أنه نحا نحو تشكيل طرق جديدة في التعبير وخوض أفاق تجريبية في الكتابة تستجيب للمطالب الحضارية وتلبي احتياجات جمالية لم تكن موجودة قبل عصر ما بعد الحداثة.
[1] مايكل ريفاتير (سيموطوقيا الشعر: دلالة القصيدة) ترجمة فريال جبوري غزول، ضمن مدخل إلى السيميوطيقيا، دار إلياس، 1986، ص. 213
[2] أبو اليزيد الشرقاوي، (شعرية غياب المرجع- تفجير اللغة)، بيروت: الانتشار العربي، ص. 19-20
[3] الدال والمدلول: الدال هو الأصوات الإنسانية التي تخرج من الإنسان بأيّة لغةٍ كانت فلفظ (عصفور) هو الدال عند سوسير، والمدلول هو الصورة الذهنية التي تتشكل في الذهن إثر سماع الصوت، فعند سماعك كلمة عصفور يتشكل في ذهنك صورة لمخلوقٍ صغيرٍ طائر.
للمزيد ينظر في:
[4] الدلالات المرجعية هي فرع من علم اللغة الذي يدرس كيفية إشارة الكلمات والعبارات إلى الأشياء أو الأحداث أو المفاهيم. ويهتم بالعلاقة بين اللغة والعالم الخارجي، وكيفية استخدام اللغة لنقل المعنى ووصف الأشياء وتحديدها. يركز علم الدلالة المرجعية على فهم كيفية تحديد معنى الجملة من خلال علاقاتها المرجعية وكيفية تمثيل هذه العلاقات في الهياكل اللغوية.
: هي شكلها الخارجي، وتشمل عدد الأبيات والأشطر والأبيات المكررة والقافية والوزن والتكرار والتوزيع الداخلي للأحرف والكلمات والأساليب الشعرية الأخرى. (folkculturebh.org
5 سمقطة القصيدة
[6] كل ما أورد على لسان اللغويين عن المرجع، أورده أبو اليزيد الشرقاوي في (شعرية غياب المرجع- تفجير اللغة)، مصدر سابق، ص. 20-21
[7] مصدر سابق، (شعرية غياب المرجع- تفجير اللغة)، ص. 61-65
[8] المصدر نفسه، ص. 66
[9] https://gate.ahram.org.eg/News/2550817.aspx
[10] غسان منجد، شاعر لبناني مقيم في أستراليا، صدر له حتى حينه عشرة دواوين
[11] محمد مفتاح، (دينامية النص)، بيروت: ط/2، المركز الثقافي العربي، 1990، ص 72
[12] الصورة عند الجرجاني: فلما رأينا البينونة بين آحاد الأجناس التي تكون من جهة الصورة، فكان بينُ إنسان من إنسان وفرس من فرس، بخصوصية تكون في صورة هذا لا تكون في صورة ذاك. وكذلك كان الأمر في المصنوعات، فكان بينُ خاتم من خاتم وسوار من سوار بذلك. ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقا، عبرنا عن ذلك الفرق وتلك البينونة بأن قلنا: للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك.
[13] كمال أبو ديب، “الواحد المتعدد: البنية المعرفية والعلاقة بين النص والعالم”، 43 فصول، مج/15، عدد/2، صيف 1997
[14] للمزيد من التفاصيل، ينظر في: نديم نجدي، “فلسفة ما بعد الحداثة ‘من أين؟’ و’إلى ماذا؟’، كتابات معاصرة، عدد/30، (آذار-نيسان 1997)؛
ص 59
[15] مصدر سابق،
[16] عبد المحسن طه بدر، “سؤال الذات الشعر الرومانسي، نص نظري 1-2″، Allo School
https://www.alloschool.com/element/132899
[17] للمزيد ينظر في: نجمة خليل حبيب، قراءات نقدية في الشعر والرواية، ط/1، بيروت: الدار العربية للعلوم- ناشرون، 2017، ص. 69