أحمد طايل
..رشوان جابر الصعيدي…
.. انتبه من نومه على صوت أذان يرتفع قريبا منهم، نهض متخيلا أنه آذان العصر، هم ناموا منذ الظهيرة ولم يشعر أيا منهم بالوقت الذي مر بهم وهم نيام، نهض سريعا للوضوء والإسراع للحاق بالصلاة، أصدر ضجيجا لينبه النائمين الزوجة والأبناء، استيقظوا بكسل كبير، قال لهم إنه خارج للصلاة رغم أنه لا يعلم أي صلاة هي القائمة، طالبهم بإعداد وجبة حين يعود يجدها جاهزة، لقد ناموا دون تناول طعام، خرج فوجيء بالظلام يلف المكان، إنتابته الدهشة، أي توقيت هذا، ظل سائرا بهدوء يتأمل كل المحيط به من مبان و أشجار، واللمبات المضيئة الموضوعة على كامل السور، وعلى البعد نار مشتعلة، ورجل يصلى لم يعرفه بسبب الظلام وعدم وجود إضاءة قوية توضح له ملامح الرجل، هرول حتى يحاذي من يصلي، زاد اقترابه عرف الرجل أنه ( مخيمر), صلى وراءه، أكمل الصلاة رغم انتهائها من ( مخيمر), جلس بجواره على (النجيلة)، لم يتحدثا واكتفيا بتبادل النظر، أتت زوجة ( مخيمر ) تحمل صينية وأكواب وإبريق يتصاعد من فوهته بخار ينبئ عن ماء مغلى، وطبقا به بعض المخبوزات الريفية، وضعت ما تحمل وأسرعت بالذهاب، أشار إليه بأن يتناول شيئا، مد يده وأخذ قطعة صغيرة من الموجود مجاملة لا أكثر، أسرع بشرب الشاي سريعا ونهض آخذا الطريق للعودة، ألقى السلام على ( مخيمر ) على عجالة ولم ينتظر الرد، سار بشكل أقرب للهرولة استدعت دهشة ( مخيمر) الذى ضرب كفا بكف، الرجل كما أتى كما ذهب لم ينطق بكلمة ، دخل إلى السكن وجد الطعام جاهزا وموضوعا على مائدة، أخذ يلتقم اللقيمات المغموسة بالطعام المتواجد، كان يأكل وهو شارد، اكتفى بقليل من الطعام، نهض ووجد نفسه يصعد إلى السطوح، ارتكن بجسده إلى السور جالساً القرفصاء، أشعل سيجارة وأخذ ينفث دخانها بشكل مبالغ فيه، بعض القلق يعتريه ، طوال سنوات عمره التي تجاوزت الثلاثين، وهو لم يغادر قصر الباشا، ولد فيه ووجد أباه وجده يعملان بكل الجد، شاهد تعامل الباشا معهم، كان دائما هاشا باشا معهم، لا يتذكر حتى لحظة وفاة الباشا أنه شاهده لمرة واحدة ضجرا أو متذمرا، أو نهرهم بصوت عال يصيب كرامتهم، تمتم.
* الله يرحمك ياباشا.
القلق والخوف مما هو آت الذي لا يعلمه إلا الله، السيجارة لا تغادر أصابعه، لا يدري عدد ما دخنه، آفاق من شروده قائلا بصوت واضح :.
* لتكن مشيئة الله.
في فجر اليوم التالي هرع يسابق خطواته إلى اللحاق بهم وهم خارجون لصلاة الفجر، منذ بدايات عمره اعتاد أن يرافق الأب وهو بسنواته الأولى للصلاة، وكان الأب دوما يحفزه للصلاة، صلى معهم جماعة وجلس وسطهم للدعاء والابتهال، خرج معهم كان يسير كيفما يسيرون، عندما أخذ طريقه للذهاب لمكان إقامته، ناداه الحاج ( عيسوي).
* انتظر يا ( رشوان) سوف نتناول الإفطار سويا هنا.
وأشار إلى ( مخيمر ) أن يذهب يطلب الإفطار، وأن يخبرهم بوجود أخر معه، أشار إليه بالجلوس ووجه له الحديث.
* تعودنا مع الجميع أنهم من أهلنا لافرق بين أحد وآخر، أردت أن أقول لك هذا حتى لا تشعر بأي قلق، كن كأنك ولدت وعشت هنا، تعامل بعفوية لا تضع حواجز بينك وبين الآخرين من هذه اللحظة وواثق أنهم يستقبلونك أيضا كأنك عائد إليهم بعد غياب، بعد الإفطار وتناول الشاي، احك ما تريد أن تحكيه، أنا أعرف أن كل إنسان له ما يريد الاحتفاظ به.
* ليس لدي ما أخفيه ثم أنت قلت لا تضع حواجز وأنا إن أخفيت شيئا أكون بعيدا عن ثقتكم، وأنا لا أريد إلا أن أعيش بينكم كتابا مفتوحا تماما. وتعلمت من جدي رحمه الله وأبى ألا أخفى شيئا، الإخفاء يضع حواجز تصعب إزاحتها.
مد يده وربت على يده عددا من المرات توحى لثقته به، أخذا يتناولان الطعام بكل شهية، يداعبه( عيسوي) بين اللحظات ببعض الكلمات، أتى لهم الشاي على الفور دون إنتظار الطلب وكأن من بالبيت يعرفون وقت تناول الطعام، تناولاه على عجالة، بعدها نادى على رجل لعله كبير العمال، قذف إليه بتعليمات اليوم والعمل وبعدها أشار إليه بالانصراف ومتابعة العمل جيدا طالبا أن تسير الأمور بلا أي خلل أو مشاكل، التفت بعدها إلى ( رشوان), طالبا منه أن يبدأ حكايته، مؤكدا لمعرفة سبب ثقة الباشا به لأنه من عادة غالبية أصحاب الطبقة المخملية عدم منح الثقة مطلقة للعاملين لديهم.
* ولدت وجدت نفسى أنا وأختي الوحيدة، نعيش مع الأب والأم بسرايا كبيرة بلا حدود بها مبان عدة، قصر الباشا وعائلته وبعض المباني لتخزين الحاصلات وتربية الجياد وبعضها لإقامة عدد من العاملين لديهم مع أسرهم، ما عرفته من خلال حكايات الجد الذي عايشته حتى عمر السابعة، أننا أساسا من ( محلة نصر بالبحيرة)، وأن جدي تعرف على الباشا صدفة، الجد حسبما سمعت كان ابن لأسرة ميسورة الحال، أسرة لا علاقة لها إلا بالعمل بزراعتها وحياتها اليومية، ولكن أبي وكان الأوسط بين عدد كبير من الأعمام والعمات كان شاردا عن العائلة، كان يختفي بالأيام والليالي دون أن يعلم أحد بسبب ذهابه أو سبب إيابه، واعتادت العائلة منه هذا فلم تهتم مطلقا بسؤاله، استمر الأمر لفترة لم يذكروا لي زمنها، حتى جاء يوم، عمدة البلدة وأظنني أتذكر اسمه رغم مرور سنوات طويلة من كثرة ما تردد من الجد والأب ( بهيج الرملي), أرسل باستدعاء والد جدي، وكان بينهم مودة حيث يرتبطان بصلة مصاهرة، جلسا على إنفراد، أخبره أن ابنه ( محروس) يذهب إلى القاهرة أحياناً والى الإسكندرية أحيانا أخرى، ويشارك مع بعض الشباب والرجال في عمليات اغتيال الجنود الإنجليز، عند هذه الكلمات قذف والد جدي العمدة بسؤال.
* وكيف علمت يا عمدة؟
* جاء إلى أحد العاملين بالبوليس تجمعني به علاقة جيدة للغاية واخبرني بهذا وقال أن ابنك تحت المراقبة لحين ضبطه متلبساً يوما ما، ومن أجلك أرسلت لك لتجعله يغادر القرية ويتوقف عما يقوم به، لحين تهدأ الأمور، أنت تعرف جيدا يا شيخ ( محمد) أن القرية كلها ستتعرض للكثير من المشاكل من جراء هذا، رجاء إجلس معه وأقنعه بالرحيل بعيدا بعيدا حتى يتم نسيان الأمر برمته.
ما كان من الجد إلا أن قطب جبينه، وأومأ برأسه بالموافقة وهمس بصوت خفيض.
* حاضر يا عمدة سوف يكون ما تريد وما نريد بمشيئة الله.
خرج من فوره سائرا بخطوات متسارعة ولكن بها بعض التعثر من شدة تفكير بما سمع، كان يتمتم بداخله.
* لماذا يا ( محروس ) تضعنا بهذا المأزق، الله أعلم هل نستطيع إنقاذك أم هم يسبقوننا ويقتنصوك، ربنا هو الستار.
دخل البيت الكبير وهو يغلى من داخله، وماذا بعد أن يطلب من إبنه الرحيل عن القرية؟, من يضمن له أن أيديهم لن تطاله؟, الحيرة أمسكت به، ولكن لم يكن أمامه بد من التسليم لما طلبه العمدة، همس بداخله.
* المكتوب ليس له من مهروب.
هدأ قليلا ودخل حجرته الخاصة، واضعا يده على رأسه، صدره يعلو ويهبط وأنفاسه ما بين شهيق وزفير، نادى بصوت عال على ( محروس), كان على يقين أنه موجود، الابن بمنتسف العشرينات من العمر، أقبل مهرولا ووقف بين يدي أبيه، أشار إليه بأن يجلس بجانبه على الفراش، مد الأب يده وأمسك بمعصمه بشده ووجه له نظرات حادة بعض الشيء وخاطبه.
* منذ متى وأنت تقوم بهذا الفعل؟
* أي فعل يا أبي؟
* أنت تعرف تماما ما أقصده، مقاومتك للإنجليز وعمليات القتل التي تقوم بها.
* أبي لبلدنا حق علينا ولو كل منا قال ليس لي علاقة بأمرها نكون أشبه بمن يخونها ويفرط بها، وأنا مثلي مثل الكثيرين قررنا أن ندافع عنها بما نستطيع، وأعرف أنك شاركت بثورة عرابي وحاربت معه، ومازال بداخلك وجع بسبب الخيانات التي تمت، فلا تلومني على هذا.
طفرت الدموع من عين الأب وعاود الإمساك بمعصمه من جديد ضاغطا بشدة عليه.
* لا ألومك ولا أستطيع أن ألومك فقط بلغني اليوم أن هناك من يتتبع خطواتك ويترصد بك، العمدة أخبرني بهذا من خلال أصدقاء له وطنيين يحبون البلد مثلك ولكن على طريقتهم وبما هو متاح لهم فعله، العمدة طلب مني أن اجعلك تترك القرية بل المديرية كلها إلى أبعد مكان تستطيع أن تصل اليه، وأنا أراه مطلبا يجب أن ينفذ رغم قسوته علي وعليك وعلى زوجتك وعلى طفلك الذي لم يبلغ العام بعد، ولكن علينا التحمل حتى تمر الأمور وحتى لا نخسرك، قبل أن تقول إن بلدي حق علي أؤيدك بهذا، ولكن لا تفعل هذا ولو لوقت معين حتى تغفل عيونهم عنك، الليلة مساءا ترحل بلا أن تخبر أحدا، دعني أنا أتكلم مع زوجتك بعد رحيلك وأنت كل فترة تأتي تحت جنح الظلام تطمئن علي وعلى أمك وأخواتك وزوجتك. هيا جهز حالك، غادر ولا تتجه إلى دمنهور، غادر عن طريق بعيد عن العمران وأظنك لديك دراية بالكثير من الطرق التي لا يعرفها الكثير، ربنا يرسل إليك ما يكون ونيس طريق، ادخل للنوم سويعات حتى تخرج بعد منتصف الليل حتى لا يدري أحد بخروجك، وجذبه الى صدره وقبله وتعانقت دموعهما سويا، ألقى بنفسه على فراشه وذهب بنوم عميق، صحا من نومه على نداء أبيه عليه، نهض مسرعا وجد الأب والأم والأخوة والزوجة تحمل رضيعها، مرر بصره عليهم، كاد أن يجهش بالبكاء ولكنه تمالك نفسه، ونهض ذاهبا إلى الحمام، ألقى ببعض الماء على وجهه ليفيق، عاد إليهم وأخذ يلقى بنفسه متنقلا بين الأحضان، أخذ ابنه الرضيع من زوجته، أخذ يقبله قبلات محمومة، بل وصل الأمر إلى الحديث معه وكأنه شاب أو رجل يفهم الحديث.
* مكتوب على أبوك الغربة والغياب عنك بوقت كان يلزمني أن أكون معك أتابع لحظات نموك، ولكنى أعدك لن يطول غيابي، سامحنى يا( محمود), أعدك لن أغيب.
أكمل هذه الكلمات واندفع مستديرا متناولا صرة بها بعض الملابس وقليل من الطعام وقنينة مياه، وبلا أي كلام اندفع خارجا رافضا أن يلمح أحد الدموع التي بدأت تنساب من عينية، كان يعرف طريقا غير مأهولا بشكل كبير يصل به إلى ما بعد دمنهور، المهم أن يصل قبل انبلاج النهار، كان يسرع الخطوات بشكل أشبه بالعدو، الظلام دامس للغاية لولا أنه يعرف تفاصيل الطريق لأنه كان كثيرا ما يتخذه هربا من اقتفاء أثره لتعرض للكثير من العثرات، كان يحث الخطى وكل حين يهرول، فجأة وجد ضوء سيارة يكشف الطريق، أطلق ساقية للريح خوفا من أن يكون ممن يطاردونه، السيارة ترسل بوقها، وكلما سمع صوتها واقترابها منه كلما جد بالسير، اقتربت السيارة منه، وجد صوتا يناديه.
* يا أخ اسمعني، أنا فقدت الطريق وتائه، انتظر من يدلني على الطريق، لا أريد بك شر.
وقف وانتبه للكلام الذى تكرر أكثر من مرة، توقفت السيارة، ونزل رجل تجاوز الأربعين، وقف قبالته مرددا.
* ممكن تدلني الطريق حتى نصل العمران.
اكتفى بهز رأسه دلاله على معرفته، أشار إليه الرجل بالركوب بالمقعد المجاور له, ركب وهاجس الخوف يعتريه ربما كان الرجل أحد مطارديه وحديثه سبيل للإيقاع به، ولكنه أبعد هذا عن تفكيره، كان يشير له على الطريق وتعرجاته ومنحنياته، بعد نصف ساعه أو أكثر لاح العمران، وأصبحت الإضاءات تنير كل شيء، نظر إليه للمرة الأولى، رجل طويل، يرتدي بدلة أنيقة للغاية، شرد متسائلا .
* ما الذى يأتي برجل مثله إلى هذا الطريق؟،
أفاق على صوت الرجل يسأله.
* طريقك إلى أين حتى أصل بك إليه ردا لصنيعك معي؟.
لم يجبه بشيء، اكتفى بإرسال نظراته الحيرى له، الرجل فهم أنه متوجس خيفه، خاطبه ليبث الأمان إليه.
* لا تخف يا بني، انا ( حازم باشا البدوي) كنت بواجب عزاء بالإسكندرية والوقت داهمني ويبدو أني دخلت لهذا الطريق دون أن أعرف إلى أين يصل بي، والحمد لله ربنا أرسلك لي، تكلم بلا خوف وثق أنك من اللحظة ودون أن أعرف حكايتك تحت رعايتي وحمايتي لأنى أرى بك كثيراً من التخوف..
أصاب الارتياح دواخله إلى حد ما، وبعد قليل من التردد أطلق عقال الحديث. حكى له كل شيء دون مواربة شيء، وبعدما انتهى وجد الباشا يضع يده على كتفه ويربت عليه مرات، مما أزاح ما تبقى من هواجس الخوف، أطبق الصمت عليهما لبعض الوقت، دخلا إلى مدينة كفر الزيات، توقفت السيارة أمام أحد محلات الأطعمة، نزلا ودخلا، وأخذا يتناولان الطعام بشهية، رغم أن المكان لا يليق بالباشا، ولكن هذا كان ترسيخا لديه أن الرجل بسيط ولا يتعالى، عادا إلى السيارة، باغته الباشا.
* سوف تأتي معي وستكون من رجالي، أنا واثق من إخلاصك ووفائك، ثق أنك بأمان تام، وما كنت تفعله مع العساكر الإنجليز أمر يستحق أن تكرم عليه، ما رأيك؟.
* ليس لي أن أرفض عرضكم الكريم يا باشا، أنا اشعر بكل ارتياح، وبالفعل الله هو صاحب القرار وعلينا تنفيذه، أتشرف بالعمل لديكم.
* الأراضي والقصر وكل أملاكي بقرية ( شنرة البحرية), مركز السنطة، مديرية الغربية، ولك أن تذهب لزيارة أهلك وقتما تريد، تذهب بك السيارة وتعود بك، هل أنت متزوج؟
* نعم من عامين ولي طفل أسميته ( محمود) لم يبلغ العام بعد.
* إن أردت أن تأتي بهم نحضرهم.
* لا أظن الأب والأم يرضيان، هما يعتبران ابني عوضا عن عدم وجودي، لنترك الأمر يا باشا لقرار الله، الله هو العالم بالقادم وما علينا إلا الامتثال وإقراره.
* لندع الأمر لله والأيام، ستأتي معي وتتولى شئون الأراضي الزراعية لأني أتوسم بك شهامة وواثق من أمانتك، نحن لا نتعامل مع من يعملون لدينا على أنهم أجراء، بل هم من أهلنا وسترى هذا بعينيك.
* معالي الباشا يكفيني أنك وثقت بي دون أن تعرفني من قبل، ثق تماما أني سوف أثبت لك أني استحق ثقتك.
* يا بني من يجاهد من أجل بلده بما يستطيع هذا أمر يعطي انطباعا بأنك على قدر كبير من الشهامة والإخلاص , وأنا أحب هذا النوع من الرجال، سوف أوفر لك ما يسعدك ويجعلك لا تغادرنا مطلقا.
* بمشيئة الله معالي الباشا.
دخلا إلى مشارف مدينة طنطا وتباشير الفجر تحمل النهار وأصوات الأذان ترتفع من عشرات المساجد، توقفا أمام أحد المساجد، وضع الباشا ذراعة على كتفه نوعاً من إزالة الرهبة عنه، دخلا للوضوء وللصلاة، بعد الصلاة سارا إلى أحد المطاعم الشهيرة بالمدينة، طلب الباشا الطعام، تناولا الطعام بين بعض التساؤلات من الباشا عنه وعن عائلته، كان يجيبه بكل أريحية، تباسط الباشا أعطاه إحساسا أن الرجل إنسان بسيط لا يتعالى ولا يفرض سلطته على أحد، عادا للسيارة كان يسير بهدوء ، بعد ما يقرب من نصف ساعة أو أزيد قليلا كانا قد وصلا إلى ( شنرة البحرية) من أعمال مديرية الغربية، توقفت السيارة أمام قصر منيف شديد الفخامة لدرجة أن قدميه توقفتا وأبت المسير دهشة بالقصر، وسؤال ينهش داخله، الباشا مع كل ثرائه وإمكانية أن يكون له قصور بالمدن لماذا يصر على إقامته بهذه القرية؟, ناداه الباشا ليفيق من شروده، سار خلفه متمهلا يتلفت هنا وهناك مبهورا بما يشاهد، القصر وما يحيطه من حدائق وبناؤه على شكل لم يره من قبل، وكيف يرى وهو لم يغادر قريته الا للعمليات الليلة الخاصة بقتل الانجليز؟, الباشا ما إن اقترب من المدخل إلا وانفتحت البوابة على مصراعيها، وصفين من الرجال يرتدون زيا موحدا، رافعة الأيدي بالتحية مردفة ببعض كلمات الترحيب، اقترب أحدهم من الباشا الذى أعطاه مفاتيح السيارة، سار الباشا وجدي يسير خلفه، جلسا بالبهو المقام خارج مدخل القصر، الصمت ران طويلا عليهما وكأن الباشا يرغب براحة القدمين من طول السفر وبذات الوقت يفكر ما الذى يمكن أن يقوم به جدي من عمل، فجأة علا صوت الباشا فأفاق هو أيضا من تفكيره، الباشا ينادى.
* ( مبروك).
لم يكد ينتهى من الحرف الأخير من الاسم حتى كان هناك رجل فارع الطول يقف أمامه يضع عينيه إلى الأرض مرددا.
* أوامرك يا باشا.
* هذا أخوك ( محروس الصعيدي) من اللحظة هذه هو واحد من أهل البيت، خذه إلى السكن الذى بالجهة البحرية أظنه خاليا، وإن كان ينقصه شيء لك أن تأتي بما هو ناقص على الفور، واجعله يرتاح بعد التأكيد على كفاية الطعام ولا أحد يزعجه حتى يصحو لوحده، واضح.
اكتفى بهز الرأس مشيرا إلى قيامه بالمطلوب، انصرفا آخذين الطريق الى السكن، أشار إليهما الباشا بالانصراف قائلا.
* بالغد لنا حديث ونرى ما نستطيع تكليفك به من عمل.
سار به ( مبروك) إلى حيث السكن الذى اشار إليه، لم يتبادلا الحديث إلا التحايا مرات عدة، دخلا إلى السكن، أصابته الدهشة، سكن شديد الفخامة مؤثث بشكل أقرب للقصور، كان جاهزا من كل شيء، فتح الثلاجة وجعل ينظر إلى محتواها طالبا منه أن يرى إن كان شيء ناقصا ليأتي به على الفور، نفى جدي حاجته لأي شيء آخر، ألقى ( مبروك) السلام عليه وغادر دون انتظار لرد السلام، بعض لقيمات تناولها مما وجده أمامه، ، لم يهتم بالتأمل بأصناف الطعام المليء بها الثلاجة، بعدها ألقى بنفسه على الفراش، كان بحاجة ماسة للنوم، ذهب بسبات عميق دون أي قلق كان يرافقه دوما، صحا بعد ساعات طويلة من النوم العميق لا يعرف كم كانت، جلس على الفراش بحالة من الشرود، يفكر بحياته الجديدة التي تبدأ بعد وقت قصير، نهض وتوضأ وقام بصلاة ما فاته من صلوات، أخذ يدعو بأن تكون أيامه القادمة لها كم كبير من الهدوء والطمأنينة والسعادة، تناول على السريع لقيمات بسيطة وأعد كوبا من الشاي، وخرج بعدها للتجول بالحديقة الكبيرة التي تلتف حول القصر من كل جهاته، كان مذهولا بما يرى، استيقظ من دهشته على صوت ( مبروك) ينادي عليه ليتناول الطعام معه، لبى دعوته رغم أنه تناول الطعام حرصا على توثيق العلاقة مع العاملين بالقصر، أثناء الطعام تجاذبا أطراف الحديث، كل منهم كان يتكلم مع الآخر وكأنهم يعرفون بعضا من سنوات، حكى له ( محروس) حكايته وكيف التقى بالباشا، رد عليه ( مبروك).
* أنت محظوظ وواضح أن أمك كانت تدعو لك دوما، محظوظ لأنك التقيت بالباشا، لله تدبير الأمور، الباشا ( حازم) الأوسط بين إخوته، الوحيد من بين إخوته الذي أصر على البقاء هنا ولا يغادر، كل إخوته رجال ونساء هاجروا، الباشا الكبير (محسن باشا) الله يرحمه توفى من حوالي ثلاث سنوات، وبعد وفاته اتضح أنه وزع ممتلكاته بالعدل والشرع على كل من أولاده بعقود موثقة، كان رجلا خيرا فوق الوصف، خصص أموالا شهرية لبعض الأهالي، كل ما تراه هنا من جمعية زراعية ووحدة صحية ومدارس من خيره, ومن أراضيه, وبأمواله، بل إن له ممتلكات كبيرة بطنطا كما سمعت، قبل وفاته بأسابيع طلب ابنه ( حازم)، وطلب منه أن يذهب ويأتي بموظفين من الشهر العقاري، لم يترك له فرصه للتساؤل، لم يأخذ وقتا طويلا وعاد ومعه اثنين من الموظفين، جلسا أمام الباشا الكبير الذي كان قد نهض وجلس على أحد المقاعد حتى لا يظنا أنه لا يتمتع بالوعي، أشار إليهم بالجلوس، وأجلس ابنه قريبا منه، تناول حقيبة صغيرة فتحها تناول من داخلها أوراقا ، مد يده الى الموظفين بها، أخذا يتصفحانها دون أن يفهما المطلوب، تكلم الباشا بصوت عفي، طالبا منهما تخصيص الممتلكات المدونة بالأوراق موقف خيري يقام بها مسجد كبير ومدرسة كبيرة ومدرسة لتعليم الخط العربي ودارا لتحفيظ القران، ومستشفى كبير ، وأن يتم الصرف على كل هذا من ريع ما تم تخصيصه، الابن نهض مسرعا آخذا رأس أبيه بين يديه يقبله، وهو يردد.
* بارك الله فيك يا أبى لقد خلدت اسم العائلة للأبد.
وبعدها التقت دموعهما، أجزل العطاء للموظفين وطالبهم بالانتهاء من هذا بأقرب وقت ، وكان قد وقع كل الأوراق، باقي الإخوة تركوا له إدارة الأملاك على أن يمدهم بما يخصهم من إيراد بشكل دائم، ولكنه استطاع خلال الثلاث سنوات شراء بعضا من أنصبة اخوته، وأظن أنه سيفعل هذا مع البقية، ثم تدرج بالحديث إلى أمور كثيرة تخصه هو وتخص بعض العاملين بالقصر، ووصل الأمر به أنه حكى عن أسرته، أبيه وأمه وإخوته وزوجته وكيف عرفها وطبيعتها وأولاده ، لم يترك شاردة أو واردة إلا وحكى عنها، تم تعريفه بحبسه واحدة بالكثير من أمور السرايا وقاطنيها، كانت طبيعته أنه كثير الثرثرة بلا توقف. حتى أن أحد العاملين بالقصر مر بهم، توقف قريبا منهم صائحا بصوت عال مصحوب بالضحكات.
* ربنا معك يا بلدينا اذاعتنا لا تفصل وشحن بطارياتها لا يفرغ.
قالها وهرول مبتعدا قبل أن تصيبه حصى صغيرة سيقذفه بها لأنه معتاد على هذا وأصبح طقسا يوميا لديه، أكمل الحديث.
* أنت فعلا محظوظ لأن الباشا رجل بسيط متواضع ورث كل الصفات الحلوة من الباشا الكبير الله يرحمه، يحب كل الناس، أما إخوته فهم من طينة ثانية التعالي والكبر والغرور ومعاملة الناس بكل فظاظة، والحمد لله أنهم دوما بالخارج, مجرد أيام كل سنه أو أكثر تمر علينا ثقيلة ولكن بالنهاية يغادرون مشيعين لكل ما بالصدور من غل تجاههم، تعرف إن الباشا رغم ثرائه لا يحب أن يكون له سائق خصوصي، حتى من يعمل بالسراية يعاملهم على أنهم من أهله، ربنا يمد بعمره ويبارك لنا به، نفس الحال بالنسبة للست هانم ( افتخار هانم ), نفس الطباع الطيبة التي بلا حدود لم يعل صوتها يوما على أحد، العقاب عندها هو أن لا تتحدث مع من فعل أي خطأ ليومين أو ثلاثة حسب حجم الخطأ، له ثلاثة أولاد تقول مثل القمر وأحلى طباعهم من طباعه رغم صغرهم، ولدان وبنت أعمارهم بين الثامنة والثانية من العمر، ( زياد ، ورأفت وجميلة)، على فكرة الباشا عمره بعد الثلاثين بسنوات قليلة، وهو حاصل على شهادة الحقانية التي كانت الهدف الأول لأبناء الباشوات والعائلات الكبيرة بحثا عن نظارة إحدى النظارات بالحكومة، ولكنه رفض أى عمل، من صغره ومن يومه عاشق للقرية والزرع والناس، لم نره يوما عابسا، عكس كل إخوته الذين لا نعرف من أين ورثوا هذا التكبر، قيل إنه ميراث عن جدتهم لأمهم التركية، الحمد لله أنهم لا يأتون إلا أياما معدودة بالسنة للحصول على نصيبهم من ريع الأرض التي تتقلص مساحتها كل عام ، الباشا يشتري منهم ويسجل باسم أولاده الصغار، ألم أقل لك إنك محظوظ ووالديك كانا يدعوان لك وأظن أنهما ما زالا على هذا الدعاء، تعرف يا ( محروس) قلبي ارتاح لك، ربنا يديم الود.
لم يتركه إلا وكان وقد استوفى تعريف كل من بالقصر، من أصحابه ومن العاملين به، انتبها على صوت الباشا الهاديء ينادي عليهما، أسرعا عدوا حتى وقفا أمامه، لم ينبس أحدهما بأي كلمه، خاطب ( مبروك).
* أظنك كالعادة جلبت له كل صداع الدنيا، ولكن رغم صداعك إلا أن به أمرا جميلا، أنك تعرف أي أحد كل التفاصيل فلا يحتاج وقتا ليفهم المطلوب منه.
ثم التفت إلى ( محروس) قائلا.
* ومؤكد ودون سؤال أنت تفهم جيدا بشئون الزراعة وما يتعلق بها.
اكتفى هو بهز رأسه علامة الإيجاب والتأكيد.
نهض الباشا، وسار مشيرا له بالسير معه، نزلا درج السلم وأخذا طريقا يوصلهما إلى حيث توجد (كارتة) جاهزة بكل ما يلزم، صعد الباشا وأمره بالصعود والجلوس مجاورا له، قبل أن تنطلق أتى من بعيد مهرولا رجل، تكلم وحديثه يخرج متقطع من جراء هرولته، تمام بصوت أشبه بالرجاء أن يقود هو (الكارتة)، رفع الباشا يده.
* هذه المرة أنا من يقود، اذهب أنت إلى ( مبروك) ساعده فيما يطلبه منك.
استدار الرجل عائدا وبذات الهرولة دون أن يتكلم بلفظ واحد، ألح الجد على الباشا أن يجعله يقود (الكارتة ) فهو له خبرة بهذا، والده يملك إحداها، كان رد الباشا.
* اليوم علينا أن نعرفك الأرض التي تشرف عليها، وأتمنى أن يكون نتاج إشرافك جيدا بأقرب وقت رغم أني أشتم رائحة هذا، وربما بالغد والله وحده من يعلم تكون أنت قائدها على الدوام.
كان يسير على مهل لا يسرع حتى لا يثير التراب على من يمر بهم، يلقى بالتحايا الباسمة والضاحكة على الجميع، ينادي كلا باسمه، كان أحيانا يتوقف وينادي أحدا بعينه، يسأله عن زوجته أو أولاده أو أبيه أو أمه ويطلب منه المرور عليه بنهاية اليوم، جدي كانت تزداد مساحة عينيه اتساعا، ويفتح فمه على كامل محيطه دهشة من هذا الرجل الذى هو سليل أسرة ذات مكانة، ورغم هذا يشعرك أنه واحد من هؤلاء لا فرق بينه وبينهم، كان الباشا شديد النباهة حينما لمح كل هذا على وجه الجد، مد يده وضغط على ساعده موجها نظرة شديدة إليه.
* يا ( محروس) ضع أمام عينيك وعقلك وتفكيرك أمرا هو الأهم بالحياة، أن تقترب من الناس، من الجميع وأن تشعرهم أنك شريك لهم بكل أمورهم، ساعتها سوف تجنى أهم ثروة بالحياة وهى محبتهم وخوفهم عليك، والإحساس بك، وأظنك تعرف هذا، فقط أذكرك به.
حسبما سمعت من أبي فأنا لم أعاصر جدي وأعايشه سوى سنوات قصيرة، كان الجد يزداد دهشة وهو يشاهد بأم عينيه مدى تواضع الباشا وتقاربه مع الجميع، مروا على كل أراضيه، كان يتحاور مع المزارعين في كل زوايا الفلاحة بما ينم عن ثقافة عالية، وأيضا عرفهم بأن الجد هو من يتولى الإشراف عليهم، للحقيقة وجد ترحيبا من الجميع، بساطة الباشا جعلته يعقد مقارنة بينه وبين ما عرفه من باشوات قريته وما جاورها من قرى، كان عنوانهم الأوحد هو العجرفة والتعامل بفظاظة مع من يعمل لديهم، إصرارهم على وضع حواجز كثيرة بينهم وبين أهل القرى بل والمحيط البشري المحيط به إلا مع من يتشابه معهم. السير مختالين يسير على البعد منهم بعض الأتباع يحملون على أكتافهم البارودة، والباشا بيده كرباج بين الحين والآخر يصفع به الهواء، وليس مهما إن طالت أطرافه أحد الأتباع الذى عليه أن يكتم ألمه مهما كان قاسيا، حمد الله بداخله أن جعله بتعرف بهذا الرجل النادر وجوده، انتهت جولتهم بالأراضي، وأخذ الباشا طريق الرجوع، طلب منه أن يتركه قليلا، إرتسمت علامات الدهشة على وجه الباشا، لم يجعلها طويلا ( محروس) تستمر طويلا.
* فقط أريد أن أتعرف بالأرض جيداً.
عادت الدهشة بشكل أكبر على قسمات وجه الباشا، أكمل الحديث.
* لكل أرض طبيعتها ولغتها، هكذا علمنا أبي، قال لي كثيرا منذ أن بدأت الوعي، أن الأرض مثل البشر لكل منها طبيعتها ولغتها، هي تشعر وتحس مثل أي إنسان، وتحتاج لغذاء يناسبها، وماء يرويها بالكيفية التي تريدها، وأدوية تعالج أسقامها، ونوع من المزروعات تناسب تربتها، لكل تربه ما يناسبها، ولكننا للأسف جبلنا على التعامل معها على نحو واحد، أن نزرع ونرمي البذور حتى إن كانت غير ملائمة لها، وبعدها نلقى باللوم على الحظ وعدم البركة، علينا أن نتفحصها جيدا حتى نتوصل لفهمها وإن استطعنا فهم كل هذا، تأكد بعدها أنها تؤتي ثمارها بالشكل الذي نرجوه ونتمناه بل أكثر من التوقع والتمنى، ساعات وأعود لا تقلق يا باشا سوف أعرف طريق العودة، وبإمكان أحد الرجال أن يصل بي إلى السرايا.
* بصدق أنت بك أمور لم أعهدها بأحد من قبل، لست وطنياً فحسب بل يضاف إليك مسمى آخر جدير بك هو الفلاح الفصيح، سوف أنتظر لأرى ما تفعله، حركت بي نوازع الشغف.
جلس الجد القرفصاء رافعاً ملبسه حتى أعلى ساقيه حتى بانت ساقاه المليئتان فتوة وشبابا، أخذ يتناول بعض تربة الأرض، يقربها من أنفه ويشمها، يقربها من أذنيه كأنه يحدثها ويسمع حديثها، يتنقل من مكان إلى مكان، ومن حوض إلى حوض، طال الأمر، والباشا واقف يتابع بناظريه ما يحدث، لساعات طوال وهو يتنقل بين المساحات الشاسعة التي لا يأتي البصر على نهايتها، للمرة الأولى بحياة الباشا أن يتسع صدره للوقت ولا ينبس بكلمة، يشاهد وترتسم الدهشة والتساؤلات على ملامحه بين الظهور القوى والخفوت، نهض أخيراً معلنا انتهاء جولته التفتيشية عن أحوال الأرض وأسرع إلى مكان وجود الباشا واقفا بين يديه، حانيا رأسه متحدثا بصوت شديد الخفوت.
* سامحني با باشا جعلتك تنتظر كثيرا، ولكن أعدك أن ترى ثمرة هذا الإنتظار خلال شهور، لأن علينا الانتظار حتى تكتمل دورة المحاصيل المنزرعة حاليا، سأجلس إليكم حسب إذنكم وأحدثكم عن تصوري لأمور الزراعة، وبأمر الله تجد منكم قبولا.
لم يعقب الباشا على حديثه بأي كلمه، اكتفى بنظرة تحمل فحواها الدهشة والإعجاب في آن واحد، وجد تساؤلات كثيرة تعتلي وجه الباشا، فأراد أن لا يجعله رهينا لها طويلا.
* يا باشا اطمئن كل شيء ستراه عن قريب بما يسر نفسك وخاطرك، فقط كما قلت ننتظر إنتهاء زمن هذه المحاصيل وبعدها، سوف أضع أمامك تخيلا للكثير من أمور زراعة هذه الأراضي، لكل تربة نوع مناسب لها تزرع به ويرحبان ببعضهما، لا تندهش الأرض مثل كل الكائنات تستشعر بكل شيء، تتآلف مع البعض، وتتنافر من البعض، أنا أشبه علاقة الأرض بمن يزرعها بالزواج، إن وفق الرجل أو الأنثى في اختيار الشريك كان النتاج جيدا والعكس، لكل كائن على أرض الله ما يريحه وما يزعجه.
مد الباشا يده وأمسك بمعصمه بقوة بعض الشيء، ووجه إليه نظرة قوية لها معان كثيرة.
* يبدو أن الله أرسل إلي وطنيا وحكيما ويجيد التعامل مع الحياة، بأمر الله أتوسم الخير كل الخير على يديك ولك مطلق الحرية في أن تفعل ما تريد دون الرجوع إلي ثقة مني فيك، هيا نعود لتناول الغذاء، ثم تستريح ولنا أحاديث كثيرة لقد فتح قلبي وعقلي لك، سبحان الله بوقت لا يحسب ولكنها إرادة الله.
* القلوب تنادي بعضها وصدقني يا باشا القلوب تنادي من يتوافق معها، الطيبة للطيبة، والخبيثة للخبيثة، ألم أقل أن لكل شيء من يتوافق معه وما يتنافر معه ، كل شيء وضعه ربك بحساب دقيق.
الباشا كان يكتف بالنظر إليه ووجهه مع عينيه ينطقان ببريق السعادة، كان جدي يصحو مع تباشير الصباح الأولى، يسرع بالصلاة مع الجميع بالمسجد الصغير الملحق بالسرايا من الخارج مع بعض أبناء القرية، بعدها يأخذ طريقه نحو الحقول، يجلس هنا وهناك يتناول بعض الطمي من كل مكان يفركه بين يديه يتشممه، ينثره فى الهواء، يمعن النظر ليرى توجهات الطريق التي توجه إليه بعضا مما نثره وإلى أين تحط يمينا أم يسارا أو بزوايا أخرى، بالأخير يهز رأسه راضيا عن النتائج التي وصل إليها، عند بداية موسم الزراعة الجديد يحكم فكره ما توصل إليه من نتائج، ترقب هو والباشا وكل العاملين بالأراضي النتائج، بعضهم كان قد أبدى اعتراضه، والبعض أبدى تذمرا مكتوما، والقليل رحب نوعا من الحيادية، الكل لم يظهر ما يبطن حتى لا ينال سخط الباشا، يعود كل يوم يمر على المزروعات، يتابع خطوات نموها، أساريره كانت تزداد انفراجا يوما عن الآخر، الباشا كان يصاحبه، يتأمل ويبتسم ابتسامته القصيرة التي لا تلق بكامل أوراق الحقيقة للعلانية، الباشا ممن لا يبدون انفعالا حول أي شأن إلا باكتمال المشهد كاملا، كان يشاهد مراحل نمو المزروعات وبداخله يقين أن ما يراه مغاير تماما لأي شيء سابق، ولكن الأهم لديه هو الناتج النهائي، فهو القول الفصل وآليات لكل شيء، الجد كان على مسيرته اليومية، بعد صلاة الفجر يتسلل ذاهبا إلى الحقول، يتجول بينها، يداعب أوراق المزروعات ويداعب ما بدأ يعلن عن ظهور الثمار، كم حكى لي أبي عن هذه اللحظة التي تم نضج المحاصيل وحان موعد حصادها، الجميع فوجيء، الباشا وكل من يعمل بالسرايا الذين استدعاهم الباشا لمشاهدة الحصاد للمرة الأولى بعمرهم، وأيضا المزراعين، سواء من كان يعمل بأراض الباشا وهم أغلبية، أو ممن يمتلكون مساحات قليلة أو ممن يعدوا من متوسطي الحال، وكأن الأمر تحول إلى عيد للحصاد.
، الباشا كان يقف بين الجميع واثقا تماما من نجاح رجله فيما سعى إليه، وكان الناتج فوق كل تخيل، يكاد يتضاعف وأحيانا يتجاوز التضاعف، الكل كان قمة بالدهشة التي عبروا عنها تهليلا وتصفيقا، ولعل هذا اليوم دعاه الى التفكير بيوم للحصاد يحتفل به، الباشا لا إراديا، اندفع محتضنا جدي، ويقبله بحب صادق، بعد انتهاء أيام الحصاد، جلس الباشا وعلى مقربة منه جدي، بعد أحاديث متشعبة وزوايا كثيرة، فاجأ الباشا الجد.
* يا ( محروس) أنت أثبت لنا أنك فعلا تفكر بما يعود بالخير علينا، ونحن من ناحيتنا نقدر هذا، لذا قررت أن يكون لك بيت مستقل قريبا من السراية، ثم أمر آخر أفكر فيه منذ فترة، سوف أسعى لتزويجك من إحدى بنات الأسر الأصيلة من بلدات مجاورة لنا، فأنت أشبه بالعازب، ويجب أن تكون لك حياة مستقرة، إلا إن كنت ترغب بأن تأتى بزوجتك وابنك ليكونوا بجوارك، رغم أنك قلت مراراً أن أباك رافض تماماً هذا الموضوع، ودوما يصرخ بوجهك، هل تريد أن أفقد حتى رائحتك، زوجتك وابنك أراك فيهم فلا تفكر بهذا مطلقا مادمت أعيش على وجه الأرض.
هز الجد رأسه مؤمناً على حديثه، ولم ينتظر الباشا طويلا، في صباح اليوم التالي، ركب السيارة يجاوره الجد، لم يجرؤ الجد على سؤاله إلى أين؟ طوال الوقت الذي قارب النصف ساعة لم ينبس أحدهما بكلمة، اكتفيا بتبادل النظرات، أخيراً توقفت السيارة أمام منزل مغاير لمعظم منازل القرية التي مرا بها، على الباب يجلس شابان على أريكة، بمجرد وقوف السيارة انتصبا قائمين، وقف كل منهما على أحد جانبى الباب، بل ورفعت أيديهم بالتحية وفتحا الباب على سعته، لفت نظر جدي مقدمة الباب بأعلاه تمثالان لصقرين على جانبيه ، وعندما لمح الباشا الدهشة يمتليء بها وجه الجد، علت شفتيه ابتسامة صغيرة ولكزه خفيفا بأطراف الأصابع، قادهم الرجال إلى حجرة متسعة للغاية بها العديد من الأرائك الوثيرة والمفروشات، بمجرد أن دخلا إلى مقدمة الحجرة اندفع رجل عملاق الطول والبنية، فاتحا ذراعيه على سعتيهما، تراجعت أكمامه وبدت ذراعاه عاريتين، ظهر عليهما رسم الوشم صقر على كل ذراع فزادت دهشة الجد، عاود الباشا لكز جدي بشيء من العنف هذه المرة، هرول الرجل زاعقا بصوت عال للغاية.
* ( حازم باشا البدوي) سليل الأصول والكرم والنبلاء، يا أهلا يا أهلا شرفتنا.
وأكمل الطريق حتى وصل إلى الباشا وعانقه بقوة وبادله الباشا نفس العناق، إستمر العناق والتقبيل على الكتفين وقتا سمح للجد بأن يجول ببصره بالحجرة الفسيحة، لمح خلف الكرسي المرتفع قليلا عن كل ما يحيط به من كراسي صورة لصقر، ولكنه هذه المرة كتم دهشته داخله، وانتظر أن تتضح الأمور، أشار الرجل إلى الباشا بالجلوس مجاورا له، وأشار إليه أن يجلس مشيرا إلى أحد المقاعد القريبة، بعد وقت طال من الربتات المتبادلة بينهما تكلم الباشا.
* يا حاج (جعفر) هذا ( محروس) الذي حدثتك عنه، رجل وفي أمين مخلص، لا أبالغ إن قلت إنه منذ تعارفنا والخير يجرى بركابه، علاوة على أنه شهم وجريء بالحق ووطنى فوق تخيلك، أرجو أن تكون قد فكرت بما عرضته عليكم من أيام.
* يا باشا يا إبن الأصول أنت تأمر ونحن ننفذ، معرفتنا متأصلة من الجدود، طلبك مجاب بأمر الله، يا باشا أنت قلت أن له زوجة وابن ببلدته ( محلة نصر بالبحيرة) كيف يكون عادلا بينهما وواحدة على مسافات بعيدة والأخرى إن أمر الله ستكون معه على الدوام، أم أنه سيأتي بزوجته أيضا.
* يا حاج الزوجة الأولى يرفض أبوه رفضاً باتاً أن تغادر القرية مرددا أنه يشتم رائحة ابنه فيها وفي ولده منها، وهو لا يذهب إلى قريته إلا على فترات متباعدة ويذهب تحت جنح الليل ويعود مثلما ذهب، والأمور تسير هكذا منذ أكثر من عام فلا قلق من هذه الناحية، ثم أنا أضمنه وأرشحه بقوة لمصاهرتكم.
* يا باشا أنت كلمتك أمر، الرجل الأصيل لا يأت إلا بأصيل مثله، ونحن نعرف أنك أتيتنا بهدية ونحن سنرد الهدية بهدية تناسب مقامكم، ( جوهرة) ابنة اخي ( زيدان) ترملت بعد شهور من زواجها، زوجها مات بحادث دهس أثناء ذهابه إلى طنطا لبعض احتياجاتهم وتركها حاملا بالشهور الأولى، أنجبت بنتا عمرها الآن ثلاث سنوات، وهى لم تتجاوز العشرين الا بسنوات قليلة. أظن أنها قد تكون مناسبة إن وافق ( محروس).
* كيف لا يوافق وهو بحضرة الحاج ( جعفر صقر) كبير الناحية والنواحي كلها، ولا أبالغ إن قلت المديرية كلها، ما طلباتكم ونحن تحت الأمر.
الجد كان يجلس قمة الدهشة فاغرا فاه، بين الفرح وبين المفاجأة وسرعتها، واضح انها إبنة عائلة ذات شأن وهذا ما أفرحه، ولكن هرولة الأمر جعله يعيش المفاجأة بشكل كامل، أفاق من شروده على صوت الحاج.
* اي طلبات تتحدث عنها يا باشا، كلنا رهن أمرك، اعتبرها ببيته دون أي طلبات سوى أن يراعى الله بها، وببنتها وأن يكون الأب والأخ قبل الزوج، ولا شيء آخر.
* هذا ما أضمنه لكم.
ومد يده وتناول يد الحاج ( جعفر صقر) وتصافحا بحرارة، ضحك الحاج ضحكة قصيرة وأشار بيده إلى الجد قائلا.
* نحن نسينا رأي الرجل وتركنا لأنفسنا أن نتكلم ونتفق باسمه وهذا لا يصح، ما رأيك يا ( محروس) أليس هذا اسمك؟ تكلم وأسمعنا رأيك بلا مجاملة للباشا أو لي، فهي حياتك وأنت من تتحمل نتائجها، تكلم يا بني.
تلعثم الجد للحظات ولكنه على الفور استجمع شتات نفسه، وعدل من جلسته، ووجه بصره إليهما متنقلا بين الوجوه وبالنهاية تكلم بصوت هادئ واضح ومفهوم.
* أنتم غمرتموني بأفضالكم، ومؤكد أنتما لا تسعيان إلا لخير لي، وأنا أوافق على ما إتفقتم دون أي تعديل أو إضافات، أنتم شرف لي.
بعدها نهض الباشا ليعانقه وتابعه الحاج، اتفقا على أن يأتي ليكتب عليها بعد أسبوع، لم يطلب رؤيتها ربما خجل من طلبه وربما ثقة منه بمن اختارها الرجل الذى من الواضح مدى علاقته الوثيقة بالباشا، نهض الباشا طالبا الإنصاف، ألح الحاحا كثيرا لتناول الغذاء معه ولكن الباشا اعتذر ووعده بهذا يوم يأتون لكتب الكتاب ومصاحبة العروس، وطلب منه أن يأتي بأقرب وقت للاطمئنان على السكن المعد لها وأثاثه، رفع الحاج يده قائلا.
* يا باشا نحن لسنا أغراب عن بعض ، نحن علاقة من الجذور من أيام جدي وجدك، ليس بيننا مصالح، ما بيننا هو الود والاحترام ربنا يديمها علينا.
شيعوا الحاج ورجاله الذين يحملون البنادق على أكتافهم حتى السيارة، لفهم للصمت حينا ليس بالقليل، الجد يفكر بهذه الخطوات المتسارعة، والباشا تعلو وجهه أمارات السعادة، بل إنه كان ينقر بأصابعه على مقود السيارة نقرات متناغمة، تكلم الباشا.
* مؤكد عرفت سبب رسمات الصقر، العائلة اسمها صقر، ولكي تعرف أكثر عندهم طقس معين وثابت منذ عصور لا أعرف ولا هم مداها، هم توارثوها من السابقين، عندما يبلغ الولد عمر السادسة يوشم على ذراعيه وشم الصقر، ولا أعرف إن كانوا يفعلون هذا مع نسائهن وفتياتهن أم لا ثم تعرف انت عندما تزف إلى عروسك. ما رأيك فيما رأيت وسمعت؟
* يا باشا أنت لا تعرف سوى الكرام، من الواضح أنها عائلة لها حيثياتها ولها مقامها، فقط أنا مندهش من هذه السرعة بالأمور، ولا أقول هذا اعتراضا لا سمح الله، ولكن الخيرة فيما يقرره الله لنا، فقط لي مطلبين إن سمحت، الأول أن أذهب يوما لوالدي ليحضر هذا الزواج، والثاني هو أن تسمح لي بزيارتهم منفردا لإيجاد نوع من الأريحية بيننا.
* بالنسبة لطلبك الأول ونظرا لضيق الوقت سوف أرسل سيارة تأتي بأبيك ومن يريد أن يصاحبه، والثاني أوافقك عليه ولك أن تذهب متى شئت.
كان من يرى الجد والباشا لا يصدق أنه باشا وأن هذا مجرد واحد ممن يعملون لديه فقد توثقت علاقتهما بشكل كبير وسريع، كان الباشا كثيرا ما يستشيره بالكثير من الأمور دون أن يضع أي فواصل بينهما، كانا يتسامران سويا، بحكي بعض المواقف التي لا تنسى على مدار أعمارهما، كانت هناك جلسات سمر موسعة تعقد نهاية كل أسبوع ، يجلس الباشا وحوله بعض الأهالي وضيوفه من بلدان أخرى، يطلب من الجد أن يحكي عن كيفيه قنصه للإنجليز، رغم أنه سمعها عشرات المرات، يحكى والكل ينصت يتخلل حكيه بعض من التهليل والتصفيق، وكأنه يحكي حكايات عنترة العبسىي وأبو زيد الهلالي وحمزة العرب، وحكايات أخرى كثيرة لها الكثير من الخيال وقليل من الحقيقة التي سمعها أثناء جلساته بقريته مع الشباب الذين كانوا يكبرونه عمرا, باليوم التالي طلب الإذن بالذهاب إلى قرية من ستكون زوجته، أراد الباشا أن يذهب بالسيارة وتنتظره للعودة، رفض قائلا.
* أريد أن أعرف طريق الذهاب وحدي فإن تم الأمر مؤكد هناك زيارات كثيرة. اكتفى الباشا بالابتسام طالبا منه أن يمر على المخازن يأخذ منها ما يشاء هدايا لأهل العروس فلا يجب أن يذهب أو يدخل بيتهم دون هدايا تليق به وبهم، شكر الباشا طالبا منه أن يمنحه (كارتة) ليذهب بها ويعود، المسافة بين القريتين تقترب من الساعة ( بالكارته)، وصل أمام البيت الذي يعلوه مجسم الصقور، دون أن يسأل أحدا، الجد كان صاحب ذاكرة لا تنسى، الرجلان الواقفان أمام الباب والمعلقة بنادقهم على أكتافهما نهضا متسائلين عما يريد، لم يتعرفا عليه، أخبرهم بما يريد، دخل أحدهم إلى الداخل وعاود بعد لحظات قليلة مشيرا له بالدخول، الرجل يتوسط الحجرة وعلى جانبيه يقف بعض الرجال تعلو أكتافهم بنادق متشابهة الصنع، ويجلس بعض الرجال والشباب أمامه، عندما رآه الرجل رحب به بشده، وأشار إلى ثلاثة من الشباب متفاوتة أعمارهم، سارعوا بالوقوف أمام الحاج ناظرين إلى أسفل، خاطبهم.
* هذا ( محروس الصعيدي) عريس أختكم ( جوهرة ) بأمر الله، هيا سلموا عليه، ووجه الحديث للجد .
* هؤلاء إخوة عروسك، (على وإبراهيم ومتولى), وبعض الوقت يكون أخي ( زيدان) حاضرا، كويس حضورك للتعرف على أسرة عروسك.
أقبل عليه ( إبراهيم ومتولي) صافحاه بحرارة وتبادلا القبلات، وجلسا على مقربة منه، أما ( علي) فقد مد يده بلا حراره وبادله النظرات التى توحى بعدم ترحابه، ولكنه قال أهلا مقتضبه وبخفوت وعاد إلى مكان جلوسه، وأخذ ينظر إليه شذرا بين الحين والآخر مما أصابه ببعض القلق، فيما بعد فهم سبب هذا التنافر والنظرات الشذرية، ظن أن أخته ستتزوج رجلا أقل مكانة منهم، ولكن عندما اتضحت الأمور كان أقرب أصهاره إليه ،دار الحديث بالعديد من الموضوعات، سئل عن أهله وعن بلده وعن سبب وجوده هنا، طال الحديث الذي قطعه وصول ( زيدان صقر) والد العروس الذى رحب به كثيرا، وقال.
* أخي الحاج ( جعفر) مادام وافق نحن موافقون لأننا نعرف أنه دوما له نظرة بالناس، تشرفنا بك وكيف لا نتشرف وأنت مع الناس الأفاضل، عائلة ( البدوي) الناس الكبار وأصحاب السمعة العطرة.
طال الحديث بينهم لساعات وساعات وتناول الطعام والمشروبات سويا، بعدها أخذ الإذن للمغادرة، أمر بعض رجالة لمصاحبته حتى يغادر زمام ( الهياتم), ركب (الكارتة) وسار بجانبه اثنان من راكبي الخيل على اليمين وعلى اليسار حتى وصل إلى مشارف القرية ودعهم شاكرا لهم، كانت مساحات الثقة قد زادت داخله بعد هذه الجلسة الطويلة، ولكن نظرات ( على) لم تريحه، ولكنه ترك الأمر للأيام مؤكد ستوضح كل شيء، استقبله الباشا ضاحكاً، كان يجلس بالفراندة الواسعة والتي بمقدمة السرايا بتناول فنجان من القهوة التي يصر على عملها بنفسه، قائلا أنا أدرى بما يطلبه مزاحي من القهوة، كان يرتشفها بهدوء تام وكأنه بحضرة حبيبته، طلب منه أن يقص عليه ما حدث بالتفصيل، وعندما ذكر ( على) فوجئ بالباشا تعلو ضحكاتهم ويربت على ساقه بشكل به قوة بعض الشي.
* لا تشغل بالك، هذا الشاب دائم القلق لأهله، ولكن هم يعرفون كيف يلجمونه إن خرج عن المألوف لا تقلق من ناحيته، المهم سنرسل السيارة غدا إلى أبيك لتأتى به ومعه من يريد، كل شيء سيكون على ما يرام بمشيئة الله، نهض وأمسك بكفه وسار به إلى داخل السرايا، إلى حيث موضع التليفون، أشار إليه بالجلوس، رفع سماعة التليفون طلب محلات ( الاسكندراني ومحمد أسعد) التاجرين الشهبرين بشارع الخان بطنطا، أملى عليهما ما يريده وبأقرب وقت، اتصل بكبرى محلات المفروشات بالمحلة الكبرى، واتصل بمحل موبيليا شهير بدمياط محددا لهم المطلوب، عادا إلى الفراندة الجد طوال الخطوات من داخل السرايا إلى الفراندة يردد الشكر مرارا والباشا يشير له بالسكوت، جلسا صامتين، لمح علامات بعض الحزن على الباشا، هو يعرف سببه ولكنه أبدأ لم يحاول السؤال، الأولاد رغم أعمارهم الصغيرة أصرت الهانم على تعليمهم بالخارج منذ البداية هو كان رافضاً تماما للفكرة، خوفا من أن ينسوا طباع أهلهم وبيئتهم، ولكنه بالنهاية سلم الأمر لها، سافرت بهم إلى ( باريس) والحقت الولدان بمدرسة داخلية، والطفلة تذهب بها إلى حضانة من كبريات الحضانات التي تعلم كل شيء من الألف إلى الياء، تعود كل شهرين لبضعة أيام وتعاود السفر، وقليلا ما كان يسافر فهو لا يعرف طعم الحياة إلا وسط القرية وناسها البسطاء، ولكنه كان حريصا كل الحرص على قضائهم العطلات الصيفية كاملة بالقرية وأتى بمحفظ للقرآن الكريم يعلمهم ويحفظهم كتاب الله ، وكان يصطحبهم ويمشي بهم بحوارى وأزقة القرية يداعب الأطفال بتمرير كفه على شعرهم ويمنحهم بعض النقود، يجعلهم يصافحون كل من يصادفهم من أطفال القرية، يقف بهم لمشاهدة بعض ألعاب كرة القدم والأهل يقفون على الخطوط يصفقون ويهللون، يشاهدون ليلا من يلعب (الاستغماية) والاختفاء بين أكوام البرسيم الجاف، كان يحاول أن يقربهم من القرية وأهلها، هذا سبب والسبب الآخر إخوته الذين غادروا القرية منذ الصغر لا يعودون الا على فترات متباعدة وحالة عودتهم يثيرون الكثير من المشاكل، يتعالون على الجميع، يشيحون بوجوههم عن أهل القرية، يتبارون بفنون الخيل والعدو بها داخل أزقة وحواري القرية دون أي اعتبار لأحد، الناس تهرول وتدخل بيوتها خشية أن ينالهم أذى من هرولات الخيل أو من الغبار الذى يثار بشكل كبير، كم مرة جلس إليهم معنفا لهم رغم أنه ليس أكبرهم:
* تعاملوا مع الناس على أنهم من لحم ودم مثلنا، ليس ذنبهم أنهم خلقوا ليس من مستوانا، هؤلاء لو نالوا حظا من تعاملكم الجيد سوف يكونون حماة لكم حريصين عليكم، خذوا العظة من الجنازات، هي خير دليل على مدى حب ومكانة الراحلين، هناك من يسير بالجنازات بالمئات والألوف ومن بلاد متعددة، وهناك من يسير بجنازته عدد لا يذكر ، احذروا أن تصلوا بأن تكونوا غرباء حتى بمماتكم.
الغريب بأمر إخوته أنهم يجمعون بين تناقضات تثير الدهشة، التميز الكبير بأعمالهم في عالم التجارة، وأيضا بانغماسهم تماما في علاقات غير مشروعة مع نساء من شتى البلدان التي يذهبون إليها لإبرام صفقات، رغم أن كل منهم متزوج من سيدة من بيوتات عريقة ولها تمايز مجتمعي، ولكن ماذا تقول هكذا الرجل الشرقي لا يقنع بسيدة واحدة، كان كثيرا ما يمازحهم يبدو أنكم تريدون فتح فروع لكم من النسل بكل بلدان العالم، يكتفون بمبادلته الممازحة بابتسامات مقتضبة باردة مثل البلدان التي يعيشون ويتجولون بها.
كرر هذا مرات عديدة ولا حياة لمن تنادي، هم لا يأتون إلا للحصول على المال الذي يعرف أنهم يصبونه صبا في كل ألوان المتعة. وللأسف ورثوا هذا لأبنائهم الذين لا يطيقون التواجد بالقرية ولو لساعات، إقامتهم دائما بالقاهرة أو الإسكندرية، هم يتحملون وزر ما يزرعونه بأولادهم، الأبناء نبته ترتوي مما يسقيهم به الأهل من طباع وسلوكيات وطرق تعامل مع الأمور على تعدد مسمياتها،، في اليوم التالي وقبل أن تتوسط الشمس كبد السماء عادت السيارة بأبيه وأمه، تم استقبالهما بترحاب حار من الباشا، الأب رغم أنها المرة الأولى التي يلتقى فيها بالباشا إلا أن حديثهما المتشعب أشعرهما كأنهما يعرفان بعضهما منذ سنوات، بعد واجب الضيافة طلب الباشا من السائق أن يصاحبهم إلى ( الهياتم), ليتعرفوا بأهل الزوجة الجديدة لولدهم، كانوا قد أتوا معهم بالكثير من خيرات زراعاتهم ومواشيهم، وصلوا أمام البيت الكبير لعائلة صقر وكأنهم كانوا على علم بقدومهم، وجدوا الشارع معدا نظيفا مفروشا بطبقة من الرمل الناعم شديد الاصفرار، حراس الأبواب نهضوا على الفور وفتحوا الباب على سعته، الحاج ( جعفر) كان يقف في منتصف الغرفة فاتحا ذراعيه بالشكل الذي قوبل به هو والباشا، أشار إليهم بالجلوس على مقربة منه، كان أب الجد مقررا لأمر قبل جلسته، بادر بالحديث.
* طبعا لنا الشرف كل الشرف أن نصاهر عائلة عريقة مثلكم، ولكن يا حاج دعني أوضح أمرا، أولا نحن الحمد لله أيضا عائلة لها مكانتها ولولا الظروف التي ربما أخبركم بها الباشا ما كنا تركنا ( محروس) يغادرنا مطلقا، ولكن كما يقولون للضرورة أحكام، والحمد لله أن كان وجوده مع الباشا، هذا الرجل الذي سيرته المحمودة تجوب البلاد كلها شرقا وغربا، هذا للإيضاح.
* يا حاج ( محمد) نحن نتصاهر مع رجال وأنتم أسياد الرجال، لا يهمنا أي أمور أخرى، ويكفينا أن ولدكم رجل يحب بلده ومخلص بحياته ويعرف الله.
أخذهم الحديث طويلا وأصر الحاج على قضاء الليلة لديه وان كان ( محروس) يريد أن يكون معهم أهلا وسهلا وإن لم يستطع فله الإذن وهو ماكان، عاد تاركا الأب والأم بضيافة الحاج الذى أكد أنه سيرافقهم حين عودتهم بالغد حتى القرية وبالمرة يجلس مع الباشا بعض الوقت، الأيام تهرول وأتى موعد حفل الزفاف الذى كان الباشا قد أعد له دون أن يخبره بشيء عنه، أصر أن تحضر العروس بهودج مثل الزمن الماضي ومثل قطر الندى يحيط بهودجها بعض الجمال المزينة والتي يركبها شباب العائلة وتسير بركابهم فرق غنائية تغني أغاني الفرح، كل فرقة تسلم لفرقة أخرى بمدخل قرية أخرى، حتى تصل إلى بيت العريس، هذا أخذ منهم ساعات للمسير، وعند الوصول إلى القرية كان هناك احتفال آخر، سرادق كبير وعازفو المزمار وراقصات الشمعدانات، وطهاة يقومون بشواء الخراف والماعز وما يلزم من طعام وشراب، استمر السهر حتى ساعات الفجر الأولى، دخل الحجرة التي بها عروسه، للم يكن قد شاهدها على الإطلاق، وجدها جالسة بحجرة النوم على أحد أطراف الفراش مطرقة الرأس إلى أسفل، اقترب منها برفق تام، بعد وقت رفعت رأسها تنظر إليه، ندا عنه آهه فلقد فوجيء بجمال لم يعهده من قبل، أخذ يفتح عينيه ويغلقهما مرات غير مصدق أن هناك مثل هذا الجمال على الأرض، مد يده إليها، طاوعته سار بها طالبا منها الوضوء للصلاة شكرا لله, ودعاء بأن يكتب لهما السعادة والبركة، عاودت الدخول إلى الحجرة التي قام هو بإغلاقها حتى لا تكون بحرج، توضأ هو أيضا، صلى وهى خلفه وبعدها جلسا للدعاء، هو يقول وهى تردد وراءه حتى تساقطت دموعهما سويا، ومن حلاوة عشرتها أصر إصراراً كبيرا بأن تأتي بإبنتها ليتولى تربيتها معها وتكون أمام أعينهما، أنجب الجد من زوجته الثانية ابنا وحيدا وهو والدى ( جابر), ولم يعلم أحد عدد أبناؤة بقريته إلا بعد ذهابه مع الزوجة الجديدة وولده المولود وابنتها إلى قريته ليرى أبوه وأمه المولود الجديد، بهذا اليوم فقط علمت ( جوهرة ) أن له ثلاثة أبناء من الزوجة الأولى( محمد الذى سمى على اسم الجد الأكبر ، حسن، نبيلة)، الأيام تمضى وتزداد حلاوة أمام الجد، الباشا يزيده قربا وثقة، حتى أنه علمه كيفية قيادة السيارة، وأصبح سائقة، يصطحبه معه في أموره كلها، حتى بحفلات الكبار كان مصاحبا له، كم من حفلات صاحبه لها بمسرح البلدية بطنطا، وقليلا صاحبه لمرة أو إنثنتان بأوبرا القاهرة، وبالسرايا العدد من الصور التى تؤكد هذا، حتى دموع الباشا التي كان يحجبها عن الجميع، كانت تتساقط أمام الجد، كان يبثه وجعه من بعد أولاده وتطبعهم رغم كل محاولاته ببعض طباع المجتمع الذي عاشوا به، كان كل منهم يجد سلوته مع الآخر، من رؤية الكبار ممن يأتون لزيارة الباشا بلا طلب أصبحوا يتعاملون مع الجد على أنه من أبناء السرايا، أقنع الباشا بأن يقيم مصانع تناسب البيئة التي بالقرية وأجوارها، لفتح أبواب رزق دائمة لهم، وأيضا إقامة مستوصف صحي آخر أوسع وأشمل لمعالجة أبناء القرية، وإقامة مدرسة أخرى ومعهد ديني آخر ومكاتب لتحفيظ القرآن، قائلا له.
*ما يخلد الإنسان هو سيرته العطرة وما يتركه من ميراث الخير.
لبى الباشا الفكرة، وفاجأ الجد يوما بأن إصطحبه إلى مدينة طنطا، وذهب به إلى أملاك له كان قد صاحبه إليها مرارا، كان يعرف أنها موقوفه من الباشا الكبير، فوجيء أن الباشا قد خصص جزءا آخر كبيرا بنى عليه مستشفى تحمل اسم ( البدوي), ومسجدا كبيرا، ومدرسة للتعليم الأولى، ومدرسة لتعليم الخط العربي، كل هذه الإنشاءات يحوطها سور واحد، وأوقف بعض الأملاك للإنفاق على هذه الإنشاءات، تعانقا يومها عناقا حارا شهدت عليه الدموع المتبادلة، أبي ورث عن الجد حبه للزراعة وكأن الأمر جينات متوارثة، لم يكن عنده ميل للتعلم، صارت الحياة كما أرادها الله وكما تمناها الجد حتى كان اليوم الحزين، كان الجد جالسا تحت شجرة توت عملاقة، أمامه وعاء فخاري مشتعل النار دوما، كان يحب شرب الشاي بشكل كان يثير الدهشة، كان يتابع دوران الساقية ويلقي بنظره إلى العاملين بالأراضي، تعلو وجهه ابتسامة الرضا دوما، ينشرح صدره لسماع أغانى العاملين الذين كانوا يعشقونه، عند الظهيرة الكل يهرول إلى الأشجار المحيطة بمدار الساقية لتناول الطعام والراحة قليلا، وجدوا الجد ملقى على ظهره، ظنوا أنه نائم، إقترب أحدهم منه لإيقاظه فهم إعتادوا منه أن يشاركهم الطعام، فوجيء أنه لا يستجيب لندائه مرات ومرات، ربت على جسده مرات ومرات لا حراك، الرجل وضع أذنه على صدره، لم يشعر بنبض، صرخ بصوت تردد صداه.
* عم ( محروس) مات.
ارتفعت وتيرة العويل والصراخ واللطيم، هرول البعض منهم نحو السرايا لينبئوا الباشا، الباشا كان جالسا بالفراندة يتناول فنجان من القهوة، ولكنه كان شاردا بشكل كبير حتى أنه لم يشعر بالصراخ الآتي والنداءات التي تناديه، حتى وقفوا على أول درج الفراندة، تجرأ أحدهم وصاح بصوت به شيء من العلو.
* يا باشا يا باشا، البقية في حياتك، عم ( محروس) تعيش أنت.
ما إن انتهى الرجل من آخر حرف مما قاله إلا وكان الباشا قد انتفض قائما متسمرا بموضعه، سأل الرجل.
* ماذا قلت؟
* عم ( محروس) تعيش أنت.
الباشا أخذ طريقه للتهاوي، لحق به أحد الرجال، أجلسه على مقعد كبير، وأسرع لإحضار كوب من الماء، سقاه بعضا منه حتى انتبه، الباشا وجهه ينطق بالذهول التام، الخرس أمسك بلسانه، بعد وقت طال بعض الشيء تكلم بصوت متلعثم متقطع.
* سبحان الله فعلا الأرواح الشفافة تشعر بالغد، من أيام كنا جالسين لحالنا نتكلم بكل شيء, الأمس واليوم والغد متنقل بين الحكايات المفرحة والأخرى التي بها وجع، فجأة قطع الحديث ممسكا بيدي بقوة ووجه بصره إلي كأنه ينقش كلامه داخلى، قال لي.
* يا باشا إعذرني إن كان ما سأقوله قد يوجعك بعض الشيء، سامحني وعدني سوف أضع بين يديك وصيتي ولا أعلم متى تنفذ ولكني على يقين بحرصك على تنفيذها، أرجوك اسمعني دقائق دون مقاطعة، أنا عشت معك قرابة السبعة عشر عاما وأكثر وبكل الصدق لم أشعر بأي لحظة أني غريب، كأني غادرت قريتي البعيدة هناك إلى قريتي التي كتبها القدر لي، لم تكن سيدا وأنا أجيرا لديك، كنت الأخ والصديق والرفيق، أزلت بدماثتك كل الحواجز، وصيتي إن حان أجلى أن أدفن بمسقط رأسي، لم أكن غريبا هنا ولكن أود أن أعطي قريتي وأهلي بعضا من الوجود بينهم حتى لو كنت ميتاً، بعدها لم نشعر الا بعناق قوي يجمعنا والدموع الحارة والغزيرة تنساب من عيوننا دون توقف، الأرواح الشفيفة تقرأ قادم الأيام.
ثم هب ناهضا، أسرع للتليفون، طلب أحد أطباء القرية، لم يوضح له أي شيء.
* دكتور ( سمير ) إلحق بي عند زمام أرضي بالجهة الغربية، يبدو أن ( محروس) مصاب بإغماءة، وخيل للناس أنه مات، لا تتأخر.
وأسرع مهرولا إلى السيارة، التي قادها بأقصى سرعة لم يعتادها أهل القرية على الإطلاق، كان يقود والدموع تغطى وجهه، وصدره يعلو ويهبط بحدة، عندما اقترب وجد القرية عن بكرة أبيها تحيط بالمكان، والصراخ يعلو ويتصاعد من الكل، المشهد جعله يتوقف وكأن قدميه غاصتا بدوامة رمال متحركة، الدهشة علت وجهه عندما وجد جدتي ( جوهرة) تضع رأس الجد على حجرها، ولا تنطق وكأنها أصيبت بالخرس، ولكن دموعها تتحدث نيابة عنها، وأبي صاحب الثلاثة عشر عاماً وقتها يتلفت يمنة ويسرة ولا يفهم شيئا سوى أنه يشعر أن الأب لم يعد موجودا ولن يحدثه أو يجلسه بجواره ويحكي له العديد من الحكايات وأحداث يومه، وجد أبي نفسه يرتمي على صدر أمه ورأسه يجاور رأس أبيه، ينظر للوجه الصامت بنظرات تستجديه أن ينهض من رقاده، وصل الطبيب الذي أجرى الكشف السريع والذي لم يأخذ وقتا طويلا نهض وهمس بصوت مخنوق.
* قضي الأمر، إنا لله وإنا إليه راجعون.
الكل رجال ونساء وشباب وصغار علا صراخهم، الرجل كان محبوبا من الجميع لم يكن على خلاف مع أحد، بل يشهدون أنه كان عندما يشعر بأنه ربما أخطأ بشيء يسرع ويطرق باب من تخيل أنه أخطأ بحقه، يعانقه بشده ويربت على كتفه مرات وينصرف دون حديث، أتت سيارة إسعاف طلبها الباشا، كان الجثمان قد نقل إلى السرايا، وقام الطبيب بمعاونة من يجيد الغسل والتكفين بتجهيزه للذهاب به إلى قريته حسب الوصية، أصرت جدتي ( جوهرة على مصاحبة الجثمان بسيارة الإسعاف وبالطبع كان معها أبي الذي التصق بها تماما ورعشات جسده تتصاعد وكأن الحمى قد أمسكت به تماما بكل قوتها وقسوتها، الباشا يقود سيارته وحيدا، رفض أن يكون معه أحد حتى يبكي كما يريد، وعددا من سيارات أعيان القرية وما حولها ومن عائلة جدتي الذين أبلغوا بالخبر، كان الباشا قد أجرى إتصالا بعائلة الجد وأبلغهم بالخبر الحزين وأنهم بالطريق إليهم، الطريق طويل، حكى أبي لي أن هذا المشهد راسخ بتفاصيله داخله، السيارات تسير خلف سيارة الإسعاف وسبحان الله كان أصحاب السيارات بالطريق أرادوا مشاركتنا الحدث، الجميع يسير بصمت وبلا ضوضاء معتادة، كانوا يفسحون الطريق عند سماع بوق سيارة الإسعاف بل إن البعض كان يتوقف، بعد أكثر من ثلاث ساعات وصلنا إلى مشارف القرية، على الطريق الموصل للقرية المئات إن لم يكن الآلاف بانتظار الجثمان، توقفت السيارة أمام الجد الأكبر والذى أشار إلى سائق سيارة الإسعاف أن يسير بها إلى دوار العائلة قائلا بصوت جهوري:
* بدأت رحلته من هذا الدوار وتختتم رحلته منه، ذهب بجسده ولكن روحه متواجدة بنسله، سيرته العطرة التي يعلمها أهل القرية ونواحيها ميراث لن يغادرنا مطلقا.
وألقى بنظرة إلى من يصرخون ويلطمون صارخا بهم وبهن.
* لا أريد صريخا أو لطيما، كل منا هناك وقت يناديه رب العالمين، وعلى الجميع الامتثال للنداء، لا صريخ ولا أي شئ فقط الدعاء له أن يثبته الله عند السؤال.
دخلوا بالجسد بعدما تم التحقق من ( التكفين) بشكل تام إلى صحن الدوار، منع الدخول لأي أحد من غير زوجتيه وأولاده وإخوته وأبيه وأمه وأعمامه، الكل أخذ يردد الدعاء الذي ينطلق من الجد الأكبر بصوت يتجاوز المكان مما جعل من بالخارج يشارك بالدعاء، إستمر الأمر لوقت طويل، بعدها رفع الجد الأكبر يده مشيرا بالكف ونادى على بعض من شباب العائلة، طلب من بعضهم الإشراف على إعداد السرادق الذى سيقام لثلاثة أيام متتالية وعليهم الاتصال بكبار مقرئي القرآن، والبعض الآخر لإعداد مضيفة العائلة الكبرى وملحقاتها من أماكن لإقامة المعزين من بلدات أخرى، والاتفاق مع الطهاة ومقدمي المشروبات، الجد الأكبر رغم مصابه الجلل إلا أنه كان رابط الجأش، في أيام العزاء لم تنقطع الحشود القادمة من بلدان قريبة وبعيدة لمكانة عائلة ( الصعيدي), بانتهاء أيام العزاء طلب الباشا أن يتحدث مع الجد الأكبر للحظات.
* يا حاج يعلم الله أني كل كلمة سوف أنطقها هي كاملة الصدق، وأعرف أنك واثق أن ( محروس) لم يكن يوما أحد العاملين معي، منذ أن التقينا صدفة دبرها الله وأنا أعتبره أخي وساعدي الأيمن، لأنه ومنذ قدومه والخير لا ينقطع عنا بفضل عقله المرتب، لذا يا حاج أطمع منك بأمر أرجو أن توافق عليه، أريد لابنه ( جابر وأمه وابنتها أن يظلا معي، لأنهم جزء من المرحوم والمرحوم كان يكملني، هذا رجاء مني لك.
صمت الجد الأكبر لبعض الوقت ووضع يده أسفل ذقنه وشرد لبعض الوقت، وبعدها تنهد بشكل مسموع.
* يا باشا أنت تعلم مكانتكم لدينا، صحيح لم نلتق إلا مرة أو مرتان، ولكني وجدت بك رجلا لا يتباهى بعائلته أو بسلطته أو يستقوي بماله وممتلكاته، ويكفي أن المرحوم رفض أن يغادركم حتى وفاته، لك ما تريد، فقط ليكن هذا بعد الأربعين، سوف أرسلهم إليك وربما أصطحبهم لأطمئن عليهم رغم ثقتي أنهم بأمان معكم، مع شريطة أن يحضروا على فترات لزيارة أهلهم ونأت نحن أيضا لزيارتهم حتى تقوى صلة الرحم والدم.
* لك ما تريد يا حاج وإن أردتم أن تأتي معها الزوجة الأولى وأولادها أهلا بهم.
* يا باشا إترك لي شيئا منه.
* حاضر.
وغادر الباشا، أبي حكى لي أن الباشا لم يعد كما كان ، كانت علامات الحزن تكسوه ظاهرة بنبرات صوته، استمر هذا سنوات إلى أن رأى ما كان يحلم به أن يراه نسخة من الأب، عادت الأم وأبي بعد أسبوع من إنتهاء الأربعين, وأخذ أبي رغم صغر عمره مكان الجد، وسبحان الله كان أبي نسخة من الجد بالملامح والحركات والسكتات حتى الصوت متشابه لحد كبير، وورث منه أيضا فنون الزراعة والحكمة بالتعامل مع الناس، لذا بفترة قصيرة حظي بقبول من الجميع وكانوا يرددون دوما الذى أنجب لم يمت، وعند وصوله إلى العشرين تم زواجه من ( رحمة) ابنة إحدى عائلات قرية الباشا كان قد أعجب بها وهى تعمل بحقول الباشا، كان يتابعها ويرى كيفية تعاملها وحرصها على الابتعاد عن أي نوع من أنواع العبث, وبعد عام من الزواج جئت أنا للدنيا، وبعدي بعامين أختي ( بهجة) التي كانت اسما على مسمى فكانت بحق بهجة البيت، إستمرت حياتنا هكذا لا يعكر صفوها شيء إلا أمور الحياة المعتادة، وكانت وفاة الجد بعد ميلادي بأربع سنوات وتلته جدتي الكبرى بعام، ولكن أعمامي كانوا دائمي الحضور إلينا محملين بخيرات الأرض وإيراد ما يخص أبي من ممتلكاته، وحاولوا مرارا أن نعود إليهم ونتولى مسئولية ممتلكات الأب الراحل وكان الرد واحدا بكل وقت.
* لن نغادر مكانا شهد كل شبر منه أنفاس أبي، وهانحن دوما نلتقي وأنتم أصحاب ممتلكاتنا وفوضتكم بها.
كانت الأيام تمر هادئة هانئة، تجمعنا بالجميع علاقات ود وتراحم، لم يكن ينغص علينا بعض الشيء عندما يعود أبناء الباشا وأولادهم، صحيح كانوا لا يطيلون المكوث ولكن كانت فترة بقائهم تسبب لنا كثيرا من الألم، يتعاملون معنا كأننا لا ننتمى للبشر، يحذرون أولادهم من الاقتراب منا وبصوت جهوري بلا أي مراعاة لوجودنا، الباشا كان دوما يضغط على أسنانه غضبا، ويهديء من أنفسنا، تحملنا إكراما للباشا وكنا نقول لأنفسنا أياما ويغادرون، كبرت أنا وتعلمت من أبي كل شيء، زوجني أبي عندما وصلت التاسعة عشرة من ابنة رجل بالقرية كان بينهما ألفة وود لم ينقطع على مدار سنوات ( هنادي)، فجأة إستدعاني أبي إليه يوما، أجلسني أمامه يفتح فمه ويغلقه دون أن ينطق، لمحت بهذا اليوم بريق دموع بعينه، بعد جهد تحدث بصوت مشروخ.
* يا ( رشوان) ما أقوله لك الآن أقوله ويعلم ربي أنه صعب على نفسي، أنا بعد تفكير مرات قررت أن أعود إلى ( محلة نصر) لأعيش ما تبقى بين إخوتي وأهلي، أزرع أرضي وأعيش ببلدتي التي لم أعرفها جيدا، ولكن بها أجدادي وأبي وأمي، ثم إن اختك ( بهجة) مخطوبة لابن عمك ( حسن) وزواجهما قريب، أقول لك هذا ولك القرار أن تأتي معنا أو تظل هنا، وأنا بصدق لا أريدك أن تترك الباشا وحده.
ورحل باليوم التالي، نزوره كل فترة نظل معه أياما، كان هذا من أكثر من عشرين عاما ، عشت مع الباشا إلى أن جاء اليوم الذي طلبنىي ، دخلت حجرة نومه، ممدا على الفراش، تجاوز الثمانين بكثير، رغم هذا العمر كان من يراه لا يعطيه هذا العمر ولكن كان شديد الوجع لهجران أولاده وعدم التواجد.بجواره، وانشغالهم بحياتهم، حتى زوجته التي تصغره بقرابة العشرين عاما لا تأتي إلا أياما قليلة كل شهر أو شهرين وتعاود الرجوع، وكان وجودها لا يغير من الأمر شيئا ، تشعر وكأنهما زوجان على الورق وانتهت رسالتهما الزوجية بإنجاب الأولاد، كان دوما يصرح لي أنه نجح بالكثير وفشل بالأهم وهو أن يجعل من أولاده قريبين من عالمه، كان يخفف من وطأة هذا الإحساس حفيده الأكبر ( خالد) الذي كان شديد الالتصاق به، كان يرفض رفضا باتا أن يغادر القرية طوال عطلاتهم، بل وكان يرفض المغادرة معهم، ولكن لظروف جامعته وفيما بعد عمله كان يعود صاغرا، ولكنه كان دائم الإتصال تليفونيا كل يوم، كان هذا الاتصال بمثابة جرعة أوكسجين نقي تعود به إلى عنفوانه النفسي، وكان يكبح جماح دموعه، أمسك بكفي.
* ( رشوان) أكيد أنت تعرف كم أنتم أعزاء علي، من لحظة تعارفنا بجدك رحمة الله عليه وأنا أعتبركم أولادي ومن أهلي، ولو كان الأمر بيدي أكتب لكم كل ممتلكاتي، وأعلم أني قريبا سألقى ربي لذا أقول لك، خذ هذا الخطاب وهذا المبلغ عندما يأتي نداء الله، أعرف أنك ستواجه كل ألوان الصلف والغرور والتعامل غير الجيد من أولادي وأحفادي، لأنهم للأسف يظنون أنك أنت ووالدك وجدك كان لكم التأثير الأكبر علي، لأنهم لا يعرفون أن تاثيركم كان الحب الذي لم أجده لديهم، برودة بلاد الغربة أصابت قلوبهم بالعمى والبرودة، لذا أنصحك ولك القرار أن تغادر بعد رحيلي وتذهب إلى ( كفر منصور) تتبع ( بنها) تسأل عن ( عيسوي محمد مفتاح) أو والده إن كان حيا، هم يشبهونني طباعا إلى حد كبير، لك أن تعمل معهم أو تشتري أرضا هناك وبيتا وثق أنهم سيشملونك بكل الرعاية، هذا ولكن إن رغبت أن تعود إلى قريتكم كما عاد أبوك، وإن كنت أوصيك أن تحقق وصيتي ورغبتي، وعدته أن أنفذ وصيته كما أراد، توفى بعد هذا الحديث بحوالي أربع سنوات، حاولت الاستمرار ولكن كل ما قاله الباشا تحقق، تعاملوا معي كأنني مرض وجب استئصاله، صبرت كثيرا إلى أن قررت أن لا مفر من المغادرة وتنفيذ وصية الباشا، بعت ما يخصني من بيت وقطعة أرض كنت اشتريتها، غادرت وتركت روحي هناك، هناك وجع كبير يقتلني وأنا أرى الأبناء يهدمون كل ما فعله الأب ، ولكن مهما باعوا لن يستطيعوا أن يبيعوا تاريخ الباشا والجد، فهذه ثوابت تظل راسخة كثيرا، الخير الذي نقدمه أشبه بمصباح مضاء لا تنطفيء شعلته أبدا، وها أناجئت, أقبل أن أعمل معكم وأتمنى أن أضع أموالي معكم تستثمر معكم، ولكم القرار، فقط لي مطلب لديكم، أن أذهب يوما الخامس عشر من يناير والثامن والعشرين من سبتمبر إلى قرية الباشا، أحتفل بميلاده ووفاته.
نهض ( عيسوي) ومد يده إليه أنهضه معه، وضع يده على كتفه، حدثه.
* لك أن تعمل معنا مشرفا على زراعتنا، وأيضا سوف نستثمر أموالكم معنا بما يرضى الله، الباشا كان له الكثير من الفضل علينا وجاء وقت أن نرده، أما عن مغادرتك بالأيام التي حددتها سوف نصحبك بها، الباشا صيته ذائع وكل فعله الطيب مسموع بكل الدولة، وسامح كل من يهدم تاريخا. وللأسف حسبما قرأت بالتاريخ أننا نهوى ونستمتع بهدم تاريخ من غادرونا، ولكن كما قلت هناك ما لا يستطيعون هدمه مهما حاولوا، لأنه مترسخ بالأعماق، بالعطاء والحب.
وأخذا الطريق الى حيث يجلس الأب بعيدا، إقتربا منه، وأخبره ولده كل شيء بإيجاز عن ( رشوان)، لم يقل الرجل إلا كلمات مقتضبة.
* وصية الباشا أمر وتنفذ، ومن الآن أنت معنا، أهلا وسهلا بك.
في غضون أشهر أثبت ( رشوان) أنه يملك من جينات جده ووالده ما يجعله ضليعا بفنون الزراعة التي تزيد من عطاءات المحاصيل، وهذا ما جعله أكثر قربا والتصاقا بعائلته الجديدة، واستطاع التقارب مع أهل ( كفر منصور) حتى شعر وشعروا أنه واحد منهم، دوما ترن بأذنيه كلمة أبيه.
* كن صادقا مع نفسك نقيا تفتح لك كل الطرق وكل الأفئدة، إستقم مع الله تستقم معك الحياة وتفتح لك طريقها الميسرة.