“يونيفرس”… مستقبل يرويه الماضي أم حلم لإنسانية تعيدنا إلى الأصل؟  

شارك مع أصدقائك

Loading

د. نداء عادل

 

 

صفحات تنزف دمًا، هي حياة ميريت، المرأة التي حاربت من أجل استمرارية البشرية، التي عرفت الطريق وسلكته حتى وصلت إلى غايتها على الرغم من كل ما عانته. الإنسانة التي حملت البشرية صخرة على ظهرها، بذرة في رحمها، لتكون هي بشخصها أمنا الطبيعة، التي لابد لها أن تولد من جديد.

الدولتان فلوسينيا/ ميلونيا

هو تمامًا التقسيم لعالمنا دول المركز (ونعني هنا بالطبع المركز الاقتصادي) ودول الأطراف، والصراع الذي صار الكثير منا يراه فيه مسرحية هزلية مكررة الفصول، لا شيء فيها يتبدل سوى أمل الشباب المتلاحق لإنقاذ الحياة، بصورة أو بأخرى ربما على المستوى العربي، ولكن على المستوى العالمي لدينا اليوم صرخة أطلقها الكثيرون من أجل أمنا الأرض.

ينسب كل شيء في يومنا هذا إلى الأخطاء السياسية الفادحة، من يتذكر أول مرة سمع بها عن هذا الخطأ، عن نفسي سمعته عقب أحداث كوسوفو بسنوات حينما أعتذر رئيس الوزراء الهولندي عما حدث معتبرًا إياه خطأ فادحًا، هكذا أعادتني يونيفرس إلى نفسي، وإلى الحلم الأول والأخير لمناطق الأطراف، أو ما يعرف بالعالم الثالث، بأن تكتفي ذاتيًا من خلال الزراعة لغذائها وتربية المواشي، وما يترتب بعد ذلك من اكتفاء يؤدي بالضرورة إلى الخروج من مراحل التصحر الذي نعيشه إلى اليقين بالأخضر، بالبناء الإنساني كما نريد لأبنائنا أن يعيشوا فيه، وليس كما يراد لنا أن نكون من مجتمعات مستهلكة وحسب، لسلع لا حاجة لنا بها أولاً وأخيرًا سوى التبعية العمياء التي أخذنا الغرب إليها.

ما الذي تتحدث عنه رضوى الأسود في يونيفرس، وما أسست له في روايات أخرى رغم اختلاف المعنى والمبنى واللغة؟

القاسم المشترك دومًا لدى رضوى هو النجاة بالحياة… بالأمس كنت ميتًا، خداع واحد ممكن، وصولاً إلى يونيفرس، قد لا يرى القارئ الظاهري للأمر سوى الموت، ولكن في الحقيقة رضوى تؤسس بسردياتها طريق النجاة، لنا جميعًا وليس لفئة بحد ذاتها، هي تخلق العالم وترى دماره وترى نمو البذرة الأخيرة مرّة أخرى تعود إلى الإشراق من جديد من تحت كل أعطاب الكون النفسية والبيئية والاجتماعية.

وعلى الرغم مما في الفكرة من خيالية، إلا أننا بدأنا منذ زمن بعيد نعيش فصولها ونحن بالفعل شاهدين عليها اليوم، الأوبئة التي بدأت بإنفلوانزا الطيور وجنون البقر ووصلت إلى كوفيد ومتحوراته، والأعداد المهولة التي شاهدنا موتها، والأثر الذي تركته تلك الأوبئة على حياة الأرض والطبيعة، وحياتنا نحن البشر. هي هنا تناقش كيفية تعاطينا لها، رضوخنا تارة، ومحاربة القلة القليلة منا لها تارة أخرى، ربما لأننا في دول الأطراف لا نملك أدوات المواجهة، ولكن رضوى تضيء الطريق، نحو التخليق البيئي والزراعة التي تبطئ مفعول الضياع المرسوم لنا.

ترسم رضوى المشاهد المتلاحقة بلغة تشد القارئ أيًا كان انتماؤه أو ثقافته للتعمق أكثر بالحدث، تطعم الواقعي الذي عشناه وكما سبق وقلت كنا شاهدين عليه، ببعض من رؤيتها لما سيكون عليه مستقبلنا إذا استمرت حركة وجودنا تدور في الفلك نفسه.

الفارق لديها هنا هو بلوغ البشرية قمّة الثورة التكنولوجية، والذي بطبيعة الحال لن يقود إلا إلى الهاوية، إلا أنّه من وجهة نظر ميريت انهيار ليس فقط للحضارة كما يراه جينوا، الفيلسوف الفرنسي، وإنما انهيار للجنس البشري كله.

تخبرنا ميريت:

تلك الأوراق التي أكتب فيها ما أكتب، لا أعلم إذا ما كانت ستُصنَّف كمُذكِّرات أم كتقرير لشاهد عيان على مرحلة بشعة من مراحل التاريخ. ولا أعلم إن كانت ستظلُّ في مأمن حتى يعثر عليها مَن يستحقها؛ ليروي للأجيال القادمة ما لقيناه وما حِيكَ ضدنا من مؤامرة شيطانية، منبهًا إياهم إلى تلك المخططات التي قد تكون إرهاصاتها تزامنت مع الحروب الصليبية وفرسانها من النبلاء الذين هبُّوا للتنقيب عن كنوز هيكل سليمان، أم ستقع في أيدي مَن يقتلوننا الآن بدمٍ بارد؟

ص 15

كان العالم لا زال في خِضَمِّ كارثة “يونيڤيرس” الذي عَلِقَ في شباكه الكثيرون، حين واجههُ بلاءٌ من نوعٍ آخر، نوع أكثر فاعليَّة، وأسرع نتيجة. حين أحاول تحليله، أجد أننا لم نكَدْ نستفيق من أمرٍ حتى نواجه الآخر، لا، لم تَكُن الأمور متراتبة، بل متزامنة، دوائر متداخلة يصعُب فصلها كما يصعب الفِكَاك منها، فإن نجوتَ من واحدة، فستعلق في الثانية، لتصبح في النهاية، هالكًا لا محالة.

ص 19

التلوُّث يُعبِّئ كل الأمكنة، الهواء، الطعام، والشراب. نحن أيضًا لم نعُد بشريين مائةً بالمائة، لم نَعُد نسل آدم، بل نسل المعامل والدواء والتلاقيح والطعام المُعدَّل وراثيًّا، أبناء التكنولوجيا والآلات والسوشيال ميديا، هذا بالإضافة إلى الذين أصبحوا فعليًّا نصف آلات ونصف بشريين من بعد “يونيڤيرس“!

ص 20

في تلك الأيام التي لم تبتعد عنَّا كثيرًا، تنبَّأ أحدهم بأنه في خلال سنوات قليلة، وربما شهور عدة، لن تصبح عبادة الشيطان سرًا أو مَسبَّة، ستضحَى ديانة عالمية، ولن تقتصر على مجتمعات بعينها سابقة في التطور والتكنولوجيا والتحرُّر الفكريّ، وأنه ستتناسل من كنيسة الشيطان كنائس لا حصر لها، وسيصبح هناك ملايين النُّسَخ من أنطون سزاندور لافي، وسيتحول العالم كله إلى عبيد ل “لوسيفر”، لن يصبح هناك مريدون لأي ديانة، لا توحيدية ولا وثنية، ديانة واحدة فقط هي ما ستتسيَّد المشهد العام لديَّانٍ واحد: الشيطان! وقتها لن يُنظر إليه كشخصية أسطورية، أو كرمزٍ للتمرُّد على النظام والقيَم، أو لتجسيده لقوانين الأرض والطبيعة البشرية التي تتراوح صعودًا وهبوطًا فوق سُلَّم الأخلاق حتى تدنو في انحدارها لمرتبة أقل من ذوات الأربع، بل سيتبدل الاعتقاد باتجاه ألوهيَّته بعد أن كان مجرد رمزٍ مُبجَّل، سيسود إيمانًا راسخًا بأن إبليس هو مَن يحكم العالم، هو من يُسيِره.

ص 23

كعادتها رضوى الأسود، تلعب على وتر التداخل الزمني، بين فريد وحاتم، قاسم مشترك هو ميريت نفسها، وكل ما هو دونها لا يتشابهان فيه. لكنهما كانا العنصرين الأساسيين في رحلتها نحو تحقيق الاشتراكية البيئية، والاعتماد على الحياة البدائية بمفهومنا اليوم من زراعة وحصاد لتكون وحدها وسيلة النجاة.

عشنا معافين رغم تأخُّر الطب وانعدام التكنولوجيا، أما أنتم، وفي خِضمِّ معايشتكم لقمَّة الثورة الصناعية والذكاء الاصطناعي الفائق، إلا أنكم سُقَماء. نعم، كانت حياتنا مرهِقة، لا جدال في ذلك، كانت كلها مُكابَدة ظروف لم تَكُن بالهينة، لكن، أوتعلمين؟! كان القدَر يكافئنا، أو بالأحرى كنا نكافئ أنفسنا بأشياء على بساطتها كانت الأروع تأثيرًا في نفوسنا القانعة؛ بإشعال النار في الأغصان الجافة ل أكواز الذُّرَة في الحقل، بصنع كوب من الشاي المُطَعَّمِ بأعواد النَّعْناع الطازَجة، نجلس وقت الظهيرة نرتشفه بمزاجٍ وبالٍ رائقين في فراندة المنزل المُطلَّة على مدخل تنتصب على جانبيه الأشجار المثمرة. باب المنزل لم يَكُن يُغلَق سوى عند النوم، كانت مواعيد الوجبات مقدسة، وجلسات المساء تضمُّ جميع أفراد الأسرة التي تعيش بأجيالها الثلاثة في نفس البيت. الجميع يضحك من القلب، والهموم تُوَزَع بالتساوي على الجميع، فتخِفُّ الأحمال ويَخفُتُ الألم، كان الدفء يقهر الصقيع، والحب يدحر المشكلات. لكن ماذا عنكم أنتم؟ حياة سَهَّلَتها الماكينات من جهة، وصَعَّبَت التواصُل من جهةٍ أخرى، رغم سهولته النظرية عبر تطبيقات عدة. أين الأسرة، والأصدقاء، والحميمية؟! إن الجار لا يعرف جاره! أنتم أشباه بشر، تعيشون ما يشبه الحياة. كل شيء افتراضي، وَهْمٌ يحاكي الحقيقة، لكن مهما بلغت صنعته من دقة، فسيظل محضَ وَهْم، ولن يرتقي أبدًا لحقيقة! سيظل مسخًا يُلقي بظلاله على أرواحكم حتى تُعتِم. حبيبتي، أنتم تعيشون في عالم أشبه ما يكون بجسد بلا روح، والروح يا صغيرتي هي جوهر كل شيء. ص 31/32

بالتأكيد كان هناك مَن يشبهها، ستتعرَّف إليهم في وقتٍ لاحق، حين تقرر عدم السكوت بإعلان خوض حربها السلمية. مَنْ تبحث عنه يبحث عنك، المتشابهون يبحثون عن بعضهم البعض، يتشبثُّون بكتلتهم، كحائطِ صد أخير ضد كل ما اُحيك!

ص 34

تجيد رضوى إعادتنا إلى إنسانيتنا الأولى، إلى عالم المحبة الذي لم نعد نرى منه الكثير في علاقاتنا، القريبة كانت أو البعيدة، وهو ما تخلقه في حياتها مع فريد ومن بعده مع الحلم الذي ضاع منها وعاد إليها حاتم، الذي تدفنه في البقعة الخضراء الوحيدة من المدينة (حديقة منزلها).

الهروب من الواقع القاسي بالرومانسية ليس مجرد وهم تتسلح به النساء، بل هو حقيقة فطرن عليها وهي سبيلهن إلى النجاة دومًا وهو ما تواصل رضوى الأسود ترسيخه في كل مرة، المرأة هي الرحم هي الميلاد وهي الحقيقة، تمامًا كما الأرض التي إن زرعتها ستخرج لك الخير، وإن أهملتها وأهدرتها تصحرت ومنعت عنك الحياة.

الشيطنة التي توجهنا نحوها الرأسمالية العالمية، أراها في ختام الرواية تتجسد واضحة لتخبرنا أن المعركة لا تنتهي إن ربحنا بجولة، ولكن باستمرار الوعي والعمل، ستكون هناك نجاة، سيكون هناك انتصار حتمي

  • لا تنسَ أننا في النهاية أصدقاء، بل أقارب ننتمي إلى عائلة واحدة، أما الجماهير فلا تمُتُّ لنا بِصِلَةٍ. الجماهير مادة لِلَّهوِ، دُمًى خُلِقَت لِلَّعِبِ بها، حقل لكل تجاربنا، قرابين للشيطان نسفح دماءَها كل يوم على مذبحه. بذِمَّتِكَ، ألم نضحك مليًّا حين كنا نراهم يُساقون كقطيعٍ إلى الهاوية وهم في خضوعٍ تام؟! إن مَن لا يملك عقلًا، لا يستحق ذرَّةً من شفقة.
  • ماذا لديك؟
  • بل الشيطان لديه الكثير، فلا تحاول العبَثَ معه مرةً أخرى. سأترك لك تلك الجولة بكامل إرادتي، ولن أعجز عن قلبِ كل ما حدث لصالحنا، ستغدو الهزيمة نصرًا محققًا، واعلم جيدًا أن مَن يديرون العالم، لا يُخفِقون، ومن الأفضل لك أن تكون واحدًا منهم، مَلِكًا يحكُمُ مجتمعاتٍ من العبيدِ.
  • قطعًا سنصل لحلٍ وَسَط.
  • من الأفضل لك. لطالما عَهِدْتُ فيك رجل عاقلًا.

هذه الخاتمة المفتوحة تخبرنا الكثير عن تصور رضوى للحدث الذي يعيشه كوكبنا منذ الأمس وإلى غد لا نعرف كم هو قريب منا، ولكنه سرد لا يخلو من يقين حينما تقول على لسان أحد الناجين الذي وثق مذكرات ميريت:

قد يكونُ ما يحدثُ على الساحة السياسيَّة، هي كلمة اللَّه التي سَتُحدِثُ زلزالًا يحطم مملكة الشر. يا اللَّه كَمْ نتمنى ذلك، كَمْ نتوق ألا تخذلنا، ألا تتركنا فريسةً سهلةً لهم. لقد قاومنا الشرَّ بكُلِّ ما نملك، وبكل ما أوتينا من قوة، فقل كلمتك وأَرْسِ دعائم عدلك ورحمتك.

شارك مع أصدقائك