فاطمة المحسن
استطاعت وسائل الاتصال الحديثة ردم الكثير من مساحات التباعد بين العرب، لأنها فضاء مفتوح ومتداخل بين الصداقات الشخصية والقرابات الفكرية، وما يعزز الاعتقاد بأهمية تلك الوسائل ليس في معرفة الآخر المختلف، بل معرفة المشكلات التي تبدو هامشية، ولكنها تشكّل روافد على درجة من الأهمية في تنظيم أنساق وتصورات المسارات الأدبية والفكرية. لعل تلك المدونات تمثّل وجه الثقافة الآخر أو ما يسمى بالمهمل والمتجاهل والمُسقط من ذاكرتها. فهي تدعونا إلى مراقبة المسارات التي تحدد طرق الإعراب عن الذات الوطنية، او الهوية التي يمايز فيها العربي مكانة بلده داخل المنظومة الأكبر التي ينتمي إليها، فكل بلد من البلدان العربية يرى في نفسه الجدارة كي يتصدر المسيرة التاريخية للعرب . فالعراقيون يرون في تاريخ بلاد الرافدين ما يؤهلهم لهذا الموقع، وهناك الكثير من المؤلفات التي تربط حضارة السومريين والبابليين والآكدين والأشورين بما هو عليه حاضر العراق، في حين تثبت الدراسات ان القبائل العربية التي استولت على سهوله وأنهاره بالغزو والارتحال، تعود معظم أصولها إلى الصحراء العربية الممتدة، أما الحضارة العباسية التي ازدهرت في هذا الوادي، فهي عربية المنبع ولكنها أصبحت شبه منقرضة بسبب الفيضانات والأوبئة وغزو القبائل القادمة شمالا من كرد وترك وفرس.
ولا تنفرد مصر في مبحث التخاصم حول قيادة العالم العربي، فبعض اللبنانيين على الصعيد الثقافي يحملون الأفكار ذاتها عن أنفسهم، وتجد مجموعة منهم أن بُعد الثقافة اللبنانية يمتد إلى الحضارة الفينيقية، ويصلها بفرنسا حاضرة أوروبا وأكثر بلدانها ترفاً ثقافياً. الإشكالية السياسية للبنان تمنعه من التفكير بشيء أبعد من الثقافة، في حين يتخيل المصريون أنفسهم أصحاب الحضارة الفرعونية التي بنت الاهرامات وفق أنظمة رياضية لم تُفك طلاسمها إلى اليوم. أما المغاربة ، فجدارتهم تتحدد بثراء مصدرين من مصادر ثقافتهم: الفرنسية التي لم يمض عهد على تركهم لها، وامتزاجها بالتراث الإسلامي والفلسفة العربية.
على هذا بمقدورنا أن نرى في كتاب عبدالله كنون “النبوغ المغربي في الأدب العربي” ما نقرأ من خلاله بعض تواضع قياساً على ما يطرحه محمد عابد الجابري من أفكار تستخدم التاريخ ذريعة للاستدلال على الثبات في اختلاف طبائع البحث بين المشرق الكلامي والمغرب البرهاني.
المهم أن تلك الأفكار بمجموعها تشكّل في النهاية قضية على درجة من الأهمية تم تجاهلها في الدرس الفكري العربي، حيث كان الحديث حول الهوية الاقليمية ينطلق من خطاب التوحيد، فثقافة كل بلد عربي تسعى إلى استقطاب يجعل ممكنات تصدّرها المشهد الثقافي العربي حقيقة معترفاً بها، وهي التي تخلق ما يمكن تسميته التنافس المثمر الذي يحصد نتائجه الإيجابية المثقفون أنفسهم في كل البلدان العربية. غير أن التوصل إلى معادلة على هذه الدرجة من الحساسية الإنسانية تحتاج مناخات من الصعب إيجادها في الحالة الراهنة .
لم يتعود المثقف عملياً على القرابات الجمالية التي تؤكدها التجمعات والروابط بينه وبين فنانين أو أدباء خارج بلده، في حين يبقى التواصل بين آداب وفنون البلدان العربية بديهة تقررها لغتهم الواحدة وتبادل التأثير والتأثر. ولعل فكرة الاعتراف بالدور الريادي تنبع من الإحساس الفرداني الذي تشغله مهمة من هو القائد والرائد في هذه الأمة الضالة، وإلا كيف تنشغل مصر مثلاً، بسؤال عن دورها ومكانتها الثقافية بين العرب.؟ دور مصر الثقافي حقيقة لا يطالها الشك، ومن باب قلة الثقة بالنفس أن تتجاهل الثقافة المصرية تاريخها الرائد في خضم مناقشات تشكّل دفاعاً غير شرعي عن النفس أو هي في أحسن الأحوال نتاج الإحساس بنقص لا يليق بها. غير أن من المجدي أن نفصل بين محورين في القضية لا يخصان مصر وحدها، بل الحالة الثقافية العربية ككل: الأول الإحساس بتمايز الهوية، والثاني المنافسة حول طبيعة الدور الثقافي، وهما مترابطان من حيث الجوهر. فالإحساس بالتمايز ينشأ عن المنجز أو الدور القيادي الذي يظن شعب من الشعوب أو زعماؤه أو مثقفوه أنهم حققوه بكفاءة وتفوق، وينشأ أيضاً ضمن محاولة تفسير موقع الذات الوطنية ضمن محيطها القريب أو البعيد على ضوء ذلك التميز. وفي مصر كما في لبنان والعراق والمغرب، وبدرجة أقل في سورية، نما الإحساس بتفوق الذات الثقافية مرتبطاً بمزج منجز الحاضر بالماضي، ويبدو ظاهرياً ضرباً من المغايرة لفكرة الثقافة العربية الموحدة، غير أنه إنْ شئنا الدقة، محاولة لاستنساخ الغاية ذاتها بمفردات جديدة. ولا يمكن احتساب ظهور نزعة التفرّد أو التفوق وعياً مضللاً أو منحرفاً عن فكرة التوحيد، لعلها مجرد سيرورة كيفية للهدف ذاته. ذلك لأن رسوخ عامل الوحدة رهن بالإحساس بالقوة، والقوة تتولد من التمايز، والثقة بالتمايز تنشأ من الإحساس بالنصر ضمن مرحلة معينة سواء كان ذلك الظفر مكانة أدبية أو موقعاً سياسياً. ينمو هذا الإحساس وفق نوازع تقتضيها الضرورة وبينها النازع السياسي والتطلع الإبداعي أو الحاجة الفنية للتفرد. بيد أن الإحساس بالأهمية أو الدونية لم يبرز على هذه الدرجة من الوضوح، إلا تحت وطأة الشعور بثقل المنجز الحضاري الغربي الذي قيض للعرب مواجهته منذ حملة نابليون على مصر 1789.
يمكننا إدراك بداية التأثر بالثقافة الغربية على نحو واضح منتصف القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، حيث بدا السؤال المُلح حول الهوية يظهر بوضوح، وكان شديد الارتباط بالفكر السياسي الذي تصاعدت فيه نبرة تأليه العقل والعلم حين حاول العرب تمثّلها متأخرين عن الفكر العالمي، وكانت الأفكار الشمولية تدق أبواب من خرجوا من الكهف على حد تورية توفيق الحكيم. الاختبار الأول عند العرب على المستوى الأدبي والفكري كان يهجس بهوية الأمة – الدولة – التي نشأت تحت ظل فكرة الزعماء أو القادة التاريخيين.
ولكن الوعي العربي الذي لم يغادر طوباوية الحركة الرومانسية، ربط بين فكرة العقلانية ونقيضها في بحثه عن هوية تميزه. ولعل من المستحيل فصم عرى الموروث اللاعقلاني عن مشروع التنوير في عالمنا العربي، وصولاً الى مرحلة طه حسين الذي كانت شخصيته الثقافية تعبّر عن ذلك الصراع الطاحن بين سلطة العقل والخرافة، والصراع الواضح في أفكار أبرز مثقفي العرب في الثلاثينات، طه حسين، كان يخلو من ديناميكية التوليف بين حديّ رؤيتيه العقلية والروحية، والأخيرة بقيت مشدودة إلى الماضي كتصوّر ونمط مبسّط من الطوباوية. وكانت محاولته تعريف الثقافة المصرية تحوي هذين الحدين في كتابه المثير للجدل “مستقبل الثقافة في مصر”. وما بين موعد إصداره في 1938 وكتاب جمال حمدان شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان 1980 يمكننا تتبع تلك الاختبارات الروحية التي مرت بها الصفوة الثقافية العربية في مصر كي تصف نفسها أو تحدد ذاتها الثقافية، وهي مرآة تعكس صورة النخب الثقافية العربية الأخرى. سنستعين بالمثل المصري لأنه قريب المنال، ولأن طروحاته على درجة من الوضوح ومدونة في اجتهادات فكرية واضحة، أي أنها ليست مجرد نثار أحاديث وآراء يمكن أن ترد على نحو عابر في مباحث متفرقة، كما عند العرب الآخرين.
في تعريف الثقافة ونوعها وتشخيص سماتها الوطنية، ينطلق طه حسين من موقع المواجهة مع الأوروبي حين يقول في تمهيده: “نعم وأريد كما يريد كل مثقف مصري، محب لوطنه، حريص على كرامته، ألاّ نلقى الأوروبي فنشعر بيننا وبينه من الفروق ما يبيح له الاستعلاء علينا والاستخفاف بنا، وما يضطرنا إلى أن نزدري أنفسنا” على هذا الاعتبار يطرح مجموعة من الأفكار على هيئة أسئلة: “هل العقل المصري شرقي التصور والإدراك والفهم والحكم على الأشياء، أم هو غربي التصور والفهم والحُكم على الأشياء؟”، ويجيب على السؤال: “إنما المهم أن نمضي في هذه الملاحظة التاريخية حتى يثبت لنا في وضوح وجلاء أن من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءاً من الشرق، واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية كعقلية الهند والصين”. ولكن لمن تنتسب مصر أولاً؟ يجيب كالتالي: “كان العقل المصري إذاً إلى أيام الإسكندر مؤثراً في العقل اليوناني ومتأثراً به، مشاركاً له في خصاله إنْ لم يشاركه في خصاله كلها”، ولتأكيد مبحثه يقول: “انما كانت مصر دائماً جزءاً من أوروبا في كل ما يتصل بالحياة العقلية والثقافية، على اختلاف فروعها وألوانها”.
ربما يشخص هذا الكتاب بين المباحث الضعيفة في فكر طه حسين، بيد أنه يشير إلى اعتقاد ومزاج سادا في مصر أيام الثورة الأولى، وأفكار سعد زغلول وبين أشهرها قولة له عن العرب : “إذا جمعت صفراً الى صفر، فصفر، ماذا تكون النتيجة؟” ولعل الزعيم المصري ابن زمانه حيث كانت أفكار جمال أتاتورك التحديثية تدق أبواب الدول الشرقية الناشئة.
أعاد عهد الناصرية ترتيب أولويات ذلك الاتجاه بما يناسب مقولة الوحدة، وحدة الثقافة العربية، مع الاحتفاظ بجوهر المحاجة التي تبناها طه حسين وهي فكرة القيادة والريادة، في إعادة اعتبار لشعور التفوق الذي هو الشرط المركزي ضمن محيط متخلّف. فكان كتاب “شخصية مصر – دراسة في عبقرية المكان” 1980 لجمال حمدان، ينطلق من دروس الجغرافية التي رأى فيها طه حسين أهم مشخصات مصر.
يرى جمال حمدان ملامح شخصية مصر من خلال عبقرية المكان، وهو يستخدم الإبدال في حالتين، فمصر وهي بلد، يتأنسن عند بحثنا عن ملامح شخصية له، أما العبقرية فهي تتشيء لأن ميدانها إنساني ولكن صيرورتها الجديدة تكسبها المزيد من التماسك باعتبارها حقيقة لا تقبل الدحض: “ان درجة التفرّد ومدى التمايز وحدّة التباين هي التي تختلف. وهنا تأتي مصر بكل سهولة على القمة. قمة التفرّد، وتلك هي حقيقة عبقريتها الإقليمية”. ويضع حمدان مجموعة من الصفات التي تشكّل مسببات ذلك التفرد: “فمنذ فجر التاريخ، وقبل أي بلد آخر بقرون على الأقل، بزغت مصر كشعب واحد تجمعه وطنية واحدة في وطن واحد على شكل دولة أحادية: تلك أقدم أمة في أول دولة في التاريخ، الأمة – الدولة والنموذج جيوبوليتيكياً، قُلّ أمّ الأمم، وإن كانت أبعد شيء عن أمة الأمم، بل انها لم تكن الأولى إلا لأنها لم تكن الثانية”. وواحدة من سمات مصر التي يلحظها حمدان ، هي انها محكوم عليها بالعروبة وبالزعامة وان ترتفع الى مستوى “أنْ تعطي العرب قيادة عبقرية جديرة”.
ومع أن جمال حمدان من زهاّد الحياة والسياسة كما تؤكد سيرته، وهو من مثقفي مصر الكبار الذين تميزوا بعزوفهم عن التملق إلى السلطة، ومن بين الذين نظروا بغضب إلى أخطاء التجربة الناصرية، بيد أن كل تلك الاعتبارات لا تنفي توقه الأبعد نحو تمثّل حلم طه حسين وصحبه، فهو مثله يسأل نفسه عن هوية بلده ويجيب عن السؤال: “مصر أفريقيا بأرضها ومائها، إلا أنها قوقازية أوروبية بجنسها ودمائها، والمصريون بهذا المعنى أنصاف أو أشباه أوروبيين”.
ولكن كيف بمقدور هذا العرق الذي لا يود الانتساب الى محيطه أن يقود الأمة العربية؟ يضع حمدان شرطاً أساسياً لتحقق تلك العبقرية وللبرهان على التفوق الحتمي، وهو أن تستطيع مصر استعادة فلسطين بحرب تنتصر فيها على إسرائيل، لعله يقترب من مبحث يلون عِلْم الجغرافيا بطابعه السياسي الأكثر خصوصية، وبمقدورنا أن نجد في كل القيادات المحلية العربية التي ظنت بنفسها الحاجة إلى توحيد العرب تحت زعامتها، تطلعا نحو هذا الهدف، حيث يظهر في أدبيات كتّابها.
يشير هذا الكتاب إلى ثقافة جمال حمدان العميقة المتمكنة من المدرسة المثالية في علم الاجتماع في تماسها مع حتميات الجغرافيا السياسية التي مهدت الطريق الى عصر الاستعمار. غير أن علينا أن لا نسرع وننسب إليه سمة التعصب أو الشوفينية، ففي منطويات مقدمته الكثير من الدروس التي تتوجه بالنقد إلى تخيلات الثقافة الشعبوية بصدد الشعور بالتفوق. ولكنه أسير فكر ما يمكن أن نسميه رد الاعتبار للكرامة الوطنية التي ظن أن عهداً مثل عهد السادات، أساء إليها أو انتقص منها بفكرة السلام بدل الحرب، ويبقى لهذا الحديث الكثير من المداخل التي تستحق النقاش من دون خوف أو عصبيات قبلية.