سعدي يوسف و ريتسوس .. الترجمة والتشابه الشعري

شارك مع أصدقائك

Loading

ريسان الخزعلي
( 1 )
إيماءات ، منتخبات شعرية من مجاميع عدّة للشاعر / يانيس ريتسوس / قام بترجمتها الشاعر / سعدي يوسف / عام 1978 . وقد جاء في التقديم ( لماذا ترجمت ُ يانيس ريتسوس ؟ ) : كنت ُ أرصده ُ من بعيد ، وأترصّد القصائد التي تُنشر له ُ باللغة العربية .. إن َّ قصيدة ريتسوس – قصيدة الظاهرة اليومية . لقد أحسست ُ ، دائما ً ، وأنا أقرأ شعر ريتسوس ، أن َّ وراء قصيدته جهدا ً عظيما ً ، وروحا ً مصفّاة ، صافية ، أوصلت قصيدة الحياة اليومية ، لديه ، إلى هذه القطعة الغريبة من البلّور ….، وقد ترجمت ُ القصائد عن اللغة الانجليزية في جو من اللهفة ، والقرب .. بحيث خيّل َ إلي َّ أنني أقترب – أحيانا ً – من لحظات كتابة ريتسوس لقصيدته !
إن ًّ إشارات ِ سعدي يوسف : قصيدة الظاهرة اليومية ، والحياة اليومية ، والإقتراب من لحظات كتابة ريتسوس لقصيدته جديرة بالإنتباه ، إذ أن َّ لريتسوس تأثيرا ً واضحا ً في تجربة سعدي يوسف الشعرية الواسعة ، وبخاصة القصيدة اليومية التي اتضحت في شعره كثيرا ً في أعماله الشعرية الأولى وتوسّعت في معظم أعماله التي صدرت ( هناك ) بعد أن غادر العراق .
إن َّ ريتسوس شاعر عظيم كما جاء في توصيفات شعراء كبار ، إذ قالوا عنه :
– إنّه ُ أعظم شاعر حي .. هذا الأغريقي ريتسوس .. ( أراغون ) .
– لا أرضى أن تُقارن أشعاري إلا بأشعار ريتسوس .. ( نيرودا ) .
– إننا نتنحّى جانبا ً ، كي تمر َّ أنت َ .. أيها الشاعر! .. ( بالماس )
وسعدي يوسف هو الآخر شاعر كبير ، وتليق يه التوصيفات المشابهه أيضا ً .
( 2 )
من قصائد ( إيماءات ) قصيدة بعنوان ( الرجل الثالث ) ولسعدي يوسف قصيدتان ، الأولى بعنوان ( الشخص الثاني ) منشورة في مجموعته ( بعيدا ً عن السماء الأولى ) ..، والثانية بعنوان ( الشخص السادس ) منشورة في مجموعته ( الساعة الأخيرة ) ضمن الأعمال الشعرية الكاملة – مطبعة الأديب البغدادية 1978 .
قصيدة ريتسوس ، وقصيدتا سعدي ، تشترك ب : تشابه العنونة ، تشابه المكان ، الإسلوب السردي ، المناخ الشعري العام ، السياق النصّي ، الإنشغال الفني بقصيدة الحياة اليومية .
يقول ريتسوس في قصيدة ( الرجل الثالث ) .. : وقف َ ثلاثتهم أمام النافذة ، ينظرون َ إلى البحر . الأوّل تحدّث عن البحر . الثاني أنصت . الثالث لم يتحدّث ، ولم ينصت ، بل كان عميقا ً في البحرِ ، طفا خلف َ زجاج ِ النافذة ، كانت حركاته ُ بطيئة ، صافية ، في الزرقة ِ الخفيفة الشاحبة . كان يستكشف ُ سفينة ً غارقة . قُرع َ الجرس الميّت لساعة ِ السفينة ، فارتفعت فقاعات دقيقة ، تنفجر بصوت ٍ ناعم – فجأة ً ، سأل َ الأوّل : هل غَرق ؟ أجاب َ الثاني : غَرق . الثالث نظر َ إليهما ، عاجزا ً من قاع ِ البحرِ ، كما ينظرُ المرء ُ إلى الغرقى .
ويقول سعدي في قصيدة ( الشخص السادس ) ..: خمسة ُ أشخاص ٍ في الغرفة ِ كانوا يحتكمون َ إلى شخص ٍ سادس . بدء َ الشخص ً الأوّل ُ لعبتَه ُ فتسلّق َ بالحبل ِ إلى كرسي في السقف . والثاني أخّر كلبا ً أسود َ من جهة ِ الصدر ِ اليسرى . والثالث ُ أخرج َ ” تأريخ َ البشرية ِ ” من مكتبة ِ الغرفه ْ وتحامل َ فوق َ السلّم ِ حتى أوصل َ ” تأريخ َ البشرية ِ ” فوق َ الرف . أما الرابع فاستلَّ عصا مغمدة ً وتناول َ ” تأريخ َ البشرية ِ ” يجلده ُ ألفا . لكن َّ الخامس َ إذ جاءت نوبته ُ استخفى . ضحك َ الشخص ُ السادس ُ . ترك َ الغرفة . أغلق َ باب َ الغرفة ِ بالمفتاح . ثم َّ مشى في طرقات الناس .
كما يقول في قصيدة ( الشخص الثاني ) .. : في المطعم ِ الشتوي ، أصغيت ُ إلى سعلته ُ الأولى ، راقبته ُ يمسح ُ بالمنديل ِ كفّيه ويكتم ُ الضحكة َ في إغماض ِ عينيه . راقبته ُ يلحظني للمرّة ِ الأولى يسخر ُ منّي دون َ أن يسمعني حرفا ، أو يوقظ َ الصمت َ الذي أغفى …. ، كان َ زجاج ُ المطعم ِ الشتوي ِّ مبلولا وفجأة ً غادره ُ بالمعطف ِ الباهت ِ ملتفّا ……….. .
قصيدة ريتسوس مشهدها النافذة ، والشاعر يرصد حركة الأشخاص الثلاثة ، وقد غرق َ الشخص الثالث ، أي غادر المشهد في النهاية . أما قصيدة سعدي ( الشخص السادس ) فقد كان مشهدها الغرفة ، والشاعر يرصد حركة الأشخاص الستة ، وقد غادر الشخص السادس الغرفة ومشى في طرقات الناس ، أي غادر المشهد في النهاية كما غادر الشخص الثالث في قصيدة ريتسوس . كما أن َّ قصيدة سعدي ( الشخص الثاني ) مشهدها المطعم ، والشاعر يرصد الشخص الثاني الذي غادر المكان في نهاية المشهد ، كما غادر الشخص الثالث في قصيدة ريتسوس أيضا ً .
وفي المفتتح الأخير ، هل لقول سعدي ( الاقتراب من لحظات كتابة ريتسوس لقصائده ) عند الترجمة ، كل هذا الأثر في التشابه ؟ أم أن َّ الإنصات لتجربة شاعر كبير كريتسوس يفعل فعله ُ السرّي في تراكمات العقل الشعري ؟ ..، إن َّ الإجابة تنفتح على كثير من التأويلين الخاص والعام الذين يستوجبان ادراك مدى أهمية شاعرين كبيرين لكل ٍ منهما تجربة شعرية عالية التردد . وقد يحصل التشابه …
*-عن ( جريدة الصباح  .. )
شارك مع أصدقائك