د. نداء عادل
شهد ربع القرن الماضي إحياء للمحادثة الكلاسيكية متعددة التخصصات حول “الطبيعة البشرية”، التي أصبحت نائمة في الربع الثالث من القرن العشرين مع صعود دولة الرفاه الاجتماعي، إلا أنَّه صار من الصعب الآن تصديق ثقة علماء الأنثروبولوجيا مثل آشلي مونتاجو (1945) ومارفن هاريس (1968)، الذين مهما اختلفا – كان تشكيك مونتاجو الوراثي عقلانيًا ومثاليًا للغاية في حين كان هاريس أكثر وضوحًا إيكولوجيًا – إلا أنّهما في شأن النهج المادي كانا متحدين في دعم “التنشئة” على “الطبيعة”.
وكان الاهتمام المتزايد بعلم الأعصاب الإدراكي، وعلم الوراثة السلوكية، وعلم النفس التطوري، وبالطبع، علم الاجتماع الاجتماعي منذ عام 1975، قد صدمهما كانحدار بربري، والذي بالغ بشكل محدد في التشابه بين سبنسر وداروين، بينما كانا يميلان إلى رفض فكرة الطبيعة البشرية كظاهرة خادعة في البحث عن تفسير مستحيل – ربما حتى الرجعية للعالم ما قبل العلمي.
وبقايا من حساسية التنوير هذه تنعكس في التعويذ الودي القائل إنَّ هذا العنصر (الجنس) هو “أسطورة” أو “خرافة” – على الرغم من أنَّ الهتاف الأخير لا يتناسب تمامًا مع التركيز المتزايد اليوم على “العرق” و”التنوع الجيني” كعلامات للهوية الاجتماعية.
ولعل أكثر نموذجية في عصرنا هو ملاحظة عالم النفس التنموي والمتطرف النفسي ستيفن بينكر، الذي قال: “لا تشكل الإجراءات الأخلاقية والقانونية السبيل الوحيد للحد من التمييز في مواجهة الاختلافات المحتملة بين المجموعات، وتأثير الفرد على مستوى العرق أو متوسط الجنس في أي قرار إحصائي يتعلق بذلك الشخص. إن أفضل علاج للتمييز، إذن، هو اختبار أكثر دقة وأكثر شمولاً للقدرات العقلية، لأنه سيوفر الكثير من المعلومات التنبؤية عن فرد لا يميل أحد إلى إغرائه في العرق أو الجنس”.
وتدل روح العصر في القرن الواحد والعشرين على أنَّ العنصرية والتمييز على أساس النوع الاجتماعي يعتبران إشكاليين ليس لأنهما تميّزان ولكن لأنهما لا يميزان بشكل كافٍ. وبالتالي، يحتاج المرء إلى مؤشرات أكثر حميمية من شأنها أن تحل في نهاية المطاف محل أحكام التشريح السطحي مع قراءات الجينوم المعين. ولا تختفي بذلك بيولوجيا السياسة الاجتماعية، بل إنها ببساطة تكثف.
وبطبيعة الحال، فإن التمييز أمر أساسي لتخصيص الموارد المرتبطة بالعدالة التوزيعية. وفي هذا السياق، تُخصص الاعتمادات للتعويض عن أوجه القصور التي ينظر إليها على أنها نتاج مظالم الماضي، من أجل تحقيق إحساس تقريبي بأنواع “المساواة” ذات الصلة بين الأفراد في المجتمع.
ولفتور بين أتباع داروين المشبعون بروح العلم الاجتماعي الارتدادي، الذين يتعافون بشكل عام من فكرة أن قدرتنا على التغيير مقيدة وراثياً، صار التعامل مع أمر لا مفر منه أقل إثارة للقلق بكثير من الطعن في المتاح. فمن غير المرجح أن تكون العلوم الاجتماعية قد قصدت – ناهيك عن النجاح في – سد “مشكلة الثقافات” بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية؛ وعلى الأرجح أنهم اختلقوا ذلك. ومن المؤكد أن العلوم الاجتماعية كانت متبادلة مع العلوم الإنسانية من خلال تجسيد الصفات التي تكرهها كل ثقافة في الآخر، ربما بتذكير بعضنا بحالة الإنسان. وهكذا ، بعد مواجهة العلوم الاجتماعية، يصبح علماء الطبيعة أكثر صخبًا في ازدرائهم للعقل الإنساني (“السياق”) ، في حين أن الإنسانيين تحمسوا لعلماء علماء الطبيعة (“الاختزالية”)، وفي كلتا الحالتين، كانت الأهداف القريبة عادة علماء اجتماع.
وإذا رغب المرء في تتبع تاريخ القرن العشرين من الوفاق الودي بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، لم يستثني بلباقة العلوم الاجتماعية، فهي واحدة يمكن أن تبدأ مع الكتب العظمى و”كلاسيكيات الحضارة الغربية”، أما المناهج فلم تظهر في الجامعات الأميركية إلا بعد الحرب العالمية الأولى، مناشدة بدعم المجتمع العلمي الألماني الصريح للحرب، بالإضافة إلى نجاح الثورة الروسية المستوحاة من ماركس، ولينين.
وحتى شبح “العلوم الاجتماعية” المختلطة بأسوأ عناصر العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، تمكنت من إنتاج آلة الحرب القمعية أيديولوجيًا. وفي الوقت نفسه قدم رئيس جامعة شيكاغو روبرت مينارد هاتشينز مناعة ضد هذا الاحتمال، فهو يعتقد أنَّ كل المعرفة يمكن أن تكون موحدة تحت عالم عرض الأرسطيين الجدد لتتعزز أتباع داروين – ولكن ليس ماركس، أو فيبر أو دوركهايم.
وفي هذا السياق، يتم تصوير علماء الاجتماع، في أفق ضيق جدًا أو عقائدي أو غير كفء أو غير مفهوم للدخول في البحث والحوار المهذب – على الرغم من أنهم من حين لآخر تمكنوا من التوصل إلى بعض البيانات المثيرة للاهتمام، لم تطلب تفسيرًا “أعمق” مما يستطيعون تقديمه عن النمط.
إذن، ليس من المستغرب أنَّ مروجي العلوم الجديدة من الطبيعة البشرية، كما توليفها في نتائج أبحاث، عرضت الجهل المدروس عن العلوم الاجتماعية. فعندما يحاولون التوصل إلى تفاهم مع تفسيرية العلوم الاجتماعية، فإنهم يعودون بسرعة إلى وجهات نظر فلسفية -: مثل هوبز أو روسو – التي سبقت الظهور الفعلي للعلوم الاجتماعية، وبالتالي لا تتركز في المؤسسات الاجتماعية والمنظمات التي تميز العالم الحديث. وعوضًا عن ذلك، يتم تعميمها كأطروحة، ولكن عفا عليها الزمن تجريبيًا في المواقف الفلسفية كنهج “لائحة بيضاء” إلى حالة الإنسان، ثم إنَّ كل الذي قدم أساسًا ما يسمى نموذج العلوم الاجتماعية القياسي (SSSM) لم يكن من شأنه أن يفسر مجموعة كاملة من السلوك البشري من حيث التعلم والسياق.
وللتأكد، غالباً ما كانت التجارب المريرة خاطئة، إذ أنَّ الإنسانية في “حالة الطبيعة” أو الجينوم البشري، مثلها مثل مخطط النجوم للمنجم، إلا أنَّه في مناظرات الطبيعة البشرية، يمكن إعادة اختراع أنماط التفكير السابقة للحداثة هذه، كنماذج خاصة بنا.
لذا، يبدو أن الطبيعة البشرية تحرق أي شخص يجرؤ على الاقتراب منها، فقد حصلت على ثأرها، من خلال فرض حواجز بيولوجية مختلفة. واليوم تبدو هذه الحواجز هائلة للغاية، بسبب درجة أكبر من تفويض عملية صنع القرار المجتمعي. وإذا افترضنا أننا استنتجنا أنَّ العلوم الاجتماعية غير قادرة على مواجهة تلك التحديات، لا يزال لا يتبع ذلك أنَّ الطبيعة البشرية يمكن استيعابها في علم الاجتماع الاجتماعي أو علم النفس التطوري؛ لأن الطبيعة البشرية هي بحد ذاتها ارتداد مفاهيمي من ماضي ما قبل داروين، عندما كانت الأنواع العضوية تحتفظ بصفات أساسية، وبالتالي فإنَّ الطبيعة البشرية لا تنتمي حقًا إلى عالم داروين بشكل صحيح.
ويكسب الجدل بين “التنشئة” و”الطبيعة” تاريخيًا، الفرد، الصفات التي تجعله: من الناحية الفلسفية، بديهيًا. ومع ذلك، وفقًا للتوليف الدارويني الجديد، فإنَّ الأنواع ليست جوهرية. ومن هنا ارتأيت اختيار مقالات محددة، في باكورة سلسلة علم الاجتماع، باعتباره الانضباط الرئيسي للعلوم الاجتماعية، واحتياجنا إلى استنباطه من العلوم الإنسانية والطبيعية، وتحمل المسؤولية عن سياقات صنع القرار التي تتحدى إنسانيتنا المشتركة.