صفاء أبو سدير – ألف ياء
هذا العنوان أشبه ب”سمك لبن تمر هندي“، لكن ستتوضح طبيعته بتتبع العلاقات الترابطية في الذاكرة التي قادت إليه.
يتذكر بعض الأصدقاء أنني كنت اسمي اللاوعي ب “الباب السايف” بالعامية العراقية (أي الباب الذي من كثرة استخدامه تستهلك مفاصله؛ فلا يعود يغلق بشكل صحيح وممكن أن يفتح لوحده من أي تيار هواء بسيط) ويبدو أن ذلك حال ذاكرتنا أيضا (ذاكرتي على الأقل)، التي تنبعث منها الذكريات والافكار باستثارات أو ترابطات تجر الواحدة الأخرى.
فقد وعدت في البوست السابق أن اتحدث عن الروائي البريطاني والمؤلف الموسيقي والسينارست (متعدد المواهب، والمولع باختراع لغات جديدة) أنتوني برجس (بيرجس)”Anthony Burgess”، الذي تحدثت عن روايته “موزارت وزمرة الذئاب” وموقفه من بيتهوفن فيها، الغريب على ولعه الشخصي به وترسم خطاه في الموسيقى، والكتابة الأدبية، حيث حاول نقل أساليبه الموسيقية إلى السرد وترسم طريقته في البناء الموسيقي في البنى السردية لبعض أعماله.
ويكتنف تعرفي على برجس وأدبه وفنه سلسلة مفارقات، ساتحدث عنها فقط بقدر ما تسمح مساحة هذا البوست في السوشيال ميديا، مؤجلا الغوص بعمق في أعماله في الأدب والموسيقى والسينما إلى مقام آخر.
في أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات سادت العراق موجة اهتمام بالأديب الأرجنتيني خورخي لوي بورخس، وطريقته الساحرة في السرد واستعاراته التاريخية الهرمسية، والصوفية، التي عزز قبولها لدينا سعة إطلاع بورخس على التراث العربي والإسلامي؛ وتحديدا ألف ليلة وليلة والتراث الصوفي (هناك كتاب أعمل على نقله إلى العربية يحصر مصادره الصوفية واستعاراته من التراث الإسلامي) وقد وصلت هذه الموجة ذروتها في الثمانينيات بصورة هوس ببورخس أو ما يمكن أن أسميه “بورخسمينيا”، إذ ترك أثرا عميقا في تطور الكتابة السردية لدينا، بل أكاد أقول أنه مَسخ بعض أدبائنا الذين كانت لهم تجاربهم السردية المميزة.
وبدأت هذه الظاهرة (بالنسبة لي على الأقل؛ أنا الشاب الذي لم يكمل عقده الثاني حينها) بمفارقة بطلها “أبو أوس” القاص الراحل موسى كريدي، بطريقته الحماسية في التعبير، يرافقه فيها الصديق المثقف المميز القاص حينها (بلمسة تشيخوفية مميزة) والدكتور في اللسانيات لاحقا، غالب المطلبي (الذي خسره الأدب العراقي وكسبته الأكاديميا)، وهو نقيض موسى بهدوئه المفرط وتحفظه، وصنوه وشريكه في تجارب القراءة والمعرفة .
كنا نجلس في مقهى البرلمان وكان موسى يتحدث بحماس عن قصة قصيرة (وصفها بالهائلة) وإنها ليست مجرد قصة قصيرة بل رواية ومسرحية وعمل فلسفي، في ٦ صفحات فقط!! كان عنوانها “المعجزة الخفية” لكاتب اسمه “جورج لويس بورغيس”، وقد أعارني أبو أوس حينها عدد مجلة الأقلام الذي نشرت فيه، وكان يعود إلى مطلع السبعينيات عندما كانت مجلة الأقلام تصدر بالقطع الصغير (قطع الكتاب) وليس المجلة الكبيرة كما درجت عليه إلى يومنا هذا.
كان النص من ترجمة الصديق المترجم المبدع مجيد ياسين، (أطال الله عمره؛ آمل أنه ما زال حيا يرزق، فقط انقطعت عني أخباره منذ سنوات بعد أضعت هاتفي النقال وفقدت معظم أرقام الأصدقاء السابقة)، وقد سألت الاستاذ مجيد بعد سنوات عندما ربطتنا علاقة صداقة ولقاءات وزيارات متبادلة، لماذا كتب اسم بورخس بهذه الطريقة حينها، قال لي أنه ترجم القصة عن الإنجليزية حينها بعد أن أعجبته ولم يكن يعرف شيئا عن كاتبها وجنسيته لذا أبقاها يلفظها كما كتبت باللفظ الانجليزي. (ترجم لاحقا العديد من قصص بورخس).
ومع حماس أبي أوس بدأت رحلتي للبحث عن بورخس، فقد حدثته حينها عن تشابه كتابة الاسم بورغيس وبورجيس (إذ لم يكتب اسم بورخيس باللفظ الإسباني إلا في مرحلة لاحقة، وظل لفظ الحرف الإنجليزي مهيمنا في رسم اسمه في ثقافتنا في تلك القترة) ، ولاهتمامي بالسينما حدثته أنا عن برجس (وكنا نلفظه حينها بورجيس بناء على التراجم السائدة) والذي كنت قد تعرفت عليه عبر إخراج المخرج الشهير ستانلي كوبريك، لروايته “البرتقالة الآلية” في فيلم سينمائي مميز. ولم نكن نعرف أنه مؤلف موسيقي أو نطلع على أعماله الأخرى. وبالحماس ذاته عدت إلى أبي أوس بعد نحو شهر منتصرا باكتشاف أن بورخس هو كاتب أرجنتيني، بعد أن اكتشفت أن جريدة السفير اللبنانية قد خصصت صفحة كاملة لنصوص بورخس الشعرية والنثرية، (ربما تكون أيضا من أوائل النصوص التي ترجمت له بالعربية، اتمنى لمن يمتلك معلومة أخرى لم أصل إليها أن يصحح لي ذلك) فحملتها فرحا لأبي أوس من أرشيف مجلة فنون وكانت تديره الصديقة العزيزة ميسون طه الحافظ شقيقة الشاعر الكبير وأستاذي ومعلمي في الغربية المتوسطة الأستاذ ياسين طه الحافظ، وكانت تحتفظ لي بالصفحات الثقافية مما يرد من صحف ومجلات . وواصلنا بحثنا ود.غالب عن نصوصه الأخرى.
كما توسع اهتمامي بأنتوني برجس بعد أن توسعت معارفي، ولا اعتقد أن هذا البوست يسمح بسرد كامل لهذا التعرف، فبرجس متعدد المواهب واسع الاهتمامات وغزير الإنتاج، ففي الموسيقى وحدها ترك لنا أكثر من ٢٥٠ عملا موسيقيا، كما ترك العديد من الروايات والسيناريوهات للسينما والتلفزيون والكتابات والمقالات النقدية، فضلا عن اهتماماته اللغوية الثرة ، بلغات متعددة بعضها شرقية كالجاوية والفارسية، وترجم منها وإليها بل واخترع (أجل اخترع) لغات، وهذا ما سيقودني إلى المفارقة الثانية التي سأكتفي بذكرها ضمن مساحة هذا البوست المحدودة. فمن ولعه بإختراع لغات (تجسد ذلك في روايته البرتقالة الآلية حيث اخترع لغة/لهجة اجتماعية خاصة سماها “نادسات”، هي مزيج من الروسية والإنجليزية جعل أعضاء عصابة المراهقين يتحدثون بها في ما بينهم رواية البرتقالة الآلية، وقد قاد ذلك المخرج الفرنسي جان جاك آنو (مخرج اسم الوردة، سبعة أيام التبت، الذهب الأسود) إلى الاستعانة ببرجس فضلا عن عالم الأنثروبولوجيا دزموند موريس لوضع اللغة الصوتية والحركية التي تنطق بها شخصيات فيلمه “بحث عن نار” التي تدور عن قبائل بدائية لبشر الكهوف في فجر الإنسانية. ( اللغة لبرجس والإشارات لموريس)
شاهدت هذا الفيلم حينها على نسخة في أج أس أعارني إياها صديق بعد أن كتبت عن الفنانين العراقين والعرب الذين يعملون في السينما العالمية منطلقا من مشاهدتي لفيلم “لعبة القوة” عن الانقلابات العسكرية في العالم الثالث الذي مثله ديفيد هيمنغز وبيتر أوتول، وأخرجه مارتن بيرك وأدار تصويره المصور العراقي أسامة الرواي ( اتذكر أنني شاهدت الفيلم مطلع الثمانينيات في صالة عرض صغيرة في لجنة استيراد الأفلام في المنزل المقابل لسينما سمير أميس : ياه يا لتلك الأيام تخيلوا هذه الصالة كانت تخصص عروضا خاصة للنقاد فقط )، فنبهني الصديق إلى أن فيلم أنو يمثل فيه ممثلان عراقيان، أحدهما بدور بطولة. وهو نمير القاضي الذي يظهر بدور “جاو” في الفيلم ، فضلا عن أخيه نصير الذي يظهر في دور “نام” وهو دور ثانوي. ونمير هو ممثل أمريكي معروف اليوم باسم نيكولاس كادي، وكان فيلم أنو هو من لفت الأنظار إليه، لاسيما بعد فوزه بجائزة الأوسكار (للمكياج)، المهم أن تنقيبي عن نمير قادني إلى اكتشاف أنه ابن السفير ومدير التشريفات في الخارجية العراقية في ستينات القرن الماضي نزار القاضي. سأتوقف هنا خشية الانجرار إلى ترابطات ذكريات أخرى … أرأيتم أين بدأنا وأين انتهينا… ألم أقل لكم أنني سأفتح لكم “الباب السايف”