ألف ياء – حوار مع الشاعر وديع سعادة

شارك مع أصدقائك

Loading

ألف ياء

الشاعر وديع سعادة، حديث الأوهام والهجرات

“ربما كنت أنتمي إلى الغجر”

حاوره: إسكندر حبش

 وديع سعادة، المقيم في هجراته الدائمة، يحط رحاله حالياً في بيروت، بحثاً عن احتمال إقامة في مدينة يجدها تقيم في شيخوخة مبكرة.

منذ “ليس للمساء إخوة” مجموعته الأولى التي خطها ووزعها بيده، وحتى مجموعته الأخيرة، الصادرة حديثاً عن “دار الجديد”، بعنوان “بسبب غيمة على الأرجح”، لا يزال الشاعر يبحث عن إمكانية قول الذات والهواجس والهجرات وجدوى الكتابة. إنه شعر يسكن السيرة، لكنه لا يقدم تقريراً. لأن الشاعر لا يأبه إلا بهذه اللحظة، لذلك يبدو شعره وكأنه يلامس تفاصيلنا الصغيرة، التي هي كبيرة جداً لأنها تنبع من الذات، أي أن الإنسان ليس وهماً كبيراً.

وديع سعادة، الشاعر الجميل، يحاول في حواره هذا أن يلتقط لحظة بين خيبتين: خيبة الكلمات وخيبة الأمكنة، وإنْ كان الشعر ينتمي إلى الغجر.

قال ذات مرة إنه لم يصبح سوياً بعد. واليوم، وبعد ست مجموعات شعرية، هل تنازل سعادة عن قوله هذا أم ما زال يبحث عن سوية للنفس وللعالم؟

حول الهجرة والإقامة، حول الشعر والكتابة، حول هذه السوية كان هذا الحوار:

* أستراليا، فرنسا، بريطانيا، اليونان، قبرص، أستراليا مرة أخرى، محطات في هجراتك الدائمة. اليوم أنت في لبنان للبحث عن إمكانية إقامة، ربما تكون نهائية. أولاً: أحب أن أسألك، لماذا كانت هذه الهجرات يا وديع؟ ثانياً، لماذا بحث احتمال العودة هذه إلى لبنان؟ هل تعب الطفل الذي ينام في داخلك، أم هناك سبب آخر؟

– اختلفت هجراتي بين هجرات اختيارية وهجرات قسرية. الأولى للبحث عن مكان والثانية بسبب الحروب. لكن، لا المكان وجدته ولا الحروب انتهت آثارها. يبدو أنني أنتمي في العمق إلى الغجر. وأذكر للمناسبة أن أكثر ما أسرني من الكتب كان كتاباً يحوي أغنيات غجرية. قرأت هذا الكتاب قبل سنوات عديدة، في لندن تحت شجرة تفاح، ولا يزال في خاطري. ربما لأنه شعر اللامكان، لناس بلا مكان. ناس لا يأبهون بغير اللحظة. لا يدونون أغنياتهم ولا يدعون أنهم شعراء بل يغنون فطرياً أجمل الشعر وأرقه وأعمقه وأقساه، فقط من أجل الغناء، ولانقضاء اللحظة لا للخلود.

يزعجني البقاء طويلاً في مكان واحد. لكن المشكلة أن الأمكنة تتبع أصحابها أينما ذهبوا. والمشكلة أيضاً أن الأمكنة التي نبحث عنها غالباً ما تكون في داخلنا وليس في الخارج. لذلك أستطيع أن أقول إن هجراتي كانت كلها فاشلة، وإني بقيت تقريباً في مكان واحد. اليوم، أعود إلى بيروت بوهم البحث عن المكان أيضاً، بوهم البحث عن الذات. ولعل أجمل ما في العودة هذا الوهم، وهو أقسى ما فيها أيضاً.

* وإذا فشل هذا الوهم، هل ستعيد الرحيل مرة أخرى؟ إلى متى سيظل ترحالك الدائم؟

– ربما سأرحل أيضاً، مع معرفتي السابقة بلاجدوى البحث عن مكان في الخارج ما دمت أسكن في المكان الداخلي نفسه. المكان الذي أبحث عنه ليس من حجر وشجر وتراب. لكن هذه لا يمكن فصلها عن الذات كما تعرف.

* وهل تعرف أين ستجد ذاتك؟

– أنه السؤال الذي لم يجد له أحد جواباً.

مدينة شاخت

* قلت لي، ونحن في “السرفيس” إنك لم تحب المدينة. لماذا؟ بمعنى آخر، هل ما زال هذا اللبنان ( الذي قلت عنه في إحدى قصائدك: لبنان، هذا دولار لك، انصرفْ / أريد عطوساً / يجب أن أسحب لبنان من صدري…) هل ما زال يعني لك شيئاً؟ في العودة معنى، وفي البحث معنى آخر… لكن؟

– بيروت فقدت الكثير من خصائصها. لم تعد العاصمة التي عرفناها في الستينات، عاصمة الحرية، عاصمة القضايا، عاصمة الفنانين والمشردين والمجانين… لم يعد لبيروت ليلها الخاص. الليل الذي لم يمر على أية عاصمة عربية أخرى. صار ليلها ليل مطلق مدينة بليدة، متعبة، نائمة. كأن هذه المدينة التي حملت روح الثورة والشباب والتغيير شاخت. مقاهيها عادت، صحيح. لكن ناس المقاهي كأنهم يأتون كي يتحلقوا فقط حول الذكريات. كأنهم يحملون الماضي وحده، فيما رواد الأمس كانوا يهجسون بالمستقبل والثورة والتغيير. من الداخل، صارت بيروت كهلة، ومن الخارج بشعة، رجمة حجارة مغلفة بعنكبوت من أسلاك الكهرباء والهاتف والعواميد. بنايات متكدسة وطرقات شقت لطوابير الثلاثينات تتزاحم فيها آلاف السيارات الزاعقة ليلاً نهاراً، والتي تجردك من كل المشاعر ما عدا الخوف من أنك ستقضي صدماً. قال لي صديق ملخصاً الوضع: 17 عاماً من الدمار، و17 عاماً أخرى في انتظار الإعمار. وصديق آخر قال: لم تعد بيروت سوى منتجع، تصلح فقط كي يودع الشيوخ أعمارهم في طقس جيد، ساهمين في المقاهي أو تحت الشمس.

* وأنت، أين تقف من قول صديقيك؟ هل لديك القدرة على الانتظار 17 عاماً؟

– بل ربما سأودّع عمري في طقس جيد، في المقهى أو تحت الشمس.

* قلت “كأن هذه المدينة التي حملت روح الثورة والشباب والتغيير شاخت”، ربما معك حق. فأنا من جيل لا يعرف بيروتكم القديمة. على كل حال، هل تشعر أنت نفسك بأنك شخت؟ لكن الغجري لا يشيخ. فثمة دائماً روح تدفعه إلى المسير.

– الناس والأمكنة تشيخ مع بعضها البعض. تتبادل روح الشيخوخة كما تتبادل روح الشباب. في إحدى قصائدي قلت إن شجرة أبي كانت أوراقها تصفرّ حين يمرض، وحين تضربها الريح تصيبه رجفة.

* كيف كنت ترى بيروت من غربتك؟ هل حاولت الكتابة؟ هل كان للمكان أي تأثير على نصك؟

– التواصل لم ينقطع بيني وبين بيروت، سواء على الصعيد الثقافي أو الحياتي، ولو من بعيد. لا يمكن اقتطاع الجذور. وكما تلاحظ، فإن بيروت ظاهرة بقوة في مجموعتي الأخيرة.

والشعر

* من هذه الزاوية، ماذا يعني لك الشعر؟

– أحياناً لا يعني لي الشعر شيئاً، وأحياناً أتوهمه الملجأ الوحيد. يصعب عليّ فعلاً معرفة معنى الشعر، وربما أنا أَسيره لهذا. أَسير سره وعدم وضوحه. وأتساءل دائماً عن مدى جدواه. الأرجح هو وهم الجدوى. هذا الوهم الأجمل من بين كل أوهامي.

الشعر يأخذني بوهمه. وحين لا أعود أتوهمه أكفّ عنه.

* تبدو حياتك والمكان والكتابة وكأنها مجموعة أوهام تسيّرها بقوة وهمية خرافية. هل تشعر وكأنك انسحبت من هذه الحياة إلى هذه الدرجة؟

– يبدو أن الحياة هي دائماً “في مكان آخر”، ونحن لا نفعل غير محاولة اصطيادها بخيط هذا الوهم. أقصد الحياة التي نتوخاها، التي نرغب فيها. هذه الغائبة والمستحيلة.

لا يمكن الانسحاب من غائب أو مستحيل. يمكن فقط محاولة استحضاره، ولو بالوهم.

سيرة

* قراء شعرك، وأنا واحد منهم، لا بد وأن يلاحظوا أن الكثير من قصائدك ينحو، بشكل ما، نحو كتابة سيرة ذاتية. هل بهذا المعنى يأخذ الشعر عندك – أو الكتابة – شكل السيرة الذاتية؟

– كل شعر سيرة ذاتية في معنى ما. لا أقصد تقريراً يومياً ولكن رؤية خاصة للأشياء والحياة والموت وغيرها، التي هي أيضاً أشياء الآخرين وحياتهم وموتهم ربما. الأمور الشخصية أقصد، لا الفردية. الشخصي الذي هو عام أيضاً.

في شعري أسماء ناس وأسماء أمكنة، وأمور قد أفعلها كل يوم، وتفاصيل صغيرة. لكن هذه الأسماء والأمور والتفاصيل، مع حقيقتها ووجودها الواقعي في حياتي الشخصية، لا تخصني وحدي أو تنتهي وظيفتها الشعرية في الزمان أو المكان اللذين كتبت فيهما القصيدة، بل هي أيضاً تخص الآخرين، وفي أزمنة أخرى ربما وأمكنة أخرى. أقصد أنها أمور شخصية لكنها عامة. إنها “سيرتي الشخصية” حقاً، لا حصراً.

* من المعروف أنك أصدرت كتبك ( باستثناء الأخير: “بسبب غيمة على الأرجح” ) على نفقتك الخاصة. لماذا هذا الموقف من دور النشر؟

– كان لي موقف واضح من دور النشر هو تعاملها المجحف بالنسبة إلى حقوق الشعراء. ولكن لا أعرف إنْ كان يحق لي اتخاذ هذا الموقف من دور نشر همها تجاري. هذا لا ينطبق طبعاً على كل دور النشر، فمجموعتي الأخيرة “بسبب غيمة على الأرجح” أصدرتها “دار الجديد” بطبعة أنيقة وتعاملت معي بمثالية وأنا بعيد عن بيروت، في أستراليا، ومن دون أن أكون قد تعرفت بعد إلى أصحابها. هذه المثالية التي تعاملت بها معي “دار الجديد” ولدت في نفسي احتراماً وتقديراً كبيرين لهذه الدار ومثيلاتها، وطبعاً للأصدقاء الذين سعوا واهتموا بإصدار المجموعة وأنا في بلاد أخرى.

* قراءة مجموعتك الأخيرة تبدو وكأنها تنحو إلى شعر الأفكار بمعنى ما. فبعد عملك على التفاصيل في مجموعتيك السابقتين، تبدو هنا وكأنك تبحث عن معنى أكثر شمولية. ما رأيك في مقاربتي هذه؟

– مثلما حاولت مجموعاتي السابقة ملامسة تفاصيل ذاتية، تحاول مجموعتي الأخيرة ملامسة تفاصيل شعب ووطن. قد يكون هناك، كما قلت، انتقال ما من الفرد إلى الجماعة، ولكن من دون تغييب تلك التفاصيل الذاتية التي ما زلت أعتبرها الأساس. فالإنسان بكل همومه وأحلامه وأوهامه ليس أكثر من تفاصيل. قضاياه الكبيرة هي هذه التفاصيل التي نسميها صغيرة خطأ.

* قلتَ ذات مرة: “إنني لم أصبح سوياً بعد”. أحب أن أسألك، بعد هذه المجموعات الشعرية والنثرية والترجمات التي أصدرتها، وبعد هذه الهجرات المتكررة، هل تشعر أنك أصبحت “سوياً”؟

– لو ان الكتابة تقود إلى “السوية” لكان كل الأدباء والشعراء أسوياء. لكن العكس هو ما نراه.

“السوية” التي أقصدها هي المصالحة مع الواقع. وكلما ازداد الشعراء والكتاب توغلاً في شعرهم وكتابتهم، أقصد في ذاتهم وأحلامهم وأوهامهم، ازدادوا توغلاً في “لاسويتهم”، أي في رفضهم للواقع.

 

 

*-صحيفة “السفير” اللبنانية في 11/3/1993

 

 

شارك مع أصدقائك