اليشن ، ومفردها إيشان ، هيَ تلال ليست عالية الإرتفاع ، تكثر في جنوب العراق وبخاصة مناطق الأهوار ، وما هيَ الّا آثار المدن السومرية المندثرة والمندرسة في الزمان والتراب . مرّت عليها فُرق تنقيب الآثار العالمية وكشفت عمّا تحتها من كنوز فخارية وأحجار بألوان زاهية وألواح كتابة وقبور لملوكها وغير ملوكها ( توابيت تقترب بأشكالها من شكل الزوارق ) .
إنها أمكنة ومواقع دلّت على حضارة الإنسان السومري وتفاعله مع الوجود دينيّاً وعمرانيّاً وفنيّاً وثقافيّاً ومقاومة . هذه التلال – اليشن ، كانت تُثير دهشة القرويين الساكنين على مقربة منها ، وكانت مبعثَ حكاياتٍ لهم ، حكايات شعبية تمتزج فيها الحقيقة والإسطورة والخرافة ، الواقع وما وراء الواقع . حكايات أربكت مخيلاتهم وتصوراتهم بالمخاوف والانبهار ، وكثيراً ما يروون أنهم يشاهدون الضوء ينبعث منها في الليل ، وتخرج الزوارق الذهبية منها ، وانَّ اشباحاً على هيئة رجال ( أسموها الطنطل ) تُحدّث صيادي السمك والطيور وتؤسرهم وتعود بهم إلى بيوتهم وتحذّرهم من العودة ثانية ، وهكذا منعوا الأطفال وأخافوهم كي لا يقتربوا منها . ومن أشهر هذه اليشن في ريف العمارة / الميمونة ، ايشان ( احفيظ ) المسكون ، ومَن يقترب منه لا يعود إلى أهله ، ومن يعود يصاب بالعمى . تداولوا هذه الايشان في أشعارهم الشعبية وهوساتهم ( انتَ احفيظ محّد ساكنَه إو حط بيه !).
ومن اليشن المشهورة ( ايشان ابو اتريك ) ، وكما يرْوون َ ، أنهم يشاهدون رجالاً تخرج منه في الليل حاملين مصابيح يدوية ، وقد أطلقوا تسمية ( اتريك ) على هذه المصابيح ، وهي المصابيح التي تعمل بالبطارية الجافة الصغيرة وقد كانوا يستعملونها في تحركاتهم الليلية ، وتعود التسمية ( اتريك ) إما لإسم الشركة المُصنّعة أو تحويراً لكلمة كهرباء بالانكَليزية – الكترك .وهكذا أسموا هذا الايشان بإيشان ( أبو اتريك ). يقع هذا التل – الايشان عند حافة الهور غرب نهر الهدّام في ريف الميمونة / العمارة .
تقول حكايات صيادي الأسماك والطيور كما سمعتها ، أنهم يرون في الليل رجالاًيخرجون من التل حاملين المصابيح _ الاتريكات ، وانَّ ضوءها يخطف الأبصار والقلوب وربما العقول ، ومن الفزع يلمّون شباكهم عائدين إلى بيوتهم . وفي الصباح يسردون حكاياتهم الإسطوواقعية التي تختلط بسرعة مع الكحل والشاي والسيّاح ، وتترك خيطاً لامعاً في أذهان وعقول الصِبْيَّة . لقد سمعتُ الكثير من الحكايات عن هذا الايشان في طفولتي وصباي ، حكايات رسبت في الذاكرة وايقظتني الان ، أن اتمثلها شعراً :
ضوه اتريكات ( اشان ) ايسودن الصياد ، مامش بعد صيد اطيور ، بعيون الفلح مديور جرف الهوركل الليل يتلامض ، واتدور السوالف بالسلف ويَّه الكحل والچاي ، حَد ييَبَس عليها الريكَ. .لوصاير نهر ريكَك .
يا إيشان يابو اتريك ..، اشكَد كَالوا خطفت اكَلوب بتريكك ، آنه الخطف كَلبي اتريك حلوه ابليل ، نص خدهه طفه اتريكك .
نعم ، عن ايشان ( ابو اتريك ) وغيره ، كان اختلاط الخرافة والإسطورة في المرويّات والحكايات الشعبية ، يُشير الى براعة المخيّلة البدائية في توليد سرديات والمت صانعيها ، وكم كان واقعهم اسطوريّاً بالقدر الذي كانت الاسطورة واقعاً..؟؟…