تحدي الخوف

شارك مع أصدقائك

Loading

ا.د هبة مهتدي

اخيرا قررت اتكلم واقول، اريد ان احكي حكايتي واستأذنكم ألا تتسرعوا في الحكم عليها، كل ما اريده منكم اعطائي فرصة كي اتكلم انا رجل في الخمسينات من العمر، حاصل على مؤهل عال واعمل بوظيفة مرموقة تدر لي دخلا لا بأس به. انتمي لأسرة من الطبقة المتوسطة تعيش في احد الاقاليم بمصر، و اهم ما تحافظ عليه هو التمسك بالعلم والدين والأخلاق والنزاهة. بدأت حكايتي منذ ولادتي، اذ كنت طفلًا غير مرغوب فيه في اسرة كبيرة العدد وكثيرة الاطفال، ولكن يبدو ان الله وهبني قوة التحدي منذ اول البدايات فجئت الى هذه الحياة متحديًا كل تدابير الوالدين لتحاشي اضافة عبء جديد الى حياتهما المزدحمة والمثقلة بالأعباء. جئت هذا العالم احمل خطيئة لم أكن مسئولا عنها، خطيئة قدومي اليه دون رغبة اسرتي، والتي للأسف انعكست علي بالسلب في مشاعرهم نحوي وتعاملهم معي طوال طفولتي. فكثيرا ما كنت اسمع امي تردد( انت غلطة)، ( انا لم اكن اريد طفلا آخر ) ، (انا ووالدك لم نكن سعداء لقدومك) . ولكنها لم تفكر ابدا ماذا كان بيدي انا ؟ ماذا كان ذنبي انا ؟ اتيت الى هذا العالم وبدأت رحلة التحديات، تحدي اثبات انني لست مجرد غلطة تندم عليها الأسرة بل انسان يحمل مشاعر واحاسيس و احلام ليس هذا فحسب بل قررت منذ نعومة اظافري ان اكون افضل اخوتي واكثرهم حنانًا وحبًا للوالدين املا مني في مسح ذلك العار وتلك الغلطة وتمنيت ان يأتي اليوم الذي اسمع فيه ندمهما على تلك المشاعر و عبارة ظللت احلم بها عمري كاملا ( لقد كنا مخطئين في حقك، انت افضل ابناءنا ونحمد الله ان رزقنا بك ) . ذاكرت واجتهدت وكنت انسانا مطيعًا حتى سنوات مراهقتي تحديت نفسي ورغباتي فمرت في هدوء وسلاسة وكأني شخص ناضج وليس مجرد مراهق( خوفًا )من عمل اي تصرف قد يؤكد صورة الانسان الغلطة في اذهان اسرتي. ومع ذلك كانت اسرتي لا تشعر بي ولا تراني بل وتقلل من قدري وانجازاتي، كانت الوالدة للأسف تشعرني دوما انني اقل من الآخرين وخاصة اخوتي . وحين التحقت بكلية نظرية اضاف هذا الى خيباتها القديمة خيبة اخرى فظلت تندب حظي وحظها. ورغم نجاحي طوال سنوات الدراسة وتفوقي وتخرجي بتقدير أدى الى التحاقي بوظيفة جيدة مباشرة بعد التخرج، الا أنها لم تكن تراني سوى قليل الحيلة ، قليل الحظ، قليل الشأن في المجتمع. قررت الزواج مبكرًا لأخرج من هذه الأجواء السلبية وأبدأ حياة جديدة مع انسانة تحبني وتقدرني وتنسيني خيباتي مع اسرتي. كان قلبي قد مال الى احداهن في المدينة الاقليمية التي نعيش فيها وطلبت من والدي الذهاب لخطبتها ولكن امي ثارت وقالت: من انت حتى تفكر في هذه الفتاة؟ ان اسرتها ميسورة وهي فتاة جميلة ومتعلمة تعليم عال ومؤكد لن يقبلوا بعريس مثلك امكانياته متواضعة ومستقبله محدود بحكم دراسته. فصرفت نظر عنها (خوفًا ) من احراج اسرتي. ثم بدأت افكر في الارتباط بطريقة تقليدية وبدأت ترشيحاتي اطرحها على الاسرة وفي كل مرة اجد منهم ما يثبط عزيمتي ويقنعني بأنني غير كفؤ لهذا الارتباط فلا اتخذ اية خطوات ايجابية . واخيرا شاهدتها ، فتاة جميلة اعجبت بها ولكنها صغيرة لازالت تدرس بالمرحلة الثانوية ومتعثرة بها بسبب دلالها الشديد وعدم اهتمامها بالدراسة ومن اسرة ثرية تعمل بالتجارة ولكنهم من مستوى علمي مغاير تماما لاسرتي فوالدتها امية لا تقرأ ولا تكتب ومعظم افراد اسرتها خرجوا من المدارس في سن مبكرة. لا أدري لم وجدت نفسي اقترب منها هي وعائلتها؟ الغريب ان اقترابي هذا لاقى تشجيعًا واضحًا منهم، ثم اتخذت اولى خطواتي وفاتحتها فوجدت ترحيبًا منها ومن اسرتها،وعلمت ان والد العروس يعلن ان الشقة والجهاز لديه فكل مايرغب به الاطمئنان على ابنته الوحيدة المدللة مع انسان خلوق ومحترم. كدت اطير فرحًا! اخيرا هناك من يقدرني لشخصي ويرغب بي ولا يعتبرني غلطة. فاتحت اهلي و الغريب انهم رحبوا برغم الفارق الاجتماعي الواضح بين العائلتين، ربنا لأن هذا الزيجة لن تكلفنا الكثير واتخذنا خطوات سريعة من اجل اتمام الزواج . “أخيرا عوضني الله عن خيباتي المتوالية وهأنا سأتزوج عروس جميلة صغيرة وثرية ” هكذا كنت احدث نفسي، وتمنيت ان اقول لاسرتي حينئذ هل رأيتم ابنكم الغلطة ؟ ها هو اكثر نجاحا من اخوته ولن يكلفكم شيئا في زواجه كما فعلوا هم. تزوجت سريعًا وتغاضيت عن بعض العلامات التحذيرية المبكرة التي لاحظتها خلال فترة الخطوبة ( خوفًا) من ضياع الفرصة. وانجبت اولي بناتي وانا اقنع نفسي بأنني ناجح وموفق واخفي خيبتي حتى عن نفسي، فمنذ اليوم الأول اكتشفت كارثة ان اسرة زوجتي تقودهم جميعًا ( حماتي المتسلطة) ولا صوت يعلو فوق صوتها، وان الأب مجرد ديكور وان القرارات كلها بيدها هي، وبدأت معركة جديدة في هذه الحياة مع تلك الحماة الملعونة ، جعلت حياتي جحيمًا ، فللأسف ابنتها لا حول لها ولا قوة وتلك الحماة تخطط وتسيطر و تحرض زوجتي علي، وتلقي علي وعليها بأفظع كلمات السباب والشتائم بل كثيرا ما تمتد يدها بالضرب على زوجتي امامي وامام العيلة والاصدقاء. لم افعل شيئًا في البداية ( خوفًا) من شماتة اهلي في ، ولكن للأسف فضحتني تلك الحماة الملعونة وادخلت اهلي المحترمين في خلافاتنا وشجارنا وطالهم جانب من السباب والشتائم والايذاء النفسي. ثم بدأنا مرحلة جديدة بعد انجاب طفلتين توأم بعد طفلتي الأولى ، كانت تلك هي مرحلة التطاول بالضرب، وكانت تلك الحماة تسلط رجال من اسرتها علي ويقومون بضربي واذلالي امام ابنتها لكسر عيني، وتتحداني برجولتي ان افعل شيئًا، فكنت افقد عقلي واضرب واشتم وادخل في مشاجرات ومعارك لم اتعرض لمثلها في حياتي . وبدأنا انا واسرتي نشعر بالخزي والعار تجاه هذا النسب الذي جلب لنا الفضائح ، هذا النسب الذي اتضح لنا بعد فوات الاوان عدم التكافؤ الاجتماعي والخلقي والعلمي بيننا. فتلك الاسرة الجاهلة الثرية كانت تشعر بكل عقد النقص تجاه اسرتنا البسيطة المهذبة والمتعلمة والمحترمة. وتمت الطلقة الاولى، ولكن تدخل الاقارب والمعارف للاصلاح بحكم العرف في مدينتنا الصغيرة، حتى اسرتي ضغطوا علي لاستكمال المسيرة حرصًا على بناتي ، فعدت وبعد فترة جاء ابني الرابع ، وظل الحال كما هو بل صار أسوأ ، زوجتي راسبة الثانوية العامة قررت ان تتخذ نهج والدتها المصون وصارت تستفزني بكل الطرق الممكنة. لا اعلم لماذا فقدت حينها قدرتي على المواجهة والتحدي؟ ربما بسبب ( الخوف ) ! الخوف من جبروت حماتي، و(الخوف)من مواجهة ذاتي ، و (الخوف )من الاعتراف بأخطائي وفشلي. فقررت الهروب واعتزال الدنيا وطلبت نقل عملي الى مدينة اخرى وهناك عشت حياة زاهدة متقشفة، لا افعل شيئًا سوى الذهاب لعملي والصلاة بالمسجد واحيانا المبيت به وخدمة المصلين وكأني اكفر عن سيئاتي التي لم اكن سببًا فيها. ومرة اخرى تدخل الجميع واخبروني ان زوجتي ندمت على مافعلت وقررت الالتزام بالدين والأخلاق و ستصبح من الآن فصاعدًا زوجة محبة ومطيعة. عدت وكلي امل في نهاية عذابي، وكلي ( خوف ) من ضياع بيتي واولادي اذ انا رفضت العودة ، ولكن للأسف كان هذا مجرد فخ جديد ولم تتغير هي ولا امها بل صارت الحياة جحيم وأسوأ من اي كابوس مضى وتمت الطلقة الثانية. وحكمت حماتي بتفريق الأبناء لتكون البنات الثلاثة مع الام والولد معي، عدت لاهلي ذليلا مكسورا احمل طفلي الصغير الذي لايفهم لم انتزعوه من احضان امه واخوته، ولا افهم أنا كيف تخلت عنه امه ؟ ولماذا ؟ وبقينا هكذا سنوات نتجرع انا وهو الظلم والحسرة والوجع. اما بناتي فلقد قررت حماتي فرض سيطرتها عليهن و صاروا نسخ مشوهة منها ومن والدتهن بل وتم ارضاعهن الكراهية والحقد لي ولأسرتي. حتى ابني الصغير كان كلما ذهب لزيارة امه يعود محملًا بضغائن لي ويبقى عدة ايام لا يود التحدث معي واحيانا لا يستطيع كتمان مشاعره فيخرج عن صمته ويتهمني بالظلم لأمه وبأنني السبب في كل المصائب ويتضح لي كم الروايات المزيفة والملفقة التي تم سردها له عني. ومررت سنوات حزينة كئيبة، لا ارى بصيصًا للضوء فيها، ولا املا في الحياة ، ولم يمنعني من الانتحار سوى ايماني الشديد بالله و( خوفي ) من عقابه و( خوفي ) على ابني الصغير الذي عاني مشاكل نفسية نتيجة كل هذا الذي حدث واحتاج لعلاج لدى متخصص عدة سنوات . وفي احد الأيام ذهبت للاطمئنان على زميل لي بعد اجراء عملية جراحية له وهناك تقابلت مع فتاة رقيقة ومهذبة وانجذبت لها بشدة بمجرد التحدث معها وعلمت انها اخت زوجته وانها فتاة جامعية تعمل اخصائية اجتماعية وهي انسانة رومانسية وتهوى القراءة وتشارك في العديد من الجمعيات الخيرية التي تساعد الأسر المحتاجة. وبدأت قصة حب طاهر بيننا، حكيت لها قصتي، وفكرت كثيرًا معها في اخطائي دون خجل منها ، وتعلمت معها ان الزواج هو احد اخطر قرارات الحياة ويجب التفكير فيه بهدوء ودراسة معطيات النجاح والفشل بدقة واعطاء وقت كاف لمعرفة شريك الحياة المقبل بصورة متعمقة. واخيرا اكتشفت ان اهم تحدياتي في تلك الحياة هو ( تحدي الخوف )، ذلك الخوف الذي لازمني كثيرا و كان سببًا في تسرعي واخطائي بل وهزيمتي أيضًا. و اخيرا تحديت الخوف وانتصرت عليه واكرمني الله بها زوجة محترمة ومتعلمة ومن عائلة اصيلة واكتشفت فيها جمالا يفوق ما كنت احلم به اذ انها تفهمت ظروفي وربت معي ابني واحبته جدا وانجبنا ابنة صغيرة وثقت محبتنا كأسرة واحدة . وبدأت مراحل التئام الجروح واحدا تلو الآخر بوجودها معي وحبي لها وحبها لي وعوضتني عن كثير مما مضى، حتى انني احمدالله كل يوم على وجودها في حياتي. انا فقط اردت ان اروي قصتي لتكون عبرة ودرسًا خاصة للآباء والامهات : – انتم المصدر الاول والأكيد لتعزيز الثقة في النفس لدى ابناءكم، وكلماتكم لأطفالكم تظل محفورة في اذهانهم للأبد. والسلبي منها يقيد انطلاقاتهم ونجاحاتهم. كما حدث معي للاسف وللعلم مع كل ذلك الا انني بقيت عمري كله محبًا وداعمًا لأمي وأبي وحاولت اسعادهم بكل طريقة ممكنة. – انتم ايضا قد تكونوا سببًا في سعادة او خراب بيوت ابنائكم وبناتكم، كما فعلت حماتي المتسلطة الجبارة، فاتقوا الله فيهم. وتذكروا ان كل المكاسب التي تحصلون عليها يدفع ثمنها اطفال ابرياء كل ذنبهم انكم اجدادا لهم. – اردت ايضا ان اقول هناك رجال أيضا يتعرضون للعنف المنزلي والاسري، كما حدث معي واخيرا رسالتي لكل معذب او تعيس في حياته، ان كل ليل وله آخر ! غدًا ستشرق الشمس على حياتك فلا تيأس من رحمة الله.

شارك مع أصدقائك