شوقي كريم حسن
علينا جميعا أن نعترف بالحقيقة، حتى وان كانت موجعة أن ليس ثمة قصة قصيرة في العراق،!! ومثل هذا التعميم ، قد لا يرضي البعض، ممن يعتقدون إنهم من أهم كتاب القصة القصيرة وسادتها، محاولين الدفاع عن ذواتهم الإبداعية وهذا حق يبدو مشروعا ذا ما استند الى دلائل مقنعة، وثوابت تجعلنا نعاود الفحص المتأني الدقيق ثانية، ولسوف اتفحص المشهد القصصي بعد عام 2003 ، لأننا أمام تحول فكري ونفسي كبيرين، كان لابد معهما من إيجاد بدائل إبداعية كما حدث مع الأدباء الفرنسيين بعد احتلال فرنسا، وكما حدث مع الأدباء الألمان الذين عارضوا النازية وراحوا يقدمون نماذج إبداعية مغايرة، مالبثت أن تحولت الى الواجهة لتعرف المتلقي بما هو إدهاشي ومقاوم معا، كان سارتر، ودي بفوار، ومن خلال مجلة أزمنة يحاولون تحطيم السائد النفسي أولا، وإيجاد بدائل إبداعية وعبر منافذ الشعر والقص معا، وقد نجحا في ذلك نجاحا ملحوظا جعل الثقافة في الصف المقاوم الأول، وبعد الانسحاب الألماني، استنجد سار تر ومن وجد خلاصه الوطني بذاته باحثا عن إجابات لأسئلة إنسانية شامله، هي حصيلة التأملات والمراجعات التي أحدثتها رجتي الاحتلال والمقاومة معا، وما حدث في فرنسا وأسبانيا وألمانيا، وأمريكا ألاتينية، التي عاش أدباؤها ظروفاً تشبه تلك التي عشناها ونعيشها حتى اللحظة، كان يجب أن يحدث معنا، أو مع أولئك الذين كانوا بعيدين عن الواجهة، لااسباب، قالوا إنها بفعل معارضة النظام وتخوف مؤسساته الثقافية من نشر نتاجاتهم الإبداعيةلانها تتوافر على كمية من المغايرات والاعتراضات، والفهم الخاص للحياة والنظر إليها من زوايا ومشاهد لا تتفق والرقيب… فهل كان هذا فعلا؟كنا نرقب المشهد الإبداعي بكاملة، اقصد القصة القصيرة ، والشعر ، والرواية ، والفن التشكيلي، واللواحق الأخرى،!! وكنا نتفحص ماهو جديد، والجديد من الأسماء ، التي لم يعد ثمة من يراقبها أو يضع شروطا سياسية، أو اجتماعية ، أو فكرية، ببساطة، لقد سقط الرقيب وممنوعاته، وانفتحت الأفاق على مصراعيها، مما أنتج أنواعاً من الفوضى في النشرأربكت المتلقي، لكنها مع هذا منحته فرصة للتأمل والتدقيق والاختيار، بعد أيام من الحرب الاولى وصل عدد كتاب القصة القصيرة الى أكثر من ثمانيين قاصا ، كانت الجرائد والمجلات تدعم حضورهم بسخاء، وقبل أن تضع الحرب أوزارها، وصل العدد الى أكثر من ثلاثمائة قاص، كلهم دون استثناء يدعون الإبداع ، والبعض تجرأ وأعلن انه من المجددين، بل وقالوا إن قصة الحرب لايمكن تجاهلها إبداعيا!! لكن سياقات الوقت وما ظهر من نتاج قصصي بعد منتصف الحرب الثانية، قلب تلك القواعد، وأهمل النقد تلك الأسماء التي كانت تدعي الأهمية والتميز، والكثير منها، نال جوائز تكريمية ، وأثار لغطا نقديا مدفوع الثمن،يقول جبرا إبراهيم جبرا، إن صالح احمد العلي، واحداً من أهم كتاب القصة والرواية العرب!!القول بالنسبة ليَّ لا يحتاج الى تعليق، والباحث عن مثل هذه الإشارات سيجد منها الكثير، مع سؤال محير حقا، لماذا تراجع إبداع هؤلاء ، مع تراجع هدير المدافع… هل كانت أقلامهم تتلذذ لسماع الرصاص ومراقبة طوابير القتلى فتنهمر قصصاً، أم إنهم وجدوا موت الحرب يعني موت تجربة قصصية بكاملها، لم تعد تعني حتى أولئك الذين كانوا يشكلون الدافع النقدي الأول لها، يعترف موسى كريدي، /انه حين كان يقرأ تلك القصص الغريبة والسوبرمانية كان يضحك من سذاجة هؤلاء، لكنه وبحكم وجوده في لجنة الفحص يجد نفسه مجبرا على أختيار قصصاً فائزة، دون الانتباه الى المقومات الفنية التجديدية/، بل كانت عمليات التجديد في البناء القصصي ممنوعة، ولهذا انتهت المرحلة بعد أن وصلت الى غاياتها، وهي غايات ومقاصد سياسيةوتوجهات سادت النفعية فيها،وتلك الصورة عادت ثانية ، ولكن بغياب الدوافع المادية والسياسية أول الأمر، فراحت صحفنا التي تجاوزت المئة جريدة ومجلة تبحث عمن يملأ بياضها، دون الأخذ بنظر الاعتبار ، مقومات القص، ودوافعه ، ما يمكن أن يكون عليه، لقد أستسهل من وجدوا أنفسهم متحمسون للقصة القصيرة محاصرين بين همين كبيرين ، هما، فسحة النشر ، وضرورات أثبات الوجود، دون الانتباه الى ما يمكن أن يضيف الى تاريخ القص من دلالات وهموم ومستجدات فكرية وبنائية جديدةأو مغايرة، مع انفجار عمليات النشر، وتعدد وسائله ، أحصينا، أكثر من مئة وثلاثين قاصا، نشروا ما يمكن أن يتجاوز الألف قصة قصيرة، وسبعين مجموعة قصصية ، طبعتها مطابع بغداد ودمشق والأردن،بين هذا العدد مجموعة من كتاب القصة الستينية والسبعينية الذين تراجعوا الى الخلف خوفا من تمرد إبداعي جديد، وراح البعض الأخر يلج باب الرواية بقوة فاعله، هذا ما فعله احمد خلف وحنون مجيد ولؤي حمزة عباس وحميد المختار ومحمد سعدون السباهي ، ونزار عبد الستار، واكتفى البعض الأخر، بالصمت، بعد أن كان مؤثرا، وبحضور طاغ، حدث هذا مع صلاح زنكنه، وعبد الخالق الركابي وفيصل جواد كاظم، وفرج ياسين ، وقصي الخفاجي ، وعبد الكريم حميدي ، وثامر معيوف، والقائمة تطول، حدث هذا نتيجة ارباك اخلاقي شديد في المشهد القصصي ، ولكي لا نقع داخل دائرة اللالغاء التام، وعدم الدقة في تفحص الصورة من جوانبها المتعددة، لسوف أقوم بعمليتين مهمتين ، أثرتا في الوجود القصصي العراقي تأثيرا واضحا، وهما، التجديد المنقول، الذي اعتمده كتاب القص الستيني الناسخين بشكل مبهر تجارب ساتر والوجودية ، وما تبعها من تأثيرات عالمية كبيرة، حيث انقلب هؤلاء الى أكثر من اتجاه، لقد بدأ محمد خضير متأثرا في مملكته السوداء بالمدرسة الشيئية وخلاصتها ولكنه وبهدوء أترحل صوب بورخس ومكتبته البابلية ، مشهداً قصصيا يتكيء بشكل كبير الى تلك التجربة العملاقة، وفي مرة أخرى وجد في كالفينو خلاصه فراح يشيد مدنا لا مرئية من خلال تفحص عراقي لمدينة القاص، والامر مع محمود جنداري وجليل القيسي هو ذاته، أما كتاب القصة السبعينية، فلقد وجدوا نفسهم محاصرين بين المتغير السياسي الذي حدث والانفتاح الكبير وبين جل المعرفة الستيني، كانت البدايات واقعية اشتراكية ، هذا حدث مع زعيم الطائي وعبد الله صخي، وسامي المطيري ومهدي علي الراضي، وعلي خيون،ومن ثم حدث انحراف الحرب ا لاولى ليجد القاص نفسه محاصرا بأسماء واتجاهات غير مالوفه، ومع هذا الانحرافـ، راحت التجربة تتأثر بماركيز وواقعيته الغرائبية، وبدأ البحث عن مشتركات إبداعية مع المنتج القصصي العالمي لهذا تجد إن القصة القصيرة في هذه المرحلة الدقيقة قد انشطرت بين موقفين هما، بورخس كالفينو، وماركيز واستورياس وسواهم من أدباء امريكا اللاتينية، لهذا لم يعد للقصة القصيرة ثمة من شكل وطني واضح، واوقع النقاد أنفسهم في ذات الورطة ، حيث اندفعوا وبتعصب من الواقعية الاشتراكية وتطبيقاتها النقدية، الى المدارس الحديثة حيث بارت وجاك دريدا وسواهم، وداخل هذا الصراع الحامي تراجعت القصة القصيرة الى اقل المستويات أنتاجا، حيث احصينا نتاج عام 2000 حتى التغيير لنجد انه لم يتجاوز الثمان مجاميع قصصية وثمان وخمسون قصة قصيرة ، نشرت في مجلات عراقية وعربية، فيما ظلت الجرائد تراوح في نشر قصة واحدة في الأسبوع أو اكثرمن ذلك، مالذي جعلنا نتراجع آنذاك؟ للسؤال أكثر من توضيح، وفي مجمل التوضيحات سنجد خيبات الأمل هي السائدة حيث فعل الحصار فعلته وقتل روح التجريب والمتابعة داخل نفوس كتاب القصة القصيرة عبر كل الأجيال!! مألوف مهشم … وسائد ضائع !! ـيقول ماركيز، وهو واحداً من أمهر كتاب القصة والرواية معا ، ومعلم لأجيال من كتاب القصة في العراق( أن من العيب أن تكتب دون أن تعرف لماذا تكتب، وكيف ، وماهي العلامات التي يمكن أن تضعها في مسار كتاباتك))!! فهل فعل كتاب القصة بعد التغيير هذا، هل وجدوا فعلا أن ثمة ضرورة نفسية للتدوين ، بعد أن وجدوا رياح الحرية تهب( الاحتلال بقدر ما أعطانا من صور للحرية توهما، جعلنا نوقن انه الخلاص الامثل، وهذا واحداً من الأسباب التي أجلت حتى الآن ظهور كتابات مغايرة تعنى بالتجديد البنائي والنفسي معا) لانزال جميعا نشكو، تراجعات نفسية وقيمية كثيرة، والحيرة تلف جوانبنا دون القدرة على الحسم، هل يمكن أن نجدد وكيف ؟ وهل يمكن أن يكون الاحتلال دافعا للتجديد الكتابي، كما في كل الآداب التي مرت بها شعوب مماثلة، آم علينا اعتماد السائدالموروث، والاكتفاء، بنقل الواقع كما هو، أو العودة الى الماضي واجتراره ثانية ، وهذا ما حدث فعلا،عمل كتاب القصة ، الجدد منهم الراسخون في الكتابة ، على طمأنة الواقع ، فتحولوا الى نساخ تخلوا كتاباتهم من عناصر كانت تدعو الى التجديد والحداثة، المشكلة التي واجهة هؤلاء، إنهم جميعا يتحدثون بأصوات عالية عن الحداثة والتجديد وضرورات أيجاد بدائل للقص العراقي لكنهم وحين ولوج عوالم القص ينسون تلك الدعوات، ليقدموا قصصا لاترقى حتى الى ما كانت علية القصة الخمسينية، انزاح القص باتجاه بنائية متكررة خالية من الإدهاش والشد معا، !!خلال السنوات الأخيرة، رحت احاول تقديم نماذج من القصص العراقية كتمثيليات قصيرة ، ومن أجيال مختلفة، فمالذي وجدت؟ أولا معظم كتاب القصة القصيرة لا يعرفون الصراع الدرامي وهم لا يجيدون الحوارات ذات التصاعدية الدرامية ذات الفعل ورد الفعل ، لهذا تبدو هذه الحوارات وكأنها سد لفراغ توضيحي لا يحدث تصاعدية درامية ولايؤثر سلبا حتى وان حذف!! ثانياــ يغرق القاص في الوصف السريع والباهت والذي لا يساعد على تثبيت أسس القص وعلاقات الشخوص بالزمان والمكان وبلغة تقريرية غائمة تماما!! ثالثا ـــ في معظم تلك القصص تضيع سمات القص وبعض من عناصره مثل الزمان والمكان ودون مبررات فنية وفكرية لهذا تجد إن ثمة الكثير من التنقلات غير المدروسة فنيا، ولااريد أن أشير الى الأهم ، وهو غياب المشهدية القصصية، إذ تخلو تلك القصص من الصنعة المشهدية وكأن القصة اختصار ركيك للواقع! رابعاــ يبدو ان القاص العراقي استسهل السرد غير الفني فراح يجول وسط توهيمات من الوصف غير الدقيق وغير الولاضح المعالم وداخل مقاربات ما تلبث ان تنزاح بعيدا عن المقاصد المرجوة منها!! ويدل هذا على امرين مهمين ، هما غياب القدرات التجريبية غيابا تاما والابتعاد عن مجازفات الابتكار، والنسخ البسيط والساذج احيانا لتجا رب قصصية عراقية وعربية ( لقد اصبح محمد خضير النموذج المركز في الاستنساخ وخاصة لدى كتاب القصة البصريين الذين حاولوا التخلص من الهيمنة لكنهم فشلوا، ولتؤكيد ذلك لنتفحص التجارب القصصية لقصي الخفاجي ولؤي حمزة عباس وعبد الكريم الحلاق وجاسم العايف وسواهم من الجيل الذي تبع هؤلاء وحاول السير في ركابهم) من الغريب حقا، ان محمد خضير ، نفسه، صناعة متأثرة بالأخر ولم يستطع طوال تلك الحقبة الزمنية الطويلة نسبيا التخلص والانزياح باتجاه الابتكار، لقد ظل ضمن دوائر الأخر يتلقى ويحلل ثم يشيد ما يجب تشييده بروح بصرية وقص مغاير، ولقد استسهل التابعين تلك اللعبة فراحوا يقلدون الناسخ والمعيد دون اضافات تذكر، والامر ذاته مع كتاب القصة في نينوى الذين وجدوا في محمود جنداري انموذجا يحتذى به لهذا لم تستطع القصة العراقية في كلا المحافظتين ان تقدم قاصا متميزا ولو على سبيل الإشارة لقد استحوذ الستينيين بكامل العابهم على المشهد القصصي العراقي ولا يزال تأثيرهم باقيا مع بعض الاشارات لجيل السبعينيات الذي داهمته الحروب والغربة حتى وصل الى حافة الانقراض، دون ان يسجل تميزا حقيقيا مثل ذاك الذي حققه فرسان الستينيات، والتفحص الدقيق لمرحلة المغيبين وهذا ما حاولوا اشاعته عبر وسائل الإعلام يكتشف ما يلي، ان هذا الجيل، وأنا استخدم لفضة جيل تقليدا اذ ليس ثمة من سمات جيليه تربط بين هؤلاء، وقد تحولت همومهم الابداعية الى هموم سياسية واجتماعية بالدرجة الأساس لا يتوافر في هاتيك النصوص سوى ضبابيات معتمة ، وقد غابت الكثير من اسئلة الكتابة وضروراتها الاستفزازية وابتعدت عن التشكيل الجمالي التي تفتح امام المتلقي بسماتها الدلالية ابواب التأويل، لقد ظلت قصص تلك المرحلة واعتقدها ستبقى هكذا لزمن طويل مجرد بورتريت يعتمد على خامات الواقع دون تنشيط وتحفيز للوصول الى مغايرة تحاور الواقع وتجاوره دون ان تكرره نقلا وقد لعبت السياقات النقلية دورا مهما في رسم معالم تلك التجربة وصيرورتها،!! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الاخر المجدد … الاخر الغريب ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سنوات مرت، بكل ما فيها من الالم وجنون، ثمان غيرت الدنيا بكاملها وحولتها الى مختصر لقرية تسعى ليل نهار من اجل الحصول على كل ماهو جديد، تغيرت خرائط الشعر العالمي، وتقدمت المدارس المسرحية بجديدها الذي قدم مسرحا ذهنيا محفزا، واستطاعت الرواية العالمية ان تقفز خارج دوائر المعقول، لتقدم سردا راقيا مع ثيم فلسفية وإنسانية عظيمة ، وتجاوزت القصة القصيرة كل حدود مؤثراتها السابقه ، ساعية باتجاه قص مغاير، فمالذي فعلناه نحن، في خضم تلك الصور الحالكة الظلمة التي نعيشها يوميا؟ الاشارت تقول ، لاشيء ، لأننا نعتمد النقل من الاخر ، وقد عجزت عقولنا عن الابتكار، لهذا اعلن ، ان ليس ثمة قصة عراقية قصيرة بعد التغيير ، بل هناك منقولات صورية خالية من الفن والإبداع!! 7